الإصلاح والمصالحة: نحو مقاربة تكاملية لعلاقة الدولة بالأمة

سلمان بونعمان*

الجزء الأول

ما تزال مسألة تدبير العلاقة بين بين الحكام والمحكومين في الاجتماع السياسي الإسلامي تثير العديد من التحديات التاريخية والسياسية والواقعية على العقل المسلم المعاصر، يكاد يتحول معها أمر فلسفة تدبير العلاقة إلى أزمة تاريخية وبنيوية تصاحب حركة الإصلاح السياسي منذ انطفاء نموذج الخلافة للراشدة.

لقد تنوعت الاستجابات وتعدد المقاربات التي حاولت فك المأزق التاريخي والحضاري الذي دخله الاجتماع السياسي الاسلامي، بين قبول سلطة المتغلب وبين اختيار الثورة ومعارضته، حيث انقسمت التوجهات في التراث السياسي السني الإسلامي في الموقف من الحكام إلى ثلاثة توجهات:

  • التوجه الأول: اختار منطق الصبر على الحاكم وعدم جواز الخروج عليه منطلقاً من فكرة مفادها أن الضرر الذي يترتب على الخروج عليه أكبر بكثير من ظلمه.
  • التوجه الثاني: انحاز إلى منطق الخروج ودفع الظلم وقد مثل ذلك مدرسة الخوارج التي ذهبت إلى ضرورة الخروج على الحاكم الظالم وحشد العامة للانقلاب عليه، بغض النظر عن موازين القوى وإمكانية الانتصار عليه.
  • التوجه الثالث: حاول الاعتناء بسؤال المآل والقدرة من خلال ضرورة التأكد من إمكانية تحقق النصر على الحاكم الجائر قبل الشروع في الخروج عليه[i].

 

 

 

الجزء الثاني

 

معالم في فلسفة الإصلاح الديمقراطي

إن تأسيس تحولٍ جذريٍّ في طبيعة فلسفة الحكم ومنطق تدبيره ونموذجه، لن يكون أمراً سهلاً، لأن المعركة مع ثقافة الاستبداد العميقة وبنيات الفساد الذكية طويلة ومعقدة. لذا هذه المهام الملقاة على عاتق الكتلة الديمقراطية التاريخية بهدف الإصلاح العميق التراكمي والتوافقي بما يعنيه من تحقيق مصالح الناس وخدماتهم وإنجاح متطلبات التنمية والنهضة والاتفاق على تصور لبناء الدولة "العادلة والقادرة والفاعلة"، بدل الصراع حول أسلمة الدولة أو علمنتها.

إنه جهدٌ يدشن مرحلةً للتفكير في ملامح نموذجٍ تفاعليٍّ جديدٍ بين الدولة والمجتمع وبين الدين والدولة، وبين الحاكم والمحكوم يسعى لحماية الدين من هيمنة دولةٍ تسيطر عليه. فأول خطوةٍ لتحرير الدين واستعادة دوره، هو فصل هيمنة وسلطة الدولة عنه، وجعل حركته حرةً تتمتع بالمصداقية الاجتماعية والسلطة المعرفية في المجال العام، مشتبكاً مع الهموم اليومية، فتكون حراسة الدين منوطةً بالمجتمع، حتى تستعيد آلة الاجتهاد دورانها، وعندما يسترد الدين دوره الحضاري وشرعيته باعتصام الناس به يقررون شكل النظام الاقتصادي والسياسي الذي ينشدونه وفق أحوال كل قطرٍ وكل جماعةٍ من المسلمين والشروط الحاكمة لمواطنتهم[i]، عبر الخيار الديمقراطي التشاركي، والتدافع المجتمعي المفتوح، والتنافس السياسي التداولي السلمي القائم على الاجتهاد السياسي والإبداع العقلي والتجديد المقاصدي.

إن النموذج السياسي الذي يشق طريقه إلى التبلور انطلاقاً من مشاهد ما بعد الثورة وتوتر التحولات ومخاض الانتقالات، يلزم أن تكون فيه الدولة عادلةً، تسعى لتكريم الإنسان دون اعتبارات اللون أو الجنس أو الدين، وتحريره من أيِّ سلطةٍ قاهرةٍ، وتفعيل طاقاته الخلاقة، من خلال تحجيم دور الدولة وعقليتها المركزية المهمشة للأطراف، وتفعيل دور كل فئات الشعب وقطاعاته، والإصرار على أن الشعب هو مصدر السلطات، أي أن الديمقراطية هي الإطار الوحيد السليم لإدارة المجتمع[ii]؛ فتوطين الديمقراطية ليس معطاً جاهزاً، بل إنه يشكل معركةً كبرى فكريةً واجتماعيةً وسياسيةً واقتصاديةً، فلن يكون من الممكن ترسيخ دعائمها وفكرتها، قبل التغلب على مشاعر العداء والرفض المتبادل والانغلاق. ولا يمكن التقدم في بنائها، من دون تحقيق الحد الأدنى من العدالة الاجتماعية وتغيير ميزان القوى الاجتماعي والسياسي، بل لا يمكن تحقيق ذلك من دون تغييرٍ جذريٍّ في مفهوم السياسة والمجتمع على حدٍّ سواءٍ، وإعادة النظر في شبكة العلاقات التسلطية المحلية والإقليمية والدولية والتوازنات الجيوسياسية[iii].

 

 

 

7/12 جلسة السياسة: سلمان بو نعمان وغودرون كريمر ومحمد المختار الشنقيطي

 

[i] عزت، هبة. "تفكيك العلمانية من المواجهة للاشتباك لما بعد الدولة". مجلة رؤى. العدد 23-24. 2004م، ص 26.

[ii] المسيري، عبد الوهاب. "مقدمة لحزب الوسط بمصر". موقع فلاسفة العرب، 2004م،

http://www.arabphilosophers.com/Arabic/

[iii] غليون، برهان. نقد السياسة، الدولة والدين. مركز الثقافي العربي. الطبعة الرابعة، 2007م، ص 566.

 

 


 

 

* الدكتور سلمان بونعمان كاتب مغربي وباحث في العلوم السياسية والاجتماعية. قدم هذه الورقة في المؤتمر الدولي الرابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق الذي عقد بالدوحة في 2-3 أبريل 2016.

[i] حمادة، أمل. الخبرة الإيرانية-الانتقال من الثورة إلى الدولة. الطبعة الأولى. الشبكة العربية للأبحاث والنشر، 2008م، ص 40.

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.