
الكلمة الختامية للمؤتمر السنوي الدولي السادس لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
كان من عادة الدكتور طارق رمضان إلقاء الكلمة الختامية في كل مؤتمر سنوي دولي للمركز، وكان يبدأ دائما بالشكر والثناء على كل من ساهم في إنجاح المؤتمر، من المحاضرين إلى المترجمين إلى المتطوعين، إلى أعضاء رابطة خرجي المركز إلى الفريق الفني، إلى سائر موظفي مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق وكلية الدراسات الإسلامية. ونحن نثنّي على ذلك ونشكر الجميع على جهودهم الطيبة. إلا أنه ليس بوسعنا تعويض الدكتور طارق، وليس بوسع أحدٍ منا فيما نحسب، ولذلك فإنني لن أتكلف ذلك اليوم.
وموضوع مؤتمرنا الدولي هذا العام "الخطاب الديني في الفضاء العام" موضوع لصيق بشخص الدكتور طارق وما يرمز إليه، وبالخصوص لدى الجاليات المسلمة في الغرب. فإن الدكتور طارق رمضان هو أول صوتٍ جسد دور الإسلام في النقاشات العامة في الغرب وفي فرنسا على وجه الخصوص. وإن وجد قبله بعض الدعاة والمفكرين المسلمين في الساحة العامة الأوروبية، إلا أن طارق رمضان لم يكن صوتا إسلاميا بالمعنى الضيق، بل كان يُسمع وجهةَ نظرٍ إسلامية في كل ما يكاد يُطرحُ من نقاشات عامة. وكان يدعو الجاليات المسلمة إلى الخروج من التقوقع الفكري والاجتماعي، وإلى الحضور في كل الميادين والمشاركة في النقاشات العامة في شتى القضايا، من القضايا الاجتماعية إلى الاقتصاد والمجاعة في العالم، إلى البيئة وحقوق الحيوان، إلى الحرب والتهجير، إلى قضايا المرأة والرجل، إلى الجماليات والتعبير الفني وغير ذلك. وعلى تلك الخلفية تم إنشاء مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بمختلف مجالاته البحثية.
والدكتور طارق رمضان كذلك من رواد التأسيس والتنظير للوجود الإسلامي في الغرب، حيث كتب مؤلفات عديدة لطرح قضية التعددية، مبينا إمكانية انسجام الأقليات المسلمة في الدول العلمانية ومشخصا الأدوار الإيجابية التي يمكن أن يساهم بها المسلمون في المجتمعات الغربية. واعتبر أن التعددية الحقيقية لا تقتضي فرض القيم والمفاهيم على الآخر، بل هي التي تسمح لكل ثقافة ببلورة تفكيرها الخاص حول القيم المشتركة، كقيم حقوق الإنسان، وحول المفاهيم العامة، مثل مفهوم الحداثة كعملية تاريخية. ويرى أن دور التصدي لهيمنة الحداثة الأيديولوجية، أي الحداثية، يرجع إلى القاعدة الشعبية ومنظمات المجتمع المدني من خلال المساهمة في الخطاب العام. ولم يكن الدكتور طارق رمضان يعتبر الدين عامل خصوصية وانعزال، بل يرى أن الدين إرث إنساني كوني يكرس العدل الاجتماعي والأخلاق، ومصدر إلهام للمسلمين في نقاش القيم والمبادئ، يدفعهم إلى والإسهام في مختلف ميادين الحياة من أجل تحقيق عيش مشترك.
وكان من المهام التي أخذها الدكتور طارق على عاتقه المساهمة في تحديد مكانة الإسلام في المجتمعات الحديثة، ومنها المجتمعات الغربية. ولم يكن يطالب في تلك المجتمعات بامتيازات خاصة بالمسلمين أو بتعديل الدساتير والقوانين، بل لم يكن يرى في أغلبها تعارضا مع مبادئ الإسلام. ولم يكن يطالب بإعادة المنظر في مبدأ العلمانية. إنما يطالب بالعدالة الاجتماعية وتطبيق مبدأ العلمانية بمعناه الأصيل، الذي هو حيادية الدولة بالنسبة إلى المعتقدات الدينية لمواطنيها، وعدم تدخلها في الشأن الديني، ولا يعني منع الدين من الدخول إلى الفضاء العام. ثم يرى أن مواطنة المسلمين في المجتمعات التعددية ومشاركتهم الفعالة في قضاياها لا تتحقق إلا من خلال تصالح المسلمين مع ذواتهم وذاكرتهم وعدم تجاهل هويّتِهم، لأن ذلك شرطَ التصالح مع الآخر. ولا تتحقق المواطنة من خلال الذوبان والتخلي عن الهوية.
إن هذا الخطاب مما أحيا في جيل من الشباب المسلم في ديار الغرب الإيمان بإمكانية ازدهار المسلمين في المجتمعات التعددية دون إخفاء هويتهم الدينية أو التخلي عن مبادئهم. وقد جسد طارق رمضان في شخصه نموذج المتدين الذي يجهر بالانتماء إلى الإسلام وتطبيق مبادئه، مع الانفتاح على المجتمع والنجاح في حياة مهنية دولية. وينظر إليه كثير من الشباب على أنه أسوة تحتذى، يدافع عن شرف المسلمين بسلوكه المثالي وبتعبيره البليغ عن حقيقة الإسلام. ويرمز كذلك بالنسبة إلى كثير منهم إلى نموذج المسلم المتعدد الهويات المتحرر من الاستعمار بشتى ألوانه. ومن خلاله آمن كثير من المسلمين بشرعية الهوية الإسلامية وإمكانية خروجها إلى الفضاء العام بعد أن كانت محصورة على هوامش المجتمع.
إلا أن بعض الاتجاهات العلمانية المتطرفة، في فرنسا على وجه الخصوص، ترفض رفضا باتا أيَّ وجود للدين في الفضاء العام، وبالتالي رأوا منذ البداية في طارق رمضان خطرا يجب التصدي له، فحاولوا الاطاحة به بشتى الأساليب. ونحسب أن الدكتور طارق يدفع اليوم ثمن ذلك الدور الذي لعبه، وذلك الإيمان الذي أحياه في قلوب الشباب. وهو ما تشهد عليه المعاملة التي عومل بها، حيث أنه سجن في جناح خاص تحت المراقبة الشديدة، قريبا من أحد أشهر الإرهابيين في أوروبا، ومنع من الحقوق الأساسية، فلم يسمح له بالتكلم مع أهله لشهر ونصف، ولم يعترف بمرضه ولم يتح له العلاج المناسب، وكل ذلك مع تهافت الادعاءات ضده وانعدام الأدلة المادية.
والحملة الإعلامية ضد الدكتور طارق التي أدانته قبل المحاكمة، وخاضت في محاكمة أفكاره ونسبه وحياته وطعنت في شخصه وشككت في مناصبه وشهاداته العلمية، وسفهت مؤيِّديه، لتعبر تعبيرا بليغا عن أن المستهدف ليس شخص طارق رمضان وما يُتهم به تحديدا، بل فكره وما يرمز إليه شخصه، ومن وراء ذلك، المستهدف هو جيل بأكمله من الشباب المسلم. والغرض هو دحض ما نما لديهم من إيمان بإمكانية احتفاظ المسلمين بهويتهم في المجتمعات الغربية، من خلال خلق الشعور بأن ذلك ما هو إلا وهم مستحيل، وأن لا أمل في التصالح، وليس أمام المسلم إلا خياران لا ثالث لهما؛ إما البقاء مهمشا على أطراف المجتمع، وإما التخلي عن الهوية والذوبان فيه.
وهذا يحيل إلى أن قضية الخطاب الديني في الفضاء العام شديدة الارتباط بالشجاعة، وليس الدكتور طارق أول من يتحمل تداعيات تلك الشجاعة ولا آخرهم. ومع كل ما كان يعانيه الدكتور طارق من معاداة ومضايقات واتهامات، فإن ذلك لم يخيب أمله في الإنسان والتعايش والتصالح، وظل مصرا على الكفاح من أجل ذلك الغرض. ونحن في مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق، نتأسى بالدكتور طارق في ذلك، فعملنا مستمر بحول الله، ولن يقوض ذلك من عزيمتنا، ولن يخيب أملنا في الله تعالى.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
Add new comment