التنبّؤ العلمي ومستقبل الإنسان, مراجعة الدكتور: عبد المجيد النجار

مراجعة كتاب:

التنبّؤ العلمي

ومستقبل الإنسان[1]

تأليف الدكتور: عبد المحسن صالح

مراجعة الدكتور: عبد المجيد النجار

 

                     بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

تقديم عام

 

هذا الكتاب عنوانه "التنبّؤ العلمي ومستقبل الإنسان"، وهو من تأليف الدكتور: عبد المحسن صالح، وهو أستاذ جامعي وباحث متخصص في الكائنات الدقيقة، وقد نشر سنة 1984 ضمن سلسلة "عالم المعرفة" التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت تحت عدد 48.

 

وموضوع الكتاب هو التنبؤات العلمية فيما عسى أن يتطوّر إليه العلم في المستقبل في مجال الاكتشافات فيما يتعلّق بتركيب الأجسام الحيّة عموما وجسم الإنسان منها خصوصا، وفي مجال ما قد يكون من تدخّل إنساني في ذلك التركيب بالتغيير الجيني فيه، وما قد ينتج عنه من تغيّرات في طبيعة الأجسام الحيّة وتطوّراتها نتيجة هذا التغيير.

 

ويركّز المؤلّف في بياناته للتنبّؤ العلمي على استشراف النتائج التي قد تنتج من التدخّل الإنساني في تركيب الأجسام الحيّة عبر ما أصبح يعرف بالهندسة الوراثية من حيث ما يمكن أن يؤول إليه تغيير ذلك التركيب من خير للحياة ونموّ فيها أو من فساد فيها ودمار، منبّها إلى فوائد ذالك للحياة عامّة وللإنسان خاصّة وشناعة هذا وهوله على المجرى الطبيعي الذي تجري عليه الحياة.

 

مضى على تأليف هذا الكتاب أكثر من ثلث قرن، وقد شهدت هذه المدّة تطوّرات هائلة في الكشوفات العلمية المتعلّقة بالحياة، وتطوّرات هائلة في الهندسة الوراثية التي ظهرت و طالت الأجسام الحيّة جميعا بالنسبة للنبات وفي شيء من الاحتراز بالنسبة للحيوان وفي شيء من الخفاء والكتمان بالنسبة للإنسان، وربما يكون شيء من التنبؤ الذي ورد في الكتاب قد وقع تحقّقه في الواقع؛ وبالنظر إلى هذا الفارق الزمني فإنّ مراجعة هذا الكتاب ينبغي أن تكون من خلال سياقه الزمني وفي إطار ما انتهى إليه علم الهندسة الوراثية في زمن تأليفه. 

 

أولا ـ عرض محتوى الكتاب

 

تم تقسيم الكتاب إلى تمهيد وستة فصول وفصل ختامي مع ملاحق تتضمّن الأشكال والصور، ولئن كانت هذه الفصول عرضت مستقلةً بعضها عن بعض إلا أنّها من حيث المعنى تنتظم ضمن ثلاثة محاور أساسية يتناول كلّ محور منها جانبا من جوانب التنبّؤ العلمي بمستقبل الإنسان من خلال ما قد يطرأ عليه بفعل التدخّل الإنساني في التركيب الجيني. 

 

المحور الأول: التكاثر بالتهجين الجيني

تناول الفصل الأول شرحا لمعنى التنبؤ العلمي مفرّقا بينه وبين التنبؤات التي عرفها الإنسان قائمة على العرافة والقيافة والتنجيم التي لا تقوم إلا على التخمين وأحيانا على الدجل والخداع، أما التنبؤ العلمي فهو ينطلق من حقائق العلم الكوني ليقرأ ما يمكن أن تتطوّر إليه الكشوفات العلمية والاختراعات البشرية سواء بمقتضى مآلات القوانين الطبيعية أو بمقتضى التدخّل الإنساني في نسق الحياة عبر الهندسة الوراثية وغيرها من أنواع التدخّلات.

 

وعلى سبيل المثال فإنّ العلم يتنبّأ بأنّ الأرض التي نعيش عليها سيأتي عليها يومٌ وإن يكن بعيدا تبطئ فيه حركة دورانها فيصبح نهارها آنذاك أطول من نهارها اليوم بكثير وذلك انطلاقا من حقيقة أنّ الأرض تتسلّط عليها عوامل طبيعية تتسبّب في بطء حركتها، وانطلاقا من حقيقة الابتراد التدريجي لحرارة الكون وهو الأمر المعلوم اليوم من حقائق العلم. وفي التنبؤ بتكاثر الأجسام الحية يضرب الباحث مثلا بنبوءة أن يصبح تكاثر الأنواع الحيوانية عبر تكاثر الخلايا الجسدية بالتدخّل الإنساني بدل التكاثر بالخلايا الجنسية كما هو في سيرورة الطبيعة. وإذا كان التنبّؤ الأول بعيد المآل فإنّ التنبّؤ الثاني تحقق في الواقع بعد كتابة هذا البحث بسنوات قليلة متمثلا في النعجة دوللي الشهيرة.

 

وفي الفصل الثاني يركّز البحث على واحدة من التنبؤات العلمية الأكثر خطورة على مستقبل الإنسان، وهي المتعلّقة بتكاثر الأنواع الحية من الخلايا الجسدية بما يدخل عليها الإنسان من تهجين جيني بدلاً من أن يتمّ التكاثر بالطريق الطبيعي وهو طريق التكاثر بالخلايا الجنسية. ويبيّن الباحث أنّ هذا النوع من التكاثر أمر ممكن في الواقع، بل إنّ بعض الأحياء من الكائنات الدقيقة تتكاثر على هذا النحو فعلا، وفيما يتعلّق بالنبات فإنّ التدخّل الإنساني في جينات بعض الأنواع النباتية بالتهجين قد أدّى إلى تكاثرها من خلاياها الجسدية بل قد أدّى ذلك إلى ظهور أنواع جديدة غير معروفة في الطبيعة جرّاء هذا التدخّل الإنساني.

 

ثم ينتقل البحث إلى طرح السؤال التنبؤي في هذا المجال إذا ما أُدخل التكاثر الجسدي في مجال الإنسان، وأصبح من الممكن أن يتكاثر شخص ما بطريق خلية من خلاياه العادية لا بطريق خلاياه المنوية، فتنتج إذاً نسخ لا حدّ لها من الشخص الواحد تكاد تكون متطابقة تمام التطابق، ويترتّب على ذلك السؤال أسئلة على غاية من الخطورة على المستقبل الإنساني بأكمله انطلاقا في كلّ ذلك من التنبّؤ العلمي بإمكانية أيلولة الأمر إلى هذا المصير.

 

المحور الثاني: التنبؤ بتغيّر الكائنات الطبيعية

يتناول الباحث في هذا المحور من خلال فصلين، التنبّؤ بما قد يؤول إليه التدخّل الإنساني في النظام الجيني للأجسام الحية عامّة وجسم الإنسان خاصّة من تغيير في بنية الحياة على وجه الأرض، فيتناول في الفصل الثالث الاحتمال العلمي بأن "يصنع" إنسان كلوروفيلي يتغذى مثل النبات بطريقة التمثيل الضوئي الذي لا يحتاج فيه إلى طعام ولا شراب على الطريقة المعهودة، فيصبح إذاً كائنا أخضر اللون وتتغيّر بالتالي كلّ أوضاع الحياة الإنسانة، بل يمكن أن يصبح هذا الإنسان متكاثرا بطريق الاستنساخ من خلية من خلاياه. وللتدليل على إمكان هذا التنبؤ العلمي يأتي الباحث بشواهد من حيوانات دقيقة تراوح في حياتها بين مرحلة التمثيل الضوئي فتكون كائنات نباتية وبين مرحلة الحيوانية العادية فتكون حيوانات عادية، فلم لا يمكن إذاً أن يصبح الإنسان في فترة ما من المستقبل كائنا أخضر بالتدخّل الإنساني في برنامجه الجيني؟

ومن هذا المثال في التغيّر الخلقي للإنسان يعمّم الباحث إمكان هذا التغيّر الخلقي على سائر الكائنات بل على نظام الحياة بأكمله، وذلك بشرح مستفيض لما خلق عليه كلّ كائن من الكائنات من برنامج جيني يجعله يتطوّر ويتكاثر وفق ذلك البرنامج المرسوم المسجّل على أشرطته الجينية، ثمّ ببيان ما يمكن أن يقوم به الإنسان من تدخّل في ذلك البرنامج الجيني بالزيادة أو النقصان أو التهجين، وما ينتج عن ذلك من تغيير جوهري على طبيعة الأنواع الحيّة. ويشير الباحث بين الحين والآخر إلى ما يمكن أن تؤدّي إليه هذه التغييرات من أخطار جسيمة على الإنسان بل على الحياة بأكملها، كما يشير أيضا إلى ما يمكن أن يثمره هذا التدخّل الإنساني في المجال الجيني من محاسن للإنسان مثل تفادي بعض الأمراض الوراثية، وتحسين بعض السلالات النباتية والحيوانية.

 

المحور الثالث: التنبؤ بالمصير المستقبلي للحياة جراء التدخل الإنساني  

يعقد الباحث في هذا المحور فصلين يتناول فيهما ما يمكن أن يتمخّض عليه التدخّل الإنساني في البرنامج الجيني للخلايا الحية من مخلوقات  جديدة، وما يكون لذلك من أثر على الحياة المعهودة الآن على وجه الأرض.

فبما أنّ العلم قد تقدّم في معرفة الجينات التي تحملها الكروموزومات وما تحمله تلك الجينات من مهامّ التوريث للخصائص والصفات وإن يكن ذلك التقدّم محدودا إلى الآن فإنّه أصبح بالإمكان أن يتدخّل الإنسان في برمجة جديدة لتلك الجينات بالتغيير فيها أو بجمع تهجيني لم يكن معهودا في الطبيعة، ومن ذلك قد تنشأ مخلوقات جديدة من النبات والحيوان والإنسان، بل قد تنشأ مخلوقات يصعب تصنيفها باعتبار ما هو معهود على وجه الأرض لمخالفتها لهذه الأنواع الثلاثة. إنّ هذا الافتراض العلمي وإن كانت قد تحقّقت منه بدايات بسيطة جدا في النبات وفي بعض الموجودات الدقيقة من الحيوان إلاّ أنّ تحقّق أقدار منه في الأصناف العليا من الحيوان وناهيك بذلك في الإنسان فهو أمر بعيد المنال للتعقيد الجيني لهذه الأنواع، غير أنّ الاحتمال العلمي لذلك يبقى قائما والتنبّؤ العلمي فيه يبقى أمرا مشروعا.

وبناء على هذه الاحتمالات العلمية وعلى ما تحقّق منها في المخابر وإن يكن على مستوى محدود جدا بالنسبة لما قد يتطور إليه الأمر، فقد عقد الباحث فصلا لبيان ما قد ينتج عن هذه "الصناعة" الخلقية لكائنات حية جديدة على وجه الأرض، وجعل يبيّن ما قد تفضي إليه هذه الصناعة من صلاح أو فساد، فيضرب مثلا على مزايا هذا التدخّل الإنساني في المخلوقات بما توصّل إليه العلماء من إنتاج للأنسلين بنقل جينة بشرية إلى أنواع من الميكروبات وما كان لذلك من فائدة عظيمة في علاج مرضى السكري، ولكنّه في ذات الوقت يضع تصوّرات لما قد تنتهي إليه بعض التجارب في التهجين الجيني من انفلات في نمط التخليق يخرج عن سيطرة الإنسان، فإذا كان وجه الأرض مثلا يغرق في طبقات وراء طبقات بأنواع من الكائنات الدقيقة "المخترعة" والمتكاثرة تكاثرا فلكيا في لحظات معدودة، فقد تكون في ذلك نهاية الحياة بأكملها.

وفي هذا الصدد، ينقل الباحث جدلا علميا وأخلاقيا محتدما بين العلماء والمفكرين والساسة، تم عقد مؤتمرات عديدة له وتناول البحث فيها مخاطر هذا التدخّل الجيني للإنسان في الكائنات الحية وما قد ينتهي إليه من آثار مرعبة على مصير الإنسان بل على مصير الحياة بأكملها، وهو الأمر الذي أدّى بأحد العلماء إلى القول وقد "اخترع" كائنا جديدا بالتدخّل الجيني: "وبدون أن أتحقّق تجريبيا من ثبوت هذه الظنون قمت بتدمير هذا الكائن الجديد الذي بدأ ينقسم ويتكاثر حتى لا أتحمّل وزرا غير محمود العواقب"[2].     

 

ثانيا ـ تقييم عامّ للكتاب

 

1 ـ الكتاب في إطاره الزمني 

أُلّف هذا الكتاب قبل أكثر من ثلث قرن، وهو زمن طويل بالنظر للتسارع الذي تتطوّر فيه البحوث العلمية بصفة عامّة والبحوث الجينية بصفة خاصّة، وحينما أُنجز هذا البحث لم يكن قد مرّ على البحوث الجينية سوى بضع سنوات، فكانت المعلومات في هذا الصدد محدودة جدا، ولنا أن نتصوّر الكمّ الهائل من المعلومات والاكتشافات في المجال الجيني التي حدثت خلال ثلث هذا القرن؛ لذلك فإنّ أكثر ما جاء في هذا الكتاب كان مبنيا على الافتراضات المؤسّسة على ما قد وقع اكتشافه حينئذ في المجال الجيني، وهو ما يبرّر عنوان الكتاب الذي هو "التنبؤ العلمي ومستقبل الإنسان"، ولو كان هذا الكتاب قد أُلّف بعد الزمن الذي أُلّف فيه بسنوات وشهد صاحبه على سبيل المثال  "تخليق" النعجة دوللي لكان محتواه قد تغيّر تغيّرا جذريا؛ ولذلك فإنّ التقييم العامّ للكتاب ينبغي أن يكون انطلاقا من وضعه في الحيّز الزمني العلمي الذي أُلّف فيه.

وانطلاقا من هذا الاعتبار فإنّ المعلومات التي وردت في هذا الكتاب وإن كانت في عيون المختصين في المجال الجيني أو المتابعين له تبدو بسيطة وبدائية إلا أنها في زمن التأليف وربما حتى إلى اليوم بالنسبة للمثقفين العاديين تبدو مهمّة جدا، وهي وإن لم تكن فيها إضافة تذكر للمختصين والمتابعين زمن صدورها إلا أنها بالنسبة للمثقفين العاديين تبدو عظيمة الفائدة في زمنها بل وفي زمننا أيضا، وذلك لخصال اتّصف بها البحث نوردها تاليا.

 

2 ـ البناء المنهجي للكتاب 

المنهج الذي بُني عليه الكتاب مترابط ومنطقي في مضمونه، فقد ابتدأ هذا المضمون بشرح التنبؤ العلمي، ثم مرّ إلى مظاهر من هذا التنبؤ العلمي بناء على الهندسة الوراثية التي تمثّل التدخّل الإنساني في النظام الجيني للحياة، ثمّ انتهى إلى المآلات التي قد ينتهي إليها هذا التدخّل الإنساني في النظام الجيني من "تخليق" أنواع جديدة من الأحياء، وما قد تنتهي إليه تلك الأنواع على مستقبل الحياة عامّة ومستقبل الإنسان بصفة خاصّة.

غير أنّ هذه المنهجية المنطقية في ترابط المضمون لم تظهر في عناوين الفصول التي بُني عليها الكتاب، فقد صيغت هذه العناوين بصياغة لا تعكس ذلك الترابط المنهجي، بل صيغت أحيانا بصياغة غير علمية من مثل ما صيغ به عنوان أحد الفصول بــ "إنهم يغيّرون في طبيعة المخلوقات"، وعلى هذا النحو من الافتقار إلى الدقّة في عناوين الفصول جاءت العناوين الفرعية داخل كلّ فصل، فقد جاءت عناوين مرسلة غير مترابطة فيما بينها ولا مرتبطة بالعنوان الأصلي للفصل، ولا شكّ أن هذا الاضطراب في العناوين يؤثّر سلبا على القارئ من حيث تسلسل الأفكار ومن حيث الاستيعاب الجيّد للمضمون العلمي الوارد في الكتاب. 

 

  3ـ الأسلوب في الكتاب

يتّجه هذا الكتاب بالخطاب إلى عامّة المثقفين ممن ليس لهم اطّلاع معمّق في موضوع الجينات والتدخّل الإنساني فيها؛ ولذلك فقد جاء الأسلوب فيه أسلوبا واضحا ميسور الفهم  بما يقدّم من حقائق أو تنبّؤات مشروحة شرحا بسيطا خاليا من التعقيدات والجزئيات التفصيلية إلا في القليل النادر، فيخرج القارئ بصورة واضحة عن أيّ موضوع يطرحه المؤلف في أيّ فصل من فصوله، وتحصل إذاً الفائدة المرجوّة من الكتاب.

ومن خصائص الأسلوب في هذا الكتاب أنّه وإن يكن موضوعه علميا فإنّ المسحة الأدبية ظاهرة فيه، فاللغة التي كتب بها كانت لغة عربية جميلة راقية، ومما زاد عنصر التشويق فيها ضرب الأمثال لما يتوقّع الكاتب أنّ فيه شيئا من عسر الفهم فإذا بغوامض المسائل الدقيقة تصبح واضحة بتلك الأمثلة. ومما زاد في جمال الأسلوب ما وُشّح به في العديد من المواضع من آي الذكر الحكيم بطريقة تشعر القارئ بأنه يستمرّ في نفس السياق العلمي لحسن اختيار الآيات التي تناسب المقام وهي في الأكثر تلك الآيات التي تحمل في مضمونها بعدا علميا من آيات الكون في الأنفس والآفاق.  

 

4 ـ ملاحظات نقدية للكتاب 

بالرغم من المزايا الكثيرة التي يشتمل عليها هذا الكتاب وضوحا في العرض وجمالا في الأسلوب والتزاما في السمت الأخلاقي فإنّ القارئ يتوقّف عند بعض المحطّات منه، ليلاحظ بعض الملاحظات يتعلّق بعضها بالموقف العام للكاتب من الهندسة الوراثية ومآلاتها في التغيير الخلقي للحياة، ويتعلّق بعضها الآخر بأفكار جزئية تقع في مرمى المناقشة النقدية.

 

أ ـ موقف الكاتب من التدخّل في النظام الجيني

لا يُنتظر من الكاتب وهو المتخصّص في الكائنات الدقيقة إلا أن يكون متحمّسا للكشوفات العلمية في مجال الحياة وفي المجال الجيني منها بصفة خاصّة، وتلك هي السمة العامّة التي تسري في كلّ فصول الكتاب بادية في الانبهار بما يتوصّل إليه العلماء من نتائج في بحوثهم الجينية، بل والانبهار أحيانا بما يتوصّلون إليه في تدخّلاتهم في النظام الجيني لبعض الكائنات الحيّة، وهو ينحاز بصفة غير مباشرة لذلك الشقّ من العلماء الذين يرفضون التدخّل في حرّية البحث العلمي بصفة مطلقة في تدافعهم مع أولئك الذين يرون تقييد هذه الحرية بمنع ما عسى أن تنتهي إليه تجارب التغيير الجيني من كوارث على الحياة بأكملها.

وإذا كان الكاتب يتعرّض أحيانا إلى ما قد تنتهي إليه تدخّلات العلماء في النظام الجيني للكائنات الحية من كوارث فإنّه لا يقف عند ذلك بالتحليل كثيرا، ويكتفي بعبارات قليلة تشير إلى الأخطار التي قد تترتّب على التدخّل الإنساني في النظام الجيني مبقيا ذلك في نطاق الافتراض المستقبلي الذي يقترب من أن يكون خيالا مستعصيا على التحقّق الفعلي، وفي هذا الموقف من الكاتب قصور في بيان ما قد ينتهي إليه التدخّل الإنساني في النظام الجيني بالتهجين أو بالزيادة أو بالنقصان إلى منتهاه من الأخطار الحقيقية التي تصيب نظام الحياة عامّة وحياة الإنسان بصفة خاصّة.

وفي نطاق هذا السمت العامّ للكاتب في الميل إلى تزكية التدخّل الإنساني في النظام الجيني، نراه أحيانا يبرز ما يراه مفيدا من هذا التدخّل ويخفي ما يراه ضارّا منه مبرّرا ذلك بعذر هو أقبح من ذنب إذ يقول: "ماذا يفيد البشرية من بشر يأتون بذيول أو نساء يأتين بصدور شامخة ... أضف إلى ذلك أنّ طرح هذه الأمور على الناس بتلك الصورة المثيرة قد يحملهم على نظرة معادية للعلم والعلماء وهذا ما تجنبناه نحن في هذا الكتاب"[3]، إذن فهو إخفاء لما قد ينتهي إليه التدخّل الإنساني في النظام الجيني من مضارّ حتى لا يعادي الناس مثل هذه البحوث العلمية، وذلك لا محالة مجاف للموضوعية العلمية وللنزاهة الأخلاقية.  

 

ب ـ الغفلة عن عواقب التغيير الجيني

كثيرا ما نجد الكاتب يطرب لنتيجة من نتائج البحوث العلمية المتعلّقة بالتغيير الجيني وينتشي بتلك النتائج باعتبارها ثمرات للبحث العلمي، وربّما يذكر فيها من الفوائد لحياة الإنسان ما يعزّز ذلك الطرب ويؤجّج تلك النشوة، ولكنّه يغفل عن جوانب أخرى قد تترتّب على تلك النتائج العلمية ويكون فيها دمار للحياة الإنسانية في جانبها المادّي وخاصّة في الجوانب المعنوية منها، فإنه إذاً احتفال بالظواهر وغفلة عن الآثار والعواقب.

ومن ذلك مثلا ما جاء في حديثه عن إمكان التغيير الجيني في الخلية الإنسانية لينتج عنه الإنسان الكلوروفيلي الأخضر الذي يصبح غذاؤه ذاتيا مثل النبات ويستغني عن التغذية بالمواد العضوية الخارجة عنه، فقد قال في ذلك: "إنّ حاجة العالم المتزايدة إلى الطعام قد تدفع العلماء دفعا إلى توليفة جديدة تتمخّض عن إنسان أخضر، وإذا توصّل العلماء إلى هذا الهدف فسوف يكون ذلك أعظم إنجازات البشرية على الإطلاق؛ لأن الإنسان الأخضر سوف يصبح مخلوقا ذاتي التغذية"[4]، لم ير الكاتب في هذا الإنسان الأخضر إلا حلاّ لمشكلة الغذاء، ولكنّ مصير هذا الإنسان فيما إذا كان سيبقى إنسانا ببقاء هويته الإنسانية ظلّ محجوبا عن الكاتب بمكسب صغير وهو حلّ مشكلة الغذاء، وفي ذلك غفلة عن المآلات والعواقب الكبرى التي ينتهي إليها التغيير الجيني للحياة.

 

ج ـ البعد الأخلاقي والديني في التغيير الجيني

يشير الكاتب أحيانا إلى الأبعاد الأخلاقية للتدخّل الإنساني في النظام الجيني، كما أنّه يزيّن أقواله في بعض مواضع من الكتاب بآيات من القرآن الكريم في معرض التبرير للتنبؤات العلمية التي يوردها[5] ، ولكنه يقف عند ذلك الحدّ ولا يثير بعمق المشكلة الأخلاقية والدينية لهذا التدخّل الجيني، والحال أنها مشكلة حقيقية لا مبرّر للغفلة عنها في زحمة الحماس للنتائج العلمية التي يتمخّض عنها البحث الجيني في المخابر، وإذ يبدو أنّ الكاتب من المؤمنين بالله ووحدانية خلقه كما جاء في قوله تعقيبا على ملاحظته لوحدة التكوين الجيني للمخلوقات: "...وهذا أعظم دليل على وحدة الخلق وهو أعظم دليل أيضا على وحدة الفكرة ووحدانية الخالق"[6] ، إلا أنه لا يمضي بهذا الإيمان إلى مقتضياته الأخلاقية والدينية بل يسترسل مع حماسه للكشوفات العلمية فيما يشبه التبرير لكلّ منتهياتها المخبرية.

بمنطق الإيمان، فإنّ الله تعالى هو الذي يدبّر خلق هذا العالم وما فيه بتقدير دقيق: "إنّا كلّ شيء خلقناه بقدر" (القمر/49)، وبمنطق الطبيعة فإنّ هذه الطبيعة قد رتّبت أمور الموجودات الكونية وما ركّبت عليه الحياة من نظام جيني عبر بضع آلاف من ملايين السنين حتى استوى الكون عامّة والموجودات الحيّة خاصّة على هذا النظام الذي هي عليه، فبأيّ حقّ أخلاقي أو ديني يأتي الإنسان ليتدخّل في هذا النظام الطبيعي البديع ليُحدث في نظام الحياة إرباكا قد ينتهي إلى انهيار هذا النظام إذ قد تتفلت بعض تجاربه عن السيطرة لينشأ منها نمط من الأحياء يدمّر كلّ شيء، إنّ هذ التدخّل الإنساني في النظام الجيني كأنما هو احتجاج على خلق الله وعلى تدبير الطبيعة، وهو يدخل في نطاق الإفساد في الأرض فينضمّ إذاً إلى الإفساد في الأرض بالتغيير في الموازين البيئية وما نتج عنه مما أصبح يعرف بالأزمة البيئية. إنّ هذا البعد الأخلاقي والديني لم يأخذ حظّه في هذا الكتاب والحال أنّ المنطلق الإيماني للكاتب يقتضي ذلك. 

 

د ـ خلاصة تقييمية

يعرض المؤلّف في هذا الكتاب بدايات التجارب الإنسانية في الهندسة الوراثية، فعلى عهده لم يكن قد مرّ على هذه التجارب وخاصّة منها ما يتعلّق بالحيوان والإنسان سوى بضع سنوات، ولكنّها كانت بدايات مثيرة جدا لنوعيتها غير المعهودة متمثّلة في الكشوفات الجينية وفي إمكانية التدخّل الإنساني في النظام الجيني الذي بنيت عليه الحياة.

وبحكم التكوين العلمي للكاتب في الكائنات الدقيقة وهو ذو صلة وطيدة بموضوع الكتاب، وبحكم ما يبدو أيضا من المنطلق الإيماني للكاتب فإنّ القارئ لهذا الكتاب يلحظ بسهولة شيئا من الصراع في نفسية كاتبه بين تكوين علمي يسترسل به في الحماس للتجارب في المجال الجيني فيعبّر عن إعجابه بالنتائج التي تنتهي إليها ويبسط التفاؤل بما قد تنتهي إليه من تحقيق الخير للإنسان، وبين تكوين ديني وأخلاقي يجعله يتوجّس من إمكانية انفلات هذه التجارب لتنتهي إلى مآلات قد تأتي على الحياة كلّها بالوبال.

ماذا لو أعاد هذا الكاتب تأليف الكتاب الآن (إن كان على قيد الحياة) وقد قطعت البحوث الجينية ما يقارب النصف قرن، وتوصّلت من النتائج إلى أضعاف ما توصّلت إليه على عهد تأليف الكتاب، وأثمرت هذه التجارب "تصنيع" النعجة دوللي بالتدخّل الإنساني في النظام الجيني بما انتهت إليه من الدروس العلمية، فهل سيغيّر الكاتب من آرائه، وهل سينحسم الصراع في نفسه بين تكوينه العلمي وتكوينه الأخلاقي الديني لفائدة هذا أو ذاك؟ فإننا بلا شكّ سنجد كتابا في هذا الموضوع أنضج من هذا الكتاب وأوضح مع ما يتّصف به هذا الكتاب من وضوح في العرض وقوّة في الأسلوب وما يثمره في المثقّف العادي من وعي علمي بالنظام الجيني ومحاولات الإنسان التدخّل فيه.

 

ثالثا ـ علاقة الكتاب بمشروع البحث

 

إنّ مشروع البحث الذي تندرج هذه المراجعة ضمن فعالياته، يهدف إلى توطين علم الجينوم في الخليج العربي خاصّة والوطن العربي عامّة بأخلاق طبية تنسجم مع التوجيهات الإسلامية، فيكون إذاً علما خاليا مما عسى أن يكون فيه من ممارسات في النظام الجيني تتعارض مع التعاليم الإسلامية في ذاتها أو في آثارها ومآلاتها، فهذا العلم نشأ في بيئة ثقافية غربية تبيح أحيانا ما لا يبيحه الإسلام من الممارسات المتعلّقة بالكيان الإنساني بل وبالكيان النباتي والحيواني.

وبما أنّ هذا الكتاب يتعرّض بالوصف وبالتنبّؤ العلمي للنظام الجيني في النبات والحيوان والإنسان، ويتعرّض للتدخّل الإنساني في النظام الجيني لهذه الأنواع بالتغيير في المورّثات زيادة ونقصا وبالتهجين بينها بخلط جينات نوع منها مع جينات من نوع آخر، فإنه يصبح كتابا ذا صلة وطيدة بمشروع البحث في الجينوم في أبعاده الأخلاقية والدينية الذي يندرج عرضه وتحليله ونقده ضمن عناصره، ومهما يكن من موقف الكاتب المتراوح بين الحماس للبحوث الجينية والحذر منها فإنّ كثيرا من الإشكالات التي وردت في البحث هي ذاتها الإشكالات التي يسعى مشروع البحث إلى تداولها واتخاذ مواقف علمية وأخلاقية ودينية منها.

 

1 ـ مسائل مشتركة بين الكتاب والمشروع

ما تناوله الكتاب بالوصف لتجارب العلماء في المجال الجيني وما تنبّأ به من صيرورة مستقبلية لنتائج هذه التجارب وما أثاره من تساؤلات في هذا الوصف وذلك الاستشراف المستقبلي يلتقي مع اهتمامات مشروع البحث في نقاط عدّة لعلّ من أهمّها:

أ ـ التدخّل الإنساني في النظام الجيني للنبات والحيوان

ب ـ التدخّل الإنساني في النظام الجيني للإنسان

ج ـ المحاذير البيئية للتدخّل الإنساني في النظام الجيني للحياة

د ـ المحاذير الأخلاقية والدينية للتدخّل الإنساني في النظام الجيني للإنسان

 

2 ـ  إشكالات وتساؤلات يثيرها الكتاب 

إنّ علاقة ما هو مطروح في هذا البحث بالتعاليم الإسلامية يثير العديد من الإشكاليات والتساؤلات التي تتطلب جوابا شرعيا حتى يكون العلم الجيني علما متصفا بالأخلاق الطبية الإسلامية. ومن أهمّ تلك الإشكالات والتساؤلات ما يلي:

ـ إذا كان التدخّل الإنساني في النظام الجيني للنبات والحيوان يُدّعى أنّه قد يسفر عن خير للإنسان بما يحصل من تحسين في سلالات أنواع النبات والحيوان، فما الذي يمنع من أنّ التدخّل في أنواع النبات والحيوان بالزيادة والنقصان والتغيير في الأجناس سينتهي إلى إدخال اضطراب في التوازن البيئي الذي قُدّرت فيه الأنواع بحكمة إلهية خلقت كلّ شيء فقدّرته تقديرا كما هو عند المؤمنين، والذي صنعته الطبيعة عبر مليارات من السنوات حتى انتهى إلى هذا النظام الكوني البديع؟

ـ إنّ نظام الحياة الحالي على وجه الأرض بني على نمط في الغذاء مقسّم بدقّة بين النبات والحيوان والإنسان، ولهذا النمط الغذائي مدخل في الحفاظ على التنويع البيئي، فإذا ما تغيّر هذا النمط الغذائي كأن يصبح الإنسان كلوروفيليا أو يصبح الحيوان كلّه نباتيا أو كلّه "لحميا"، فإنّ هذا التغيير في النمط الغذائي سيكون له الأثر البالغ في التنويع البيئي وستتغيّر بسببه طبائع الموجودات الحالية بما فيها الإنسان، وهو ما سيتبعه من تغيّر في شخصية الحيوان والإنسان على وجه الخصوص، ونصبح إذاً بإزاء عالم آخر مخالف للعالم الراهن، وحينئذ ما هو مصير النظام الإنساني الاجتماعي والأخلاقي والديني؟

ـ باسم الحرية البحثية العلمية المطلقة، ما الذي يمنع من أن يفلت مصنوع من المصنوعات الجينية من قبضة العلماء ويخرج عن السيطرة فينتهي إلى "مخلوق" يتكاثر بصفة فلكية فيغرق الأرض ومن عليها ويكون في ذلك دمار للحياة بأكملها؟

ـ التدخّل الإنساني في النظام الجيني للإنسان قد ينتهي إلى كائن يختلف عن الكائن الإنساني المعهود في طبيعته وفي إمكانياته وقواه، وفي علاقاته الأسرية والاجتماعية، وحينئذ كيف سيكون حال المسؤولية الأخلاقية والدينية التي كُلّف بها الإنسان على اعتبار طبيعته الحالية بما هي عليه من ضعف وقوّة، والحال أن الإنسان الجديد سيكون مختلفا في هذه الطبيعة عن الإنسان الحالي، إنه إذاً هدم للنظام الأخلاقي والديني وللنظام الأسري والاجتماعي الجاري به العمل في الحياة الإنسانية الراهنة؟

أسئلة عديدة من هذا القبيل يطرحها قارئ هذا البحث من خلال الهدف الذي يطرحه مشروع توطين علم الجينوم في الخليج العربي بأخلاق طبية إسلامية، وهي تساؤلات أُثير بعضها في الدوائر الشرعية مثل المجامع الفقهية العالمية، وجاءت فيها فتاوى محددة، وهي فتاوى ذات طابع جزئي في الغالب ولا تتعرّض للأسئلة الكبرى المتعلقة بالمصير البيئي والإنساني جراء تدخّل الإنسان في النظام الجيني للمكوّنات البيئية الحيّة، وهو ما يستلزم فيما نقدّر التوجّه إليه بالنظر الشرعي العميق من أجل تحديد الرأي فيه.

في هذا الكتاب طرح لبعض هذه الأسئلة ولكنّه طرح في سياق التفاؤل المفرط أحيانا، وفي سياق الثقة شبه المطلقة بالبحث العلمي والحماس المفرط له. ومن الواجب في نطاق هذا المشروع البحثي الخليجي أن تطرح هذه الأسئلة وما هو في حكمها بصورة جدية وعميقة ليقع الانتهاء فيها إلى جواب يفرّق في وضوح بين التجارب العلمية الجينية التي تنفع الإنسان وبين تلك التي لا يقودها إلّا حبّ الاكتشاف ولا تبالي بالمحاذير والمخاطر التي قد ينتهي إليها البحث العلمي المنفلت من القيود الأخلاقية والدينية، وهذه هي في تقديرنا الغاية من هذا المشروع البحثي الرائد.

 

[تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي “توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)” بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث.]

 

 

 


[1]تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث.

 عبد المحسن صالح ـ التنبؤ العلمي: 177[2]

 نفس المرجع: 230 ـ 231[3]

 نفس المرجع:114[4]

 راجع مثلا ما جاء في صفحة 62[5]

 نفس المرجع: 138[6]

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.