د. أبو زيد المقرئ الإدريسي

أبو زيد المقرئ الإدريسي*

 

أولاً: في مركزية المنظومة الأخلاقية في الإسلام

يسعف القرآن الكريم مباشرة في إدراك حجم هذه المركزية وثقلها وتركز مكوناتها بصورة ضاغطة على مجمل الخريطة القرآنية. إذ يطفو على سطح النص المقدس حضور لافت لقاموس الأخلاق ومضامينه، فرغم أن مصطلح "الأخلاق" لم يرد بالمعنى المتعارف عليه إلا مرة واحدة في قوله تعالى:﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم:4]، إلا أن معاني الأخلاق لا حصر لها في القرآن الكريم، بل إنه رسالة أخلاقية متكاملة تفصل في القيم الخلقية ومضامينها وأحكامها وحِكمها وأسسها الروحية والنفسية[1]. لذلك لا غرو أن تتكرر تلك المضامين في القرآن الكريم مرات عديدة، بطول وعرض الكتاب الكريم، كما يبين الجدول التقريبي الآتي:

  • الجدول رقم (1)

 

إلا أن وجه الشاهد ليس في استعراض الخريطة الأخلاقية في القرآن الكريم بقدر ما هو بيان ما رسخه القرآن، وتميز به، من ربط هذه الخريطة بالغيب والإيمان والجزاء الأخروي، على دعامة الاعتقاد في الله وخشيته واليقين من علمه وقدرته المطلقين. والنتيجة المنطقية لذلك أن تكون الإشارات القرآنية إلى هذا الأساس الإيماني للأخلاق، أحياناً أوسع من الإشارات إلى تلك الأخلاق نفسها، كما يتبين من الجدول التقريبي الآتي، مقارنةً بالجدول السابق:

  • الجدول رقم (2)

 

 هذا فقط فيما يتصل بالذات الإلهية مباشرة، عدا بقية أنماط الوازع الإيماني، المرتبطة بدورها بالإيمان بالله وعلى رأسها سَلْباً: عذاب النار والحساب والصراط والميزان والبرزخ وعذاب القبر. وإيجاباً: نعيم الجنة وصحبة رسوله ﷺ والصحابة الكرام، ورفقة النبيئين والصديقين والشهداء. وهذا مما لا يسع بسط إحصائه، لأنه بمساحة القرآن الكريم جُلِّه.

 

ثانياً: "...والصدق منجاة، والكذب هلَكة..."

من مفارقات الإعلام الذي أصبح أكثر العلامات الحضارية لصوقاً بالعصر ومقتضياته، أنه لا ينحرف فقط-في أحيان كثيرة- عن وظيفته الأساسية التي هي الإخبار والتواصل والتنوير، وما يتفرع عنها من مقتضيات الإبلاغ والتوعية، وإنما يتجه إلى تحقيق مقاصد نقيض هذه الوظيفة، بحيث يتحول دوره على يد المتنفذين من أباطرة الإعلام المنفذين لسياسات الكبار المسيطرين على مقدرات هذا العالم، إلى وظائف تضليلة تقوم على التغليط والتحريف والتزوير والاختلاق.

وتبرز ضمن سياقات هذه الوظيفة المنحرفة عن جادة الصواب، آلية الكذب باعتبارها أكثر الوسائل نجاعة في تحقيق مقاصد التضليل. وتبرز بالمقابل خصلة الصدق باعتبارها الآلية والضمانة معاً، لإعلام يتصالح مع ذاته ويؤدي وظائفه النبيلة بأساليب نبيلة، وفق المقتضيات التي من أجلها خلق الإعلام ابتداء.

وقبل أن نتحدث عن حاجة الإعلام للصدق، وتحوله مع الكذب إلى سلاح دمار شامل ضد إنسانية الإنسان، لابد أن نشير إلى مركزية هذا الخلق في النص القرآني انسجاماً مع الفقرة الأولى التي خصصناها لأهمية البعد الأخلاقي في الإسلام.

نلاحظ في الجدول رقم (1) أن خلق الصدق يتكرر برقم لافت للاهتمام وهو العدد 150، وهو رقم لا يستهان به لا كماً ولا ترتيباً. فمن حيث الكم يعتبر هذا العدد ذا منسوب مرتفع جداً بالمقارنة بعدد آيات القرآن، أو بمساحته الإجمالية المحدودة نسبياً. فهذا الرقم يعطي معدل تكرار قد يصل إلى مرة في كل أربع صفحات في المصحف الشريف، وهو إيقاع كثيف يدل على أهمية الصدق في الرؤية القرآنية وفي المنظومة الأخلاقية المؤسسة لهذه الرؤية.

أما على مستوى الترتيب فخلق الصدق يأتي في الرتبة الثالثة بعد خلقي العدل (355 مرة) والرحمة (340 مرة). وإذا كان العدل أساس التعاقد، وكانت الرحمة بطبيعتها أساس التكافل، وكان التعاقد والتكافل بمثابة السدى واللحمة في نسيج العلاقات الاجتماعية في الإسلام بمختلف أبعادها، فإن الصدق يكون هو المنطق المهيمن والضامن لسلامة هذا النسيج كله، سدى ولحمة، مادة وصورة، أحكاما ومقاصد. ومن أجل هذا نفهم لماذا لا يرى الإسلام للمسلمين صحبة أو رفقة إلا مع الصادقين: ﴿يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا ٱتَّقُوا ٱللَّهَ وَكُونُوا مَعَ ٱلصَّـٰدِقِينَ﴾ [التوبة:119].

ولقد كانت الوظيفة الأساسية للأنبياء، هي أن يقولوا الحقيقة كاملة لأقوامهم، متحرين في ذلك الصدق التام والأمانة الصارمة، مهما كان هذا الصدق صادماً للأوهام والأحلام والإيديولوجيات المحرفة للوعي والمنتجة لعلاقة مغلوطة بالواقع دنيا وآخرة.

لقد كانت صدمة اليهود من صراحة عيسى، ردَّ فعل على كونه، بعد طول انتظار للمخلص، يشير بأصبعه بكل صدق إلى مكمن الداء في نفوسهم وأفعالهم، عوض أن يربت على عواطفهم المريضة، ويركز عندهم الشعور الكاذب بالطهارة والاستمرار في لعب دور الضحية، في حين أن الآخرين هم الأشرار. ولا يمكن فهم عدوانية اليهود ضد المسيح إلا في إطار إدراك أبعاد هذه الصدمة المتولدة عن الحقيقة القاسية. ولقد كان هذا ديدن كل المكذبين لأنبيائهم، من كل الأقوام، ولم ينج الرسول ﷺ، من هذا القانون الذي يصطدم فيه الكذب بالصدق، وتقسو فيه الحقيقة على الباطل، لعله يفيق. ولعل فهمنا للفرق بين عظمة محمد ﷺ وتفاهة مسيلمة، لا يمكن أن يستقيم إلا في ظل استحضار الفرق بين عظمة الصدق وتفاهة الكذب.

لا ينقص من هذه الحقيقة، ولا يغير من طبيعتها شيئاً، أن يكون المنتمون إلى الكذب، أو الباطل معتقدين بصدق في سلامة مواقفهم. فقد وصل "اليقين" بقوم لوط، في معرض معالجتهم لصدمة مجابهتهم بشناعة سلوكهم الجنسي، أن يروا أفعالهم "حقا"، وليس فقط "ميلاً" أو "اختياراً"، في معرض مواجهتهم بعنف لموقف لوط: ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِى بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾ [هود:79]. ولعل هذه اليقينية القاطعة، رغم أنها متوهَّمة لمجافاتها للصدق، هي ما دفع أبا جهل أن يصرخ بأعلى صوته بين يدي بدر: “اللهم من كان أقطعنا للرحم، وأكذبنا على الخلق، فأَحِنْه الغداة"، فأجابه النبي ﷺ:"اللهم آمين".

إلا أن لخلق الصدق، باعتباره لصيق الحق، وأداة الوصول للحقيقة، بعداً آخر، عميقاً ومركباً يتعلق بما أسماه عبد الحليم أبو شقة: "أخلاق الفكر"، إذ يقول: "أخلاق الفكر: وهذه في مرتبة عالية من النظام الخلقي حيث يقوم الفكر بدور كبير في حياة الإنسان، فإذا استقام الفكر ساعد ذلك على استقامة حياة الإنسان. وإذا كانت قوة الفكر "أي الذكاء" أمراً فطرياً فإن تحرر الفكر وحب الحقيقة[2] أمر فطري ومكتسب...وتحري الحق عبارة عن مزيج من التحرر الفكري ﴿...قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ﴾ ومن حب الحقيقة ﴿..إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا﴾. ومن التحرر الفكري ومن حب الحقيقة معاً يتكون للفكر خلقه الأول والأساسي. فالتحرر يكفل للفكر أن يعمل بكامل قواه التي أودعها الله فيه دون أي ضغوط. وحب الحقيقة يدفع الفكر للسعي الحثيث كي يدرك الأمور كل الأمور على حقيقتها. أمور الغيب وأمور الهدى وأمور الواقع لا يقعده خمول أو رضا مهين عن السعي الحثيث والبحث المتصل. وصدق القائل: "إن الفكر في جانب من جوانبه خلق أي أن قوى الفكر عندما تكون أمينة لوظيفتها –وهذا شرطها الأساسي- تغدو خلقاً، وإن الخلق هو في جانب من جوانبه فكر إذ يقوم على أساس من الإدراك الصحيح للقيم الدينية، وهذا الإدراك الصحيح من عمل الفكر. والتوحيد وهو أول وأسمى درجات العقيدة لا سبيل أن يدركه غير العقل المتحرر اليقظ المتأمل. وتحري الحق –كخلق أول للفكر- هو الأساس الذي تقوم عليه أخلاق فكرية أخرى مثل:

  • حسن الحوار: ﴿...وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ...﴾.
  • التسامح الفكري: ﴿...وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ...﴾.
  • التسامح الديني: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ...﴾"[3].

وبموجب هذا التحليل الدقيق، كان الصدق، بمعنى مطابقة الحقيقة، فضيلة في النفس كما هي فضيلة في الفكر. وهذا ما يعطي للدعاء الذي ينسبه الشيعة لآل البيت: "اللهم أرنا الأشياء كما هي"، معنى سامياً. ولعل نظيره عند أهل السنة: "اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه"، يغرف من نفس النهر.

 

ثالثاً: الكذب ثم الكذب...الإعلام كعمل استخباراتي

ينجم عن هذا الانحراف المشار إليه في مطلع الفقرة الثانية، آثار كارثية في الوعي والسلوك، وينتج محددات حاسمة على مستوى الاختيار والمواقف، تصب للأسف في حساب صناع القرار الدولي الذين هم صناع الإعلام العالمي. وإذا كان شعار وزير الدعاية النازي كوبلز:"اكذب ثم اكذب ثم اكذب، حتى يصدقك الناس"، قد صار شعاراً ممجوجاً ربما بحكم شيطنة النازية، أكثر مما هو بحكم النفور من هذا الأسلوب الخشن في التضليل والدعاية الكاذبة، فإن الواقع أن الإعلام الدولي المتنفذ مازال وفياً لهذا الشعار، مع تغير التكتيكات الذكية ووسائل "التلاعب بالعقول" التي أصبحت أكثر تطورا وتعقيدا[4].

في هذا الإطار يعتمد الإعلام الدولي آليات كذب تتراوح بين الافتراء والاجتزاء والفبركة والإيحاء والتغليط والاستدراج، لصناعة "حدث إعلامي" يتراوح بين معلومة أو خبر أو تصريح، وقد يتركب إلى أن يصبح "فلماً وثائقياً"، مادته الفبركة والاجتزاء والتوضيب[5]. وتلعب المقاصد التحكمية الجهنمية دوراً حاسماً في صناعة الكذب، في الإعلام المعاصر، من أجل الوصول إلى تسويغ قرار أو تبرير موقف أو التغطية على عدوان[6].

في مواجهة هذا "العنف الرمزي" الذي يمارسه الكذب ويجترحه الكذابون في حق العقل والنفس الإنسانيين، من أجل الإيقاع في حبائل "الخديعة الاستكبارية"، فإن "الإسلام ينكر أي شكل من أشكال التدليس أو التمويه أو إعطاء معلومات محورة أو ناقصة، مما يمكن أن يؤدي إلى فعل قمعي رمزي يحاول أن يصل بالإنسان بطريقة ماكرة إلى تغيير اقتناعه بأسلوب مغشوش، بحيث يصبح مناط الاستقلال، الذي هو الروح والفكر، واقعاً تحت التأثير الرمزي للعنف. ويتبين هذا في موقف الإسلام من "الظن"، و"الوهم"، و"السحر" و"الشعوذة"، و "الكذب" و "الأماني". ويطالب الإسلام بالمقابل بالحجة والإقناع والبيان، كي يتحرر الإنسان تحرراً فكرياً كاملاً، و حتى لا يكون اقتناعه مبنياً على الاستضعاف الرمزي المتمثل في المشعوذين، والدجالين والمُحَرِّفين"[7].

 

رابعاً: الصدق الإعلامي: مقترحات

لا شك أن شعار الإعلاميين الأثير: "الخبر مقدس، والتعليق حر"، ينطلق من أن تحري الحقيقة، أي الصدق في عرض الخبر، يرتقي إلى درجة التقديس. ويستلزم هذا أن نقيضه، أي تحريف الخبر أو اختلاقه أو اجتزاؤه، ينزل إلى درجة التدنيس. وهذا إقرار ضمني بأن الأخلاق، وعلى رأسها خلق الصدق، هو ما يمنح للعمل الإعلامي مصداقيته، بل ومبرر وجوده[8].

وهذا يستلزم اليوم أن يناضل الإعلاميون في العالم الإسلامي بصدق واستماتة، من أجل بناء إعلام مستقل، يعتمد الصدق في مصادر الخبر وصياغته وطرق تداوله وتقنيات عرضه واستحضار آثاره، مما يجعل هذا الصدق غاية في حد ذاته، بغض النظر عمن قد يستغل المعلومة أو يوظفها ضد الآخر، قوياً كان أو مستضعفاً. إن القرآن يلهمنا بهذا الصدد إلهاماً عظيماً، فهو يتحدث عن خصال وخصائص وأحداث عظيمة حصلت لخصوم، قبل أن ينحرفوا أو يضلوا، وقبل أن يتحولوا بفعل الصراع التاريخي إلى أعداء للمسلمين. دون أن يتحرج من كون هذا المستوى من الإنصاف قد يوظف من الخصوم لتزكية الذات. وأكثر ما نجد هذا في تعامله مع أهل الكتاب[9]. وهذا يقتضي نفساً طويلاً وصبراً كبيراً على الوصول إلى المعلومة والتضحية في الحصول عليها وإيصالها إلى من تُسعفه في اتخاذ القرار الصائب من النخبة، أو معرفة مجرد الحقيقة من الجمهور. نستحضر هنا روح ذلك الخليفة الأندلسي الذي توفي شيخ قضاته، فجعل اختباره لمن يخلفه من القضاة، أن يستدعيهم على انفراد، ويتناول معهم طعام الغذاء، ثم يقوم من قاعة الضيوف ليرافقهم إلى الباب الخارجي، وحين يمر على صهريج كبير مملوء بحبات النارنج الطافية والمتساقطة من شجر النارنج المحيط بالصهريج، يسألهم عن نوع هذه الثمار، فيجيب كل واحد منهم على البديهة بأنه نارنج، لأن خبر هذه الحديقة البديعة كان منتشراً بين الناس في قرطبة. فيسر الخليفة في نفسه ألا يزكي صاحب الجواب لهذا المنصب الخطير. إلى أن جاء الدور على قاض شديد الورع، فلما وضع في الاختبار، رجع إلى الحوض، ورفع كمه إلى أعلى وأدخل يده في الماء، والتقط حبة نارنج، فلما ذاق مرارتها، قال: هذه حبة نارنج. وإذ استفزه الخليفة بالسؤال عن التي تليها، لم يجبه حتى كرر الفعل نفسه، وهكذا دواليك. آنذاك أرجعه الخليفة إلى مجلسه وصارحه بالأمر!

وأظن أنه من أجل هذا المعنى ذبحت أطوار بهجت كما تذبح النعاج، واستشهد طارق أيوب تحت القصف الغادر، ورأى الموت عدة مرات رأي العين أحمد منصور، وغاب في دياجير المجهول رضا هلال، واللائحة تطول.

ولا شك أن إعلام المستضعفين لا يملك الوصول إلى المصادر الحقيقية للخبر، مما يؤثر على إدراكه الموضوعي للحقيقة، ناهيك عن قدرته المحدودة أيضاً على الوصول إلى قطاع عريض من الجماهير، واستعمال وسائل الإقناع والإغراء والتأثير. إلا أن هذه الحقيقة يهون منها بشكل كبير هذا الانفجار التكنولوجي الهائل الذي يسر طرق التواصل، وأرخص كلفة البث، وسهل وسائل تبليغ الخبر. وفي هذا الإطار نقترح "ميثاق شرف" توقعه منابر إعلامية مسؤولة وملتزمة تتوافق فيما بينها على تحري الخبر الصادق، وتبادل المعلومات حول تفاصيله، والاتفاق على الأرضية المشتركة لقواعد بثه والدفاع عنه، ومواجهة الأخبار المضللة والمشوشة. ويمكن أن يفرع هذا الميثاق، ليصبح مواثيق خاصة بكل مجموعة على حدة: الصحافة الالكترونية، الصحافة الورقية، نشر الكتاب، الفضائيات...الخ. ولا يمكن لميثاق الشرف هذا أن يكون له تأثير إذا تبنته هيئة عليا، قد تكون ذات طابع مدني أو أهلي، تملك سلطة المتابعة والزجر والرقابة على الهيئات الإعلامية المنخرطة طوعاً في هذا الميثاق.

إن الوعي بأن الخبر، وهو بالمناسبة أحد أوجه الاهتمام الإعلامي، وإن كان أهمها، يمكن حتى لو كان صحيحاً أن يتم التلاعب بطرق توصيله: فتوقيت إعلانه قد يكون مغرضاً، وتسريبه عوض إعلانه قد يكون كذلك، والتكتم عليه إلى حين زوال أثره الحاسم قد يكون كذلك. ناهيك عن تقصد تغييب إطاره التفسيري، أو التجهيل المتعمد بخلفياته، أو التعتيم على بعض عناصره أو بعض الأطراف الفاعلة فيه، أو قلب إسناده مما يحوله إلى خبر مضاد، مخفي أو مشوش. وغيرها من الآليات التي شرحها بيير بورديو بأمثلة توضيحية من التلفزيون الفرنسي. إن هذا الوعي مما يجعل الإصرار على مثل هذا الميثاق أمراً مصيرياً بالنسبة لعملية تخليق الإعلام، في مواجهة التزييف والتجهيل والإفتراء[10].

إن أحد مستلزمات هذا الميثاق، ينبغي أن يكون قائماً على بذل الجهد اللازم للوصول إلى الحقيقة، بالتحري في الخبر، ومصادره، والأمانة في ذكر درجة صحة هذه المصادر[11]، والحرص على الإضاءة والتنوير التي لا تحول هذا الخبر إلى عكس مراد الصدق والنزاهة والتوعية والبناء[12]. ولاشك أن هذا النوع من المنابر سوف يحرم الدعم المادي، ويتعرض للتضييق على مستوى مصادر التمويل وهي أساساً الإشهار، الذي تتحكم به شركات الوساطة الاستشارية، وهي في أغلبها بيد منظمات مشبوهة وجهات متنفذة وشركات رأسمالية عملاقة، وللصهيونية والرأسمالية عليها تأثير ضاغط[13].

ونقترح بهذا الصدد تجربة قنوات تلفزيونية أمريكية تعتمد الاشتراك، بدل البث المفتوح، مقابل الالتزام بمقاطعة الإشهار، والاكتفاء بمداخيل الاشتراك. ويعرف هذا النوع من القنوات إقبالاً من النخب المثقفة والواعية في الولايات المتحدة، كما تعتمد عليه بعض الكنائس المعروفة بموقفها السلبي من الإشهار أو من الشركات الرأسمالية الكبرى.

وفي هذا الصدد، لا يمكن أن ينجح هذا المشروع إلا ببناء مؤسسات تكوين إعلامي متخصص، تستدخل القيم الأخلاقية، وعلى رأسها قيمة الصدق، ضمن المنطق المهني في هذا التكوين، وقد تتعاون منابر متعددة، إذا كانت إمكانياتها محدودة، في بناء المؤسسة الواحدة[14]. ولاشك أن جزءاً من جهود التمويل ينبغي أن تنصرف في إطار المشاريع الوقفية إلى هذا النوع من الأداء الإعلامي، عوض المجالات التقليدية التي يهتم بها المحسنون في العالم الإسلامي، فبدون ذلك سنبقى رهنا لتجارب كسيحة ومتقطعة ومحدودة التأثير[15].

وأظن أن مفهوم الصدق وتحري الحقيقة، يتجاوز مستوى عرض الخبر الصادق، إلى الالتفات إلى الأخبار الهامشية، التي لا تحظى من وسائل الإعلام المهيمنة، وعلى رأسها وكالات الأنباء، ومثل هذه الأخبار الهامشية، هي ما سيمنح المنابر الإعلامية المتخلقة، صفة الأصالة والاستقلال عوض الذيلية والتبعية التي نلاحظها على مجمل إعلام الدول المتخلفة. إن منبراً إعلامياً يركز على ما يقع لمسلمي الروهنغيا في بورما، عوض الانسياق وراء التكرار اليومي لما يقع في سوريا مثلاً، وبطريقة ببغائية، أو يحاول الوصول إلى معاناة مسلمي الإيغور في الصين، أو ما تبقى من مسلمي الشيشان، أو مظاهر الاضطهاد لمسلمي كشمير. أو يعرض حقيقة المعاناة الصامتة لمسلمي البوسنة والهرسك وكوسوفا وسنجق، لهو منبر يستحق شهادة الأصالة والصدقية، أكثر من أية قناة قد تبذل جهداً مشكوراً في التعريف بما يقع في مصر وسوريا وفلسطين، على أهميته، دون أن تشير أدنى إشارة إلى من دونهم من المضطهدين.

ويمكن أن نقترح، أن تمثل هذه المنابر الإعلامية المنضوية تحت هذا الميثاق، والمؤطرة بهذا التكوين، والمدعومة بهذا الوقف، ائتلافاً إعلامياً يتحول مع الأيام إلى سلطة معنوية ضاغطة، يتخذ بموجبها إجراءات التحفيز أو المقاطعة أو التنبيه أو التشجيع أو التمويل لأشكال من السلوك والاختيار الإعلامي السلبي والإيجابي، ويندرج ضمن ذلك حملات مواكبة أو مضادة، وجوائز تشجيعية وشارات رمزية تحفز على سلوك اتجاه محدد[16].

 

الإعلام والأخلاق: شهادات المشاركين

 


* الأستاذ أبو زيد المقرئ الإدريسي مفكر وداعية مغربي ونائب برلماني سابقا عن حزب العدالة والتنمية وأستاذ بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء. قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والإعلام التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق بالدوحة أيام 2-4 نوفمبر 2013.


 

الهوامش

 

[1] انظر على الخصوص:

 - Draz, Mohamed. La Morale Du Coran. Rabat: Ministère des Habous.Mohammadia,1983.

- الحسني، محمد. "مدونة القيم في القرآن والسنة".منشورات المركز المغربي للدراسات والأبحاث التربوية. الطبعة الأولى.

 الرباط. المغرب، 2008م.

- الكتاني، محمد. "منظومة القيم المرجعية في الإسلام". منشورات الرابطة المحمدية للعلماء. الطبعة الأولى. الرباط.

 المغرب، 2012م.

[2] التشديدات كلها من عندنا.

[3] أبو شقة، عبد الحليم. "خواطر حول أزمة الخلق المسلم المعاصر". مجلة المسلم المعاصر. العدد1-2. يونيو 1975م،

http://almuslimalmuaser.org/index.php?option=com_k2&view=item&id=27:7awater

[4] انظر:

  • شيللر، هربرت. المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان. الطبعة الثانية. الكويت: عالم المعرفة، 1999م.
  • بورديو، بيير. التلفزيون وآليات التلاعب بالعقول، ترجمة درويش الحلوجي. الطبعة الأولى. دمشق: دار كنعان، 2004م.
  • شومسكي، نعوم. الهيمنة أم البقاء، السعي الأمريكي إلى السيطرة على العالم، ترجمة سامي الكعكي. بيروت: دار الكتاب العربي، 2004م.

[5] لعله من المفارقات أن اللغة الفرنسية يتقارب فيها "الكاذب" menteurمع "الموضب" monteur! والبعض يرى من باب الطرفة تقارب "المحامي" lawyer في اللغة الإنجليزية مع الكذاب liar، على الأقل في النطق! كما أن بعض المتفكهين ينسبون parlement (البرلمان) إلى نحت لكلمتي: parle وment: تكلم واكذب. ولعل إيحاء الواقع الذي راجت فيه سوق الكذب في مثل هذه التخريجات، أقوى من إيحاء البنية الصوتية!

[6] لا يخفى على أحد اليوم أن "معركة خليج الخنازير" كان فيديو مفبرك لتبرير استمرار غزو الولايات المتحدة للفيتنام. كما لا يخفي أن فيديو اقتحام جنود صدام لمستشفى الأطفال في الكويت، كان اختلاقاً لتحريك عواطف الأمريكيين ضد العراق وتبرير "عاصفة الصحراء"، أمام الضمير العالمي.

وهذا ما جعل تيري ميسان يكتب "الخديعة المرعبة" عن أحداث 11شتنبر، ويتكلم فيها بيقينية عن أنها أحداث مفبركة، استناداً إلى رصيد من الفبركات الإعلامية السابقة، خصص لها الفصل الأول من كتابه بالكامل، وذلك مبكراً منذ 1835، أي حتى قبل ظهور السينما بعقود، حين لفقت الولايات المتحدة الأمريكية للمكسيك عملية هجوم غادر كاذبة على الجيش الأمريكي في الحدود بين البلدين، بررت على إثرها غزو المكسيك واقتطاع نصفه بالكامل ليصبح اليوم جنوب الولايات المتحدة الأمريكية! انظر: ميسان، تيري. الخديعة المرعبة. ترجمة سوزان قازان ومايا سلمان، دار كنعان، 2002م. إن مصداق ما أشرنا إليه من أن سياسة النازية في الإعلام ما زالت هي المهيمنة، ما صرح به دونالد رامسفيلد، بعد أن انكشفت كذبة أسلحة الدمار الشامل العراقية: "نعم لقد كذبنا، ولكن الكذب سلاح يستعمل في المعركة ككل سلاح"!

[7] الإدريسي، أبوزيد. معضلة العنق: رؤية إسلامية. الطبعة الثانية. الرباط: مطبعة لينا.2011م، ص 43.

[8] لا عجب، فرغم الموجة المادية والعلمنة الحادة للحياة المعاصرة، فإن الأخلاق والقيم ترجع اليوم من الباب الواسع إلى النشاط الحضاري العام، أي من باب المعرفة! فاليوم في علم اللسانيات مثلا، فرع التداوليات، يتحدث العلماء عن "شرط الصدق" كشرط علمي لتحقق صيغة من صيغ الأسلوب التداولي، هي صيغة الاستفهام مثلاً. فـ"سيمون ديك"، لا يرى مخرجاً لتمييز الاستفهام الحقيقي عن الاستفهام غير الحقيقي، الذي يخرج إلى أغراض تداولية أخرى كالتحدي أو السخرية أو التعجيز أو الإنكار، إلا باستحضار شرط الصدق، في الاستفهام الحقيقي: أي أن يكون المستفهِم يطلب حقيقة الجواب من المستفهَم منه، أي أن يكون صادقاً في طلب الجواب. فإذا غابت هذه الرغبة، خرج أسلوب الاستفهام إلى مقاصد تداولية وبلاغية قد تكون نقيضاً للمعنى الحقيقي للاستفهام.

[9] في قناة مسيحية متعصبة ناطقة باللغة العربية، لا يني قسيس كريه يكرر على الملأ، الفينة بعد الأخرى أن القرآن بقوله:﴿إِذْ قَالَ ٱللَّهُ يَـٰعِيسَىٰ إِنِّى مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَىَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ ٱلَّذِينَ ٱتَّبَعُوكَ فَوْقَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ﴾ [آل عمران:55]، يسلم بتفوق المسيحيين الأبدي على من عداهم من أهل الديانات الأخرى؟!

[10] الحاصل أن وعي المسلمين بمثل هاته القضايا ما زال ضعيفاً. فقد حدثني الدكتور علي رضا عدنان النحوي، أنه اقترح على الناشرين الإسلاميين ميثاق شرف، يلتزمون فيه بقوانين النشر، ويوفون فيه بحقوق الأطراف الناشرة، ويحترمون شفافية المهنة، بموجب مبادئ الأخلاق وقوانين نشر الكتاب المعمول بها دولياً، فلم يجد كبير حماسة من الأغلبية الساحقة منهم؟! فأحرى لو طرح الأمر على المنابر والقنوات الإعلامية.

[11] يعرف بهذا الصدد ما يسمى بـ"صيغ التمريض"، من مثل زعموا، وحكوا، وبلغنا، وربما يكون حصل، ومن مصدر غير موثوق، وهي صيغ تمريضية بعضها مستلهم من التراث الإسلامي، لوضع مسافة بين الخبر وناقله، إلا أنها تحولت إلى أدوات تضليلية في الإعلام الحديث، تجمع بين ادعاء الدقة، والقصد إلى التشكيك أو التشويش، أو تهيئة الرأي العام نفسياً لخبر صادم. أذكر من أشهر الأمثلة على ذلك ما بثه الراديو البلجيكي في أحد أيام يناير 1961، نقلاً عن وزارة خارجية بلده: "تناهى إلى علمنا من مصادر غير موثوقة احتمال أن يكون الزعيم باتريس لومومبا قد سقط في يد الثوار، وإن حكومة جلالة الملك تتوجه إليهم برجاء ألا يسيؤوا إليه". والحاصل أن الخبر نشر بعد أن قبض على الزعيم وتم رميه بالرصاص، وتسليمه لجندي بلجيكي هو ورفيقاه المقتولين، من أجل تقطيع الثلاثة بمنشار حديدي، وتذويبهم في حامض فتاك، وطرحهم في الصرف الصحي لكي لا يعرف لهم أثر ولا يقوم لهم ضريح! وقد روى تفاصيل القصة الجندي نفسه، بعد مرور 45 سنة على الواقعة، وبلوغه سن الثمانين، التي تسقط عنه المتابعة القانونية! كما أن من سموا ب"الثوار" لم يكونوا سوى خونة انقلابيين من عملاء الاستعمار البلجيكي، لا يقلون دناءة عن السيسي وجماعته في زمننا الحالي.

[12] في ملتقى لييج- بلجيكا، أيام1-2-3 فبراير2008، والذي كان موضوعه: المسلمون والإعلام الغربي، تحدث طارق رمضان عن مصداقية بث الخبر في وسائل الإعلام، إذا كان مبتوراً عن سياقه التاريخي. وأعطى مثال رجلين تعاركاً، فضرب كل واحد منهما الآخر، ولكن الإعلام قدم خبر وصورة الثاني وهو يضرب الأول، دون أن يذكر تعرضه قبل ذلك مباشرة بدوره للضرب. وعلّق بأن هذا الخبر المبتور صحيح سنكرونياً ولكنه كاذب ديكرونياً!

[13] من أحسن من شرح هذه الحقيقة: جيري ماندر في كتابه الرائع: أربع مناقشات لإلغاء التلفزيون. ترجمة سهيل منيمنة، دار الكلمة الطيبة، الطبعة الأولى، 1410هـ. وأهمية الكتاب في أن صاحبه كان مالكاً لأكبر شركة وساطة استشارية. ثم قام بعد عقود من النجاح بتفكيكها والتحول إلى النضال بالكلمة من أجل كشف هذه الهيمنة الفرعونية لمثل تلك المؤسسات على وسائل الإعلام.

[14] لابد من الإشادة هنا بقناة الجزيرة، لأنها تمثل استثناء داخل شبكة الفضائيات العربية، فيما يتصل بإنفاق الجهد والمال في عملية التأهيل المهني للأطر الإعلامية، مع الانفتاح على غير العاملة منها في شبكة الجزيرة.

[15] ظهرت في باريس، في أواسط الثمانينات، مؤسسة "منشورات نقطة "باللغة العربية، وكان شعارها: "اقرأ حتى لا تموت غبياً! منبر للتجذير والفضح! "ولعلها استلهمت اسمها من دار النشر الفرنسية الشهيرة"editions point"، إلا أنه لم يكتب لها الاستمرار لانعدام الموارد وضعف التنسيق، رغم أنها ندبت نفسها للإعلام الثقافي دون غيره، وأذكر أنها نشرت كتاباً يفضح سرقات أدونيس الفكرية من الكتاب الأوروبيين.

[16] من طرق التضامن الفريدة ما حكاه بتفصيل مايكل مور، في مقدمة الطبعة العربية لكتابه: رجال بيض أغبياء، الدار العربية للعلوم، الطبعة الأولى 2002. عندما قاطعته جميع دور النشر، وحاصرته الدار المغرضة التي طبعت كتابه وحبسته في مخازنها، وغرمته بحيلة قانونية مبلغاً باهضاً، وهي دار نشر تابعة للإمبراطورية الإعلامية للصهيوني روبرت مردوخ، فأسعفته شبكة تضامنية من جمعيات: "أوفياء للقراءة" وهي تضم ملايين المنخرطين في الخزانات العمومية للمطالعة في أمريكا، تصدوا للبيع الالكتروني للكتاب، وفكوا عنه الحصار، وحولوه لست سنوات متتابعة إلى الكتاب الأكثر مقروئية في الولايات المتحدة. وذنب الكتاب وصاحبه أنه يتحرى الحقيقة، وأنه يذكر أخباراً صادقة وصادمة عن سياسات البيت الأبيض واللوبي الصهيوني والصقور البيوريتانيين. ويمكن تطوير أشكال تضامنية تستلهم هذا النوع من المنابر المناضلة من أجل الحقيقة ولا ننسى أن مايكل مور ليس كاتباً في الأصل، وإنما هو مخرج سينمائي متخصص في الأفلام الوثائقية.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.