د. عبد الله بن يوسف الجديع

 عبد الله بن يوسف الجديع*

 

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله النبي الصادق الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد..

فأقدم شكري ابتداءً لإخوتي الأفاضل القائمين على (مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق) على ما يبذلونه من مجهود رائع ومتميز لخدمة القضايا المعاصرة المختلفة في سياق المفاهيم الإسلامية المحرَّرة وأدلة التشريع ومقاصده، فجزاهم الله خيرًا وبارك فيما يقدمونه وتقبله منهم.

لقد أُحِيل عليَّ إعداد هذه الورقة في مجال الاقتصاد من منظور "إسلامي"‏‏، وحصرًا في إطار "مفهوم الربا"‏‏، وبعض القضايا المتعلقة به.

وجاء السؤال العام على النحو التالي: ما مفهومُ الربا المقطوعِ بحرمته في الإسلام؟ وما مقاصد تحريمه؟

وربما يتبادر لأول وهلة أنه سؤال عن أمر بدهي، لكني أشكر للإخوة تقديمه على هذه الصفة، فكم من أمر ديني يُظن بدهيًّا في عالمنا المعاصر، وليس كذلك؛ إذ كثيرًا ما تشيع مفاهيم وتفسيرات قد يكونُ لها حظٌّ في الصواب أو لا يكون، لكنها تستقرُّ في الأذهان، حتى يُتَصَوَّرَ أن تلك المفاهيم والتفسيرات هي الحق دون ما سواه.

فسؤال الندوة يأتي في سياق ذلك كأحد أمثلة تلك المفاهيم، إذ الناظر في التاريخ الفقهي على مدى القرون وإلى اليوم، يجد أن باب الربا من الأبواب العويصة، التي استُشكلت كثير من مفرداتها وتداخلت، وليس في ذلك تهمةٌ للتشريع الموصوف أصالة بالوضوح والبيان، وإنما يعود إلى فهم المتلقي ومقدار فقهه للتشريع ودورانه في إطار العلل والمقاصد.

وجدير في هذا السياق أن يُسْتَحْضَرَ أنه لم يَستشكِل أحدٌ من المسلمينَ قطعيةَ تحريم الربا في الإسلام، فهو حكم لا يُخْتَلَف فيه؛ لصراحة النص القرآني به، كما أنه لا خلاف في أن المرادَ بالربا المحرمِ قطعًا في القرآن، هو الذي سماه النبي ﷺ في خطبة الوداع "ربا الجاهلية".

وإنما وقع اختلاف يمكن حصره في صورتين:

الأولى: ماهية ربا الجاهلية.

والثانية: استغراق اسم الربا صورًا أخرى بحكم دلالة العموم القرآني أو الخطاب النبوي أو القياس، فاختلفت الآراء الفقهية اختلافًا واسعًا في إدراج أمثلة كثيرة في الربا.

ويَجْدُرُ الوقوفُ على أصل الاختلاف في الصورة الأولى، فإن من فائدة ذلك تمييزَ حقيقة الربا الذي كان مدركًا لدى متلقي الخطاب يوم نزول التحريم، ويكون هو المرادَ على سبيل القطعية؛ ذلك أن ما جاء الخطاب بخصوصه وأنزل لأجله فهو قطعي الدخول فيه، بخلاف ما يُلْحَق به بالاجتهاد، كالذي حصل فيما هو في سياق الصورة الثانية.

 

مفهوم الربا

إن مفردةُ (الربا) الواردةُ في آيات البقرة، هي ذاتها التي سبقت في التنزيل في آيتي النساء وآل عمران ‏معرفةً بـ(أل)، فآية النساء - وهي الأسبق نزولًا - أفادت بسياقها أن (الربا) معلوم في لسان من نزل القرآن بلسانهم، ‏وهكذا جاء الخطاب بعدها في آل عمران بنفس اللفظ المعرَّف، وذات اللفظ جاء في آيات البقرة، مما دل ‏على أنه نفسَهُ اللفظُ المذكورُ مِن قَبْل في القرآن والذي استقرَّ عند المخاطبين معناه، وهو الذي قالوا ‏فيه: "ربا الجاهلية"، وبإلغائه جاء الحديث في قول النبي ﷺ في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع: «وربا الجاهلية موضوع، وأول ربًا أضع ربا العباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله»[1].

وقد اعتنت عبارات المفسرين في صدر الإسلام بتوضيح ماهية الربا الجاهلي، وأطبقت ‏كلها على أن الربا المحرمَ في القرآن هو (ربا الديون)، و(ربا النسيئة)، وهو (ربا الجاهلية)، وتفسيره عندهم: «الزيادة على الدَّيْن عند حلول ‏الأجل مقابلَ زيادة المدة».

وتلخصه عبارة زيد بن أسلم من التابعين، إذ يقول: "كان الربا في الجاهلية: أن يكون للرجل على الرجل الحقُّ إلى أجل، فإذا حَلَّ الأجلُ قال: أتقضي أم تُربي؟ فإن قضى أَخَذَ، وإلَّا زاده في حقه، وأخَّر عنه في الأجل"[2].

ومن جاء من بعدُ من العلماء لم يجدوا بُدًّا في الغالب من الوقوف عند تلك التفسيرات للربا، إذ هي بمنزلة الأخبار التاريخية المثبتة للعرف الذي كان جاريًا يوم ورود الخطاب[3].

قال القرطبي: "إن العرب كانت لا تعرف ربًا إلَّا ذلك، فكانت إذا حَلَّ دَينُها قالت للغريم: إما أن تَقضي، وإما أن تُرْبي، أي تزيدَ في الدَّيْن"[4].

وقد سئل أحمد بن حنبل عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: "هو أن يكون له دَيْن، فيقولَ له: أتَقضي أم تُرْبِي؟ فإن لم يقضِهِ زادَه في المال، وزادَه هذا في الأجل"[5].

هذا التفسير لربا الجاهلية هو الذي لم يكن يُبْرِزُ أهل التفسير سواه، إلى أن جاء أبو بكر الرازي الحنفي المعروف بالجصاص المتوفى سنة (370هـ) ليقول بعدما قرر أن لفظ (الربا) في القرآن مجمل: "الربا الذي كانت العرب تعرفه وتفعله إنما كان قَرْض الدراهم والدنانير إلى أجل، بزيادة على مقدار ما اسْتُقْرِضَ على ما يتراضون به، ولم يكونوا يعرفون البيع بالنقد، وإذا كان متفاضلًا من جنس واحد، هذا كان المتعارفَ المشهورَ بينهم"[6].

بل زعم قصرَ الربا الجاهليِّ على هذه الصورة، وقال قولًا لم يُعْرَف ولم ينقله عن سلفٍ قبله، قال: "ولم يكن تعاملهم بالربا إلا على الوجه الذي ذكرنا من قرض دراهم أو دنانير إلى أجل مع شرط الزيادة"[7].

وقال أيضًا: "معلوم أن ربا الجاهلية إنما كان قرضًا مؤجلًا بزيادة مشروطة، فكانت الزيادة بدلًا من الأجل"[8].

وهذا التفسير الذي ادعى أنه معلوم، لا يروى فيه خبر صحيح ولا غير صحيح، وهو أمر مرجعه إلى النقل، وبين الجصاص والجاهلية قرون. ومثله لو نُقِلَ بإسناد، لاحتاج إلى التثبت من صحته ليُصار إليه ويستند عليه، فكيف ولا إسناد له البتة؟

ومع ذلك فقد انصاع له وسلمه كثيرون بعده، لا يذكر واحد منهم مرجعًا يُسْنِدُ ذلك إليه - إن ذكَرَ - أقدمَ من الجصاص نفسِهِ، ففسروا ربا الجاهلية أنه الزيادةُ في القروض على أصل مبلغ القرض، وانتهوا إلى ذلك، خصوصًا المعاصرون الذين أصَّلوا لحرمة الفائدة المصرفية على القروض.

فكيف يستقيم ذلك مع ما تقدم ذكره عن السلف؟ كذلك فهذه نصوصُ التاريخ المنقولةُ المتاحةُ لا يوجد فيها أن القرض عند العرب كان محَلًّا للربا، بل كانوا يعتبرونه من صنائع المعروف، ولم يكن عندهم موضعًا للكسب، ولذا تواطأ الناس وجرى الفقه من بعد على أن عقدَ القرضِ عقدُ تبرعٍ، ولأجله قيل: (قرض حسن)، وهي تسمية قرآنية، وذلك وصف يلتقي مع كونه معروفًا وبِرًّا وإحسانًا، وبابه الصدقة، وكل ذلك عكس الربا.

ومما يزيد التأكيدَ على شذوذ هذا الرأي في تفسير ربا الجاهلية، أن من الفقهاء من بعدُ من صرحوا بأن الزيادة في القرض عند ابتداء العقد هي من باب (ربا البيوع) الذي يعرف بـ(ربا الفضل)، و(ربا النَّساء)، وهو الذي جاءت بتحريمه السنةُ فيما يعرف بـ(الأصناف الرِّبَوِيَّة)، وهي: (الذهب، والفضة، والتمر، والبر، والملح، والشعير)، والتي حُرِّمَ التبادل فيها إذا بيع الجنس منها بجنسه بزيادة حالًّا أو إلى أجل. وتحريم هذا النوع من أجل ما فيه من معنى الربا، وهو الاستغلال بالغُبن والغَرَر في أساس المعاش، فهو تحريم لسد تلك الذريعة، أي من باب منع الوسائل المفضية إلى المفاسد.

وكون الربا في القرض بمفهومه المصرفي اليوم من ربا الفضل ظاهرٌ، فهو من قبيل بيع درهم بدرهمين إلى أجل.

وعلى ذلك نَصَّ فقهاء الشافعية[9]. وقال به ابن حزم[10]. وهو ظاهر رأي محمد رشيد رضا من المعاصرين[11].

ويُشبِهُه رأي أبي الوليد بن رشد الكبير من أئمة المالكية[12]، فقد صرح بأنه مقيس على ربا البيوع الوارد في السنة، ولو كان ربًا جاهليًّا لدخل في النص أصالةً، ولم يُحْتَجْ فيه إلى القياس.

وعلى هذا الرأي، فإنَّ الزيادةَ على أصل مبلغ القرض، إذا فُرِضَتْ عند إنشاء العقد، فإنها تُخْرِجُ (القرض) عن موضوعه، وتُحِيلُه إلى بيعِ نقدٍ حاضرٍ بنقدٍ آجلٍ أكثرَ منه، أي انتقل وصفه من (عقد تبرع) إلى (عقد معاوضة)، وعليه فتسميته (قرضًا) لا تمنحه أحكام القرض في الإسلام.

 

مقاصد تحريم الربا

ذهبت طائفة إلى أن عدمَ العلم بسبب التحريم لأمر ما لا أثر له على التسليم لحكم الشرع؛ إذ ليس من الضروري أن يوجِدَ الشارعُ مبرراتٍ للمنع مما يمنع منه، بل شرع ذلك لحكمة خفيت على العباد([13])، وكذلك قيل في حكمة تحريم الربا.

وفي هذا الإطلاق نظر، فذلك إن كان يُدْرَك وَجْهُهُ في العبادات المأمور بها كالصلاة والصيام، على مناقشة في هذا أيضًا، فلا يستقيم ادعاؤه في قضية تتصل بمصالح العباد في معاشهم؛ إذ كيف يؤمر الناس بترك سلوك اعتادوه، دون أن يدركوا وجهَ الخلل فيه ويفهموا مقصده؟ وكيف يصح ذلك مع كثرة اعتناء القرآن باستثارة العقول للتفكر والنظر والتدبر من أجل إدراك حِكَمِ التشريع؟!

لذا خالف هذا التوجهَ طوائفُ من المحققين الكبار، منهم الغزَّالي، فبينوا ما يرجع إليه سبب تحريم الربا، بأنه لحماية الأموال من التلاعب، ودفع الظلم باستغلال المعسرين من أصحاب الحاجات[14].

وحاصل الأمر أن الحكمة من تحريم الربا تتلخص في أنه لدرء ما يقع به من المفاسد في الأموال التي جعلها الله للناس قيامًا[15]، وبخس الناس أشياءهم، وأنه ضرر في المال يتعدى إلى الضرر بالنفس.

كما أن من أسباب تحريمه أنه يمنع الناس عن الاشتغال بالمكاسب، "وذلك لأن صاحب الدرهم إذا تمكن بواسطة عقد الربا من تحصيل الدرهم الزائد نقدًا كان أو نسيئةً، خف عليه اكتساب وجه المعيشة، فلا يكاد يتحمل مشقة الكسب والتجارة والصناعات الشاقة، وذلك يُفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أن مصالح العالم لا تنتظم إلا بالتجارات والحِرَفِ والصناعات والعمارات"[16].

كذلك، فإنه يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس؛ إذ لو أبيح الربا لكانت حاجة المحتاج تحمله على أخذ درهم بدرهمين، فتنقطع المواساة والمعروف والإحسان[17].

وروي عن جعفر الصادق، أنه سئل: لم حرَّم الله الربا؟ فقال: "لئلَّا يتمانعَ الناسُ المعروفَ"[18].

وأما المقاصد التي أرادت الشريعة تحقيقها بتحريم الربا، فتتلخص في أربعة[19]:

أولها: منع كنز المال، إذ الربا يُحْدِثُ دورانًا للمال في إطار ذاته، ولا يغامَرُ بتشغيله في عمليات الاستثمار، ففيه تغيير للسنة الطبيعية في المال؛ يُصبح هدفًا وخُلِق ليكون وسيلةً.

ثانيها: منع احتكار أقوات الناس، وهو ما نبهت عليه نصوص السنة في أصناف الربا في المطاعم، فإن من يُعامِل عليها بالربا فهو محتكر؛ إذ لو كان ما لديه متاحًا عند غيره لما وجد سبيلًا لبيعه بالربا.

ثالثها: منع التلاعب بالعملة، حتى لا تتقلب أسعارها، وحتى لا تُصْبِح سلعةً يُضارَب عليها، وهذا ظاهر في إثبات الشارع للربوية في بيع النقود سوى ما تدعو إليه حاجة الصرف بشروطه.

ورابعها: منع الغُبْن والاستغلال عند التعامل بالجنس الواحد؛ لأن التفاضل في الكم لا يمكن حسابه بدقة تواجه التفاضل في الكيف، فلا بد من وقوع الغُبْن على أحد المتبايعين.

وفي هذا تندرج أكثرُ صُوَرِ المعاوضات الفاسدة الممنوعة في الشريعة.

فهذه أسباب تحريم الربا وأهدافه منبئةٌ بجلاء بحكمة تحريمه، ومقنعة لذوي الحجا بضرره وسوئه، بل إنها تؤكد أن الربا عمل تنفر من قبحه وشناعته الطباع السليمة وتنكره العقول الحكيمة؛ إذ هو ظلم ظاهر، واعتداء سافر، فكيف يمكن بعد هذا أن تخفى على أحد حكمة منعه؟ وكيف يستجيز أحد القول: هو حكم تعبدي محض شُرِعَ لمجرد الابتلاء لا يُدْرَك سِرُّه؟

 

أجوبة الأسئلة المتفرعة عن السؤال المتقدم

وفُرِّع عن السؤال الأساس المتقدم أسئلة تتصل بقضية الربا من جهة التنزيل على تعاملات مالية في الواقع المعاصر، بيانها بحسب ما تسمح به هذه الخلاصة فيما يلي:

أولًا: ما أثَرُ الخلاف الفقهي في تحديد مفهوم الربا على بعض صور المعاملات اليوم مثل الرهن العقاري وقروض الطلاب في بعض الجامعات الغربية... الخ؟

ما تقدم بيانه في تفسير الربا فهو ينعكس بشكل بارز على طبيعة التعاملات المالية والمصرفية المعاصرة، فبالنظر إلى الزيادة التي تُرَتِّبُها المصارف على القروض بمفهومها المصرفي فإنها تَدخُلُها الرِّبَوِيَّةُ من جهتين:

الأولى: في الزيادة على أصل مبلغ القرض عند إبرام العقد، فهذا ينقله من عقد قرض إلى عقد بيعِ رِبَوِيٍّ بجنسِهِ بزيادةٍ إلى أجل، وهو (ربا فَضْل ونَساء)، أما الفضل فللزيادة، وأما النَّساء فللأجل.

والثانية: في ترتيب الغرامات التأخيرية عند حلول الأجل وتأخر المدين عن السداد، وهذا (ربا الديون)، أو (ربا النسيئة)، وهو مطابق للربا الجاهلي في صورته، بحسب قراءة الباحث.

وما ينعكس به هذا على بعض صور المعاملات المالية المعاصرة، فإن الجهة الأولى لا مناص من الوقوع فيها عند إجراء التعاقد، لكونها تَثْبُتُ في ذمة المدين عند إنشاء العقد، بخلاف الثانية، فهي لا تلزمه إلا عند التأخير، فيمكن الاحتراز عنها بتحاشي التأخير.

وبالنظر إلى ما تدعو إليه الحاجة من الدخول في بعض هذه الأنواع من العقود، من مثل القروض العقارية لشراء المساكن، والقروض الطلابية لغاية تكاليف الدراسة، فهل من مخرج شرعي يستثني ذلك من أصل التحريم؟

مما هو جليٌّ أن عقودَ المؤسسات المالية التقليدية المعدَّةَ سلفًا هي عقود إذعان لا يملك المحتاج إلى الدخول فيها تغييرَها غالبًا، وهي عادةً تشتمل على نوعي الربا المتقدم في جهتيه، لكن الثاني، وهو (الربا الأكبر) يُضَمَّن في العقد على سبيل الشرط الجزائي، لا يلزم إلا عندما يقع الإخلال، ولكونه – في رأي الباحث - من (ربا الديون)، فإنه لا يُبِيحُ الوقوعَ فيه في حق المحتاج إلا الضرورة.

لكن يَرِدُ عليه خلافٌ فقهيٌّ حول أثر الشرط الفاسد أساسًا في العقد المكتمل الأركان، فقد اختلف فيه الفقهاء على رأيين: أنه يبطل العقد. والثاني: يصح العقد ويبطل الشرط، وهو مذهب الحنابلة، واستدلوا له بقصة بَرِيرَة في «الصحيحين»، بما يطول شرحه[20]، وهو الأظهر.

وهذه الشروط واقعة في عقود بطاقات الائتمان الشائعة اليوم وتُصدِرها المصارف التقليدية، كذلك تُواقِعُه بعض المصارف «الإسلامية»، ويُخَرَّج لها على أنه إلزامٌ للمَدين بالتبرع لصالح جهة خيرية بسبب مماطلته!!

فإذا أمكن الاحترازُ عن مواقعةِ هذا النوع من الربا بتَحاشي الوقوع في الشرط الفاسد في العقد، فلا حيلة من مواقعة النوع الأول من الربا عند إجراء العقد، وهو (ربا الفضل)، وبالنظر إلى كون تحريمه من باب سد الذرائع المفضية إلى المفاسد لما يشتمل عليه من الغرر، فإن السنَّةَ النبويةَ التي يَرْجِعُ إليها تحريمُ هذا النوع، قد أسعفت في استثناء جوازه للحاجة، شأنُ ما يَحْرُمُ تَحْرِيمَ وَسائلَ، فإنه تبيحه الحاجة[21].

وأصل ذلك يرجع إلى إباحة الشريعة ما يُعْرَف بـ(بيع العرايا)، فقد أَذِنَ النبي ﷺ به في أحاديث صحيحة كثيرة بلغت حد التواتر[22].

والعرايا: جمع عَرِيَّة، ومعناها جاء مفسرًا في بعض الأحاديث: "أن يشتريَ الرجل ثمرَ النَّخَلات لطعام أهله رُطَبًا، بخَرْصِها تمرًا"[23].

فهو شراء رُطَبٍ على رءوس النخل بمقدارها من التمر تخمينًا؛ والأصل أن هذه الصورة هي من (بيع المزابنة) الذي نهت عنه الشريعة؛ لأنه بيع ربوي بجنسه متفاضلًا، لكنه أُبِيحَ بقَدْرِ ما يحقق للناس حاجتهم، فالرطب موسمي يفوت على من لا يجد ثمنًا آخر له غير التمر، فيشتري الشيءَ منه بالتمر وتُقَدَّرُ فيه المثلية، فيُعْفَى عما يُحْتَمل من يَسير النقص.

لكن لما كانت الرخصة للحاجة، فإن إباحة العرايا جاءت بقدر خمسة أوسق، لا تزيد عليه[24].

وفي إباحة العرايا مع وجود الغرر رعايةٌ لحاجة الناس الراجحةِ على الضرر اليسير الوارد بسبب نقص الرطب إذا يَبِسَ عن التمر؛ لأن التحريم جاء لتحقيق مصلحتهم بدفع الضرر عنهم، فلما تَقابَل الضررُ والمنفعةُ، وكانت المنفعةُ أرجحَ أبيح من المحرم بالمقدار الذي رَجَحَ نفعُهُ.

كما يُلاحَظ أن المزابنةَ لما كانت من ربا الفضل الذي مُنِعَ منه لكونه ذريعةً إلى الربا الجاهلي وطريقًا إليه، وليس هو نفسَ الربا الذي قصده القرآن بالتحريم أصالة؛ جاء التخفيف فيه للحاجة، كخلوة الرجل بالمرأة الأجنبية عنه، فقد حُرِّمَت لكونها ذريعةً إلى الزنى، وما حُرِّمَ لغيره أبيحَ للحاجة الراجحة، كما قال ابن القيم: ‏"‏وما حُرِّمَ سَدًّا للذريعة أبيحَ للمصلحة الراجحة، كما أبيحت العرايا من ربا الفضل‏"‏[25].

وعليه: فإن الاقتراض من المصارف للحاجة، كالسكن والدراسة، والذي يقع بزيادة تثبت أولَ العقد على رأس المال، هو من هذا الباب، رأي الباحث فيه أنه يُباحُ للحاجة؛ رفعًا للحرج، وهي زيادة لا تُبْطِل العقدَ، بل هذا العقدُ أولى بالإباحة من العرايا، فيما نُدْرِكُه من حاجة الناس.

 

ثانيًا: هل الربا هو الفارق الجوهري الوحيد بين النظام الاقتصادي الإسلامي وغيره؟

لا شك أن الربا فارق جوهري بين النظامين الإسلامي وغيره، ولكن موضوع الاقتصاد أوسع من قضايا المعاملات المالية، وموضوع الربا يتصل بقضايا المعاملات المالية، وحتى في إطار هذه القضايا فإنه لا يصح تصور أن يكون هو الفارقَ الوحيدَ بين النظامين إلا في حالة تفسير (الربا) بمفهومه العام، والذي يمكن أن يندرج فيه عندئذ كلُّ صور كسب المال بالباطل، كإطلاق الشريعة لاسم الربا على أنواع من التجاوزاتِ في المعاملات المالية، كإدراجها فيه البيوعَ الفاسدةَ، والتجارةَ في المحرمات، على سبيل المثال، كما دلت على ذلك السنة، وعليه أيضًا يمكن بهذا الاعتبار أن يدرج في الربا السببُ الأكبرُ في الأزمة المالية العالمية الأخيرة، والذي يرجع إلى التراكماتِ الهائلةِ الناتجةِ عن التعامل ببيع سندات الديون، والذي يعتريه أنواع متفاوتة في الضرر من الغرر المحرم.

وإذا صح أن تُدرج في الربا جميع المعاملات المالية المشتملة على الضرر والمفاسد القادحة في ضرورة المال، وما تنعكس به على ضرورات أخرى من سائر الضرورات الخمس، فيمكن أن يُجعل (الربا) عنوانًا للفصل في عموم موضوع الاقتصاد في إطار المعاملات بين ما هو مقبول إسلاميًا وما ليس بمقبول.

أما (الربا) بمفهومه الشائعِ اليومَ عند عموم المسلمين، وهو قصره على الزيادة في الديون أو القروض أو هو (الفائدة المصرفية) كما يتبادر غالبًا، فإنه لا يصح أن يكون الفارقَ الوحيدَ بين نظام المعاملات المالية الإسلامي وغير الإسلامي.

 

ثالثًا: ما الفرق بين الفائدة والربا؟ وكيف حصل هذا التفريق بينهما في علم الاقتصاد المعاصر؟ وما انعكاساته على النظام المصرفي التقليدي؟

صلة مصطلح (الفائدة) بالربا أو بالكسب الحرام لا تُعْرَف من جهة اللغة ولا الاستعمال الفقهي، ومفهومها في الاقتصاد المعاصر غربي النشأة والتفسير، ففي حدود عام 1623 ظهر في التقنين في أوربا استعمال مفردة (interest) وذلك في النسبة المشروعة الخارجة عن الربا، علمًا بأن هذه المفردةَ سبق استعمالها اسمًا مرادفًا للربا في الأدبيات الغربية[26]، كما جاء في رواية شكسبير (1564-1616) (تاجر البندقية Merchant of Venice)([27]).

فمصطلح (فائدة) بعد التقنين أُطْلِقَ على درجةٍ دون الربا فيما يُباح أخذه مقابلَ تمكينِ صاحب المال شخصًا آخر من استعمال ماله، واستقر تعريفها بأنها: "الثمن الذي يُدفع لاستخدام مبلغ من المال، وهو كالثمن المطلوب لاستئجار سيارة أو سكن. وكلما طال زمن خروج السلعة من يد صاحبها، ازدادت الرسوم بحسبه"[28].

ويؤخذ بالحسبان أن القوانينَ الغربيةَ تحرِّم الربا وتعاقبُ عليه، في الوقت ذاته تبيح الفائدةَ، والحدُّ الفاصلُ بينهما هو النسبةُ المحدَّدةُ بالقانون، فإن تم تجاوزها فهو الربا[29].

ومع شيوع الفصل في نظر الاقتصاديين الغربيين بين (الفائدة) و(الربا)، إلا أن ذلك لم يَحْسِم الجدلَ في نظر الفقهاء والاقتصاديين، بل استمر الخلاف: بين مُفَرِّق بينها وبين الربا، وغيرِ مفرِّقٍ يَعدُّ كلَّ فائدةٍ ربًا (Usury).

وجدير بالملاحظة، أن أصحاب الرأي الأول جرَوا على رعاية العلل والمقاصد، بينما الآخرون كانوا يصرون على الثبات على موروث الكنيسة دون ترخص في الاجتهاد، علمًا بأن الاستثناء بدأ من قبل رجال الدين أنفسهم، كجون كالڤن (1509-1564) الذي أبرز الفكرة، ووليم بلاكستون (1723-1780) الذي رأى أن لا مانع من التقنين[30].

وعلى نفس هذا التصور في التفريق جرت قوانين أكثر البلاد الإسلامية في العصر الحديث، وقد دخلها عن طريق الدولة العثمانية، فما هو مسموح به قانونًا (فائدة)، وما هو ممنوع (ربا).

والمرجعية القانونية لفكرة الفرق، تعود إلى اعتبار أن (الفائدة) تُمَثِّلُ عائدَ خدمةٍ، مع رعايةِ قيمةِ الأجل الذي يُحْبَس فيه المال عن مَصلحةِ الدائن، وتقديرُ السلطات لها فيه اعتبار رعاية المصلحة العامة، بحيث لا يقع الاستغلال بِجَشَعِ من يملكون المال.

كما يدخل في حسابها رعايةُ نسبةِ التضخم، والتي تعود إلى أسباب أبرزُها عدمُ انضباط إصدار النقود، فعملية ما يسمى "خلقَ النقود" والتي لا تستند إلى رَصيد كافٍ أو قاعدة مالية مكافئة، هو السبب الأعظم في ارتفاع نِسبة التضخم، فتُعالَج جزئيًا في سياق نسبة الفائدة القانونية.

والقراءة الإسلامية المعاصرة لمسألة الفائدة، جاءت في رأي الجمهور على ما تقرر في مؤتمر مجمع البحوث الإسلامية بالقاهرة سنة 1965م‏، والذي نص على تحريم الفائدة المصرفية قليلِها وكثيرِها، على القروض جميعها، دون تفريق‏، أخذًا وإعطاءً؛ لكونها ربًا. وعلى هذا الأساس قامت المصارف الإسلامية، وأن (الفائدة) تمثل الفارقَ الأساسَ بينها وبين المصارف التقليدية، والتي توصف بالرِّبَوِيَّة في رأي كثير من المنظِّرينَ؛ لأجل أخذها الفائدة.

وهذه الطائفة تشددت في حكم الفائدة، وصُوِّرَ مستَندُها على أنه الدليلُ الذي لا يقبل التأويل، والإجماعُ القاطعُ لكل منازع، بل زعم بعضهم أن حرمةَ الفائدةِ معلومةٌ من الدِّين بالضرورة[31].

ولا يخفى أن هذه المقالة لا تتفق مع ما مرجعه إلى الاجتهاد، فالصواب فيما هذا شأنه مظنة، والخطأ مظنة، وإنما القطعية حرمة الربا.

ولم تنتظم الآراء الفقهية المعاصرة في هذا السياق، بل قابلَ هؤلاء آخرون قالوا بإباحة الفائدة، بل إنَّ القولَ بها أقدمُ، إذ عُزِيَت إلى الشيخ محمد عبده، كما قال بها تلميذه محمد رشيد رضا، وآخرون تَلَوْا.

وفي تحليل عناصرها فإن طرفًا من نسبة الفائدة قد يرجع إلى أسباب معتبرة، كتغطية عجز التضخم، وأجور خدمة القرض، أو ما يكون على سبيل البَذْلِ (الجِعَالة) من قبل طالب القرض، في تفصيل لا تحتمل إيجازَهُ هذه الورقة.

والمقصود في رأيي أن إطلاق القول بالربوية على كل ما يسمى "فائدة" في المعاملات المصرفية، لا يخلو من مجازفة، والأجدر العمل على وضع تصور آخر سوى ذلك الإطلاق غير المحقَّق في رأيي، يُراعي ذلك التصوُّرُ المطلوبُ طبيعةَ النقود المعاصرة، وتَخَلُّفَ مواصفات القرض المصرفي عن مواصفاته التقليدية، والوظائفَ التي تحققها المصارف في سياق التنمية والاستقرار الاقتصادي.

 

د. عبد الله بن يوسف الجديع

 


* الشيخ الدكتور عبد الله بن يوسف الجديع حاصل على دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي، وهو مدير مركز الجديع للبحوث والاستشارات بمدينة ليدز في بريطانيا، ونائب رئيس المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وعضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الثالث لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد ببروكسيل، بلجيكا في 14-15 مارس 2015.


 

الهوامش

[1] أخرجه أحمد (رقم: 14440)، ومسلم (رقم: 1218)، وأبو داود (رقم: 1905)، والنسائي في ‏‏السنن الكبرى‏ (رقم: 3987)، وابن ماجة (رقم: 3074).

[2] أخرجه مالك في ‏الموطأ‏‏ (رقم: 1965)، وابن نصر في ‏‏السنة‏‏ (رقم: 170)، والبيهقي (5/275).

[3] انظر: بن رشد، أبي الوليد. المقدمات الممهدات. (2/8).

[4] القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. (3/356). وانظر: الباجي. المنتقى شرح الموطأ. (5/65).

[5] ابن القيم. إعلام الموقعين. (2/129).

[6] الجصاص. أحكام القرآن. (2/184).

[7] المصدر السابق.

[8] المصدر السابق (2/186، 189).

[9] انظر: الرملي، شمس الدين. نهاية المحتاج. (3/424). الشربيني، الخطيب. مغني المحتاج. (2/363).

[10] انظر: لابن حزم. المحلى. (8/467-468، 494).

[11] انظر: رضا، محمد. مجلة المنار. (10/438-439)، الجزء السادس، 10 أغسطس، 1907م.

[12] بن رشد، أبي الوليد. المقدمات الممهدات. (2/31).

[13] تفسير الرازي (7/94-95).

[14] انظر: الغزالي. إحياء علوم الدين. (4/92-93).

[15] See: Qureshi, Anwar. Islam and the theory of Interest. pp. 55-57.

تفسير الرازي (7/94-95). صديقي، محمد. استعراض للفكر الاقتصادي الإسلامي المعاصر. (ص: 146). رضا، محمد. مجلة المنار (المجلد 5 ص: 53).

[16] تفسير الرازي (7/94-95). وانظر لمعناه:

Ricardo, David. The Principles of Political Economy & Taxation. p.48-49.‎

[17] انظر: تفسير الرازي (7/94-95).

[18] أخرجه أبو نعيم في ‏حلية الأولياء‏‏ (3/226 رقم: 3789).

[19] انظر: السنهوري، عبدالرزاق. مصادر الحق في الفقه الإسلامي. (3/236).

[20] انظر: ابن تيمية. مجموع الفتاوى. (29/129).

[21] انظر: ابن القيم. إعلام الموقعين. (3/408).

[22] جاءت الرخصة فيه من حديث جمع من الصحابة عن النبي ﷺ، منها: حديث أبي هريرة، عند البخاري (رقم: 2078)؛ ومسلم (رقم: 1541).

[23] صحيح مسلم (3/1169).

[24] انظر: الشافعي. الأم. (6/175). ومجموعها بالكيلو غرام نحو من (652).

[25] ابن القيم. إعلام الموقعين. (2/137).

[26] See: Rose, H. Shields. The Churches and Usury. p. 33.

[27] See: Shakespeare, William. The Merchant of Venice. p. 19.

[28] Stutely, Richard. Numbers Guide: The Essentials of Business Numeracy. p. 33-34.

[29] Benjamin, F. Hall. The Land Owner's Manual. p. 125.

[30] See: Calder, Lendol. Financing the American Dream, A Cultural History Of Consumer Credit. p. 116.

[31] انظر: أبو سليمان، عبد الوهاب. فقه الضرورة وتطبيقاته المعاصرة: آفاق وأبعاد. (ص: 152). السالوس، علي. الاقتصاد الإسلامي والقضايا الفقهية المعاصرة. (1/351-352).

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.