#CILE2019 الإقصاء الاجتماعي والسياسي للفئات الضعيفة في المجتمعات الغربية: دراسة الحالة الفرنسية

الإقصاء الاجتماعي والسياسي للفئات الضعيفة في المجتمعات الغربية:

دراسة الحالة الفرنسية

 

محمد الغَمْقي*

 

[تم قبول هذا البحث في المؤتمر الدولي السابع لمركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق]

 

مقدمة

ينظر إلى فرنسا عادة إلى كونها بلدا محوريا في النظام العالمي بحكم عضويته الدائمة في مجلس الأمن وموقعه الاستراتيجي الجغرافي السياسي وعمق قناعة نخبته السياسية والفكرية بدور بلدهم عبر تاريخه السياسي العريق في نشر قيم الحرية والأخوة والعدالة التي نادت بها الثورة الفرنسية.

ولكن القراءة في الواقع تؤكد يوما بعد يوم مدى الفجوة أو الهوة بين الشعار والحقيقة على أرض الميدان. ويتطرق البحث إلى إشكالية الإقصاء الاجتماعي والسياسي لشريحة الفرنسيين من أصول عربية وإسلامية وشريحة الفئات الاجتماعية الضعيفة التي أفرزت اليوم حركة اجتماعية فريدة من نوعها يطلق عليها "أصحاب السترات الصفراء". والعنصر المشترك بينهما هو التهميش أو الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

ويقف هذا البحث على مظاهر الإقصاء والتهميش وأسبابهما وأساليب علاجهما بالتركيز على أهمية المقاربة الأخلاقية في إرساء العدالة الاجتماعية.

المحور الأول: مظاهر الإقصاء الاجتماعي والسياسي

يتناول هذا المحور مختلف مظاهر الإقصاء الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي تعيشه كلا الشريحتين.

  1. مسلمو فرنسا بين الكمّ والكيف

إذا كان التطوّر الكمّي لمسلمي فرنسا يسير بوتيرة منتظمة في تصاعد مستمرّ، فإن مسار التنامي الكيفي النوعي لا يتقدم بنفس الوتيرة، وما زال في مراحله الأولى. ويمكن استنتاج هذا الأمر من خلال مستوى الفعل والتأثير في المجتمع، إذ لم يتحول المسلمون بعدُ إلى ثقل اقتصادي وسياسي وثقافي وإعلامي، وإلى مجموعات ضغط كما هو حال مجموعات دينية وإيديولوجية أخرى.

ويتجلى ذلك في العديد من المجالات، منها التعليم والسكن والعمل ودوائر التأثير الإعلامي والفكري والسياسي.  فهم يعانون من ظاهرة الاسلاموفوبيا ومحاولات إقصائهم عن الدورة الاقتصادية والمناصب المؤثرة.

  • التهميش في المنظومة التربوية

كلما ذكر الملف الإسلامي في فرنسا، يتبادر إلى الذهن موضوع منع الحجاب في فرنسا بحجة أنه رمز ديني بارز، بمعنى أن المرأة التي تلبس الحجاب تقوم ضمنيا بالدعوة والتبشير لدينها. وهذا ما يتناقض بزعمهم مع العلمانية التي تقوم على فصل الدين عن الدولة أو عن الشأن العام.

والمبرر الرسمي وراء هذا القرار هو المساواة في التعامل مع الجميع دون اعتبارات دينية أو عرقية أو مذهبية.. ولكن المتأمل في المنظومة التعليمية على الطريقة الفرنسية يلاحظ مفارقات كبرى بين الشعار والواقع. ويكفي القيام بسبر مواقف أبناء العرب والأفارقة الدارسين في المدارس الفرنسية عن الأجواء العامة في مثل هذه المدارس لإدراك عمق المشكلة. ومن خلال تجربة خاصة في هذا الموضوع، صرّح لي بعض الطلبة الكبار بأنهم شعروا بالتمييز منذ دراستهم في المرحلة الابتدائية. حيث يبدأ المعلم حصة التعارف بالسؤال عن الأصل كلما عرف أن التلميذ ليس من أصل فرنسي. ويشعر هذا الأخير بالحرج منذ اليوم من دراسته، وتترسخ لديه فكرة أنه يُعامل بصفته الآخر المنتمي لأصول أجنبية حتى وإن وُلد وترعرع في فرنسا.

في المقابل، يجد نفسه مدفوعا إلى القبول بالأمر الواقع في مسألة الأجواء العامة في المدرسة. فمع اقتراب نهاية السنة الميلادية في ديسمبر من كل سنة، تلبس المدارس حلة العيد لاستقبال سنة جديدة لكن بصبغة دينية غير خافية مثل شجرة عيد الميلاد.. بحجة أنها عادة وليست عبادة. في حين يمنع بعض الأساتذة أحيانا التلامذة المسلمين في حضور أجواء عيدي الفطر والأضحى (صلاة العيد..) بل يتعمّد البعض القيام بامتحانات في أيام العيد.  

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحدّ بل يتعداه إلى أوجه وأشكال أخرى من التمييز. ومن أهمها وجبة طعام الغذاء في مطعم المدرسة. فهناك نسبة كبرى من التلامذة الذين يتعذر عليهم العودة إلى بيوتهم لتناول طعام الغداء فيبقون في المدرسة. ولكنهم لا يجدون الأكل الحلال بحجة أن المؤسسة التعليمية "العلمانية" لا تأخذ بالاعتبار الخصوصيات الدينية للتلامذة وبالتالي فليس من صلاحياتها توفير أكل يتناسب مع ديانة كل تلميذ لأن ذلك يمثل شكلا من أشكال التمييز المخالف للعلمانية في زعمهم. وفي الواقع فإن أبناء العرب والأفارقة المسلمين هم الفئة الوحيدة تقريبا التي تتحول إلى كبش فداء فإما أنهم يقبلون بالوجبة المقدَّمة أو يضطرون للاكتفاء بالقليل من الطعام.  وهو الأمر الذي يغيض الأولياء لأنهم حريصون على النمو الصحي والعقلي المتوازن لأبنائهم ويشعرون بالحيرة إزاء معاناة فلذات أكبادهم اليومية في المدرسة. بل إن الأمر يزيد تعقيدا على مستوى نفسية هؤلاء الأطفال وهم يشعرون لسنوات عدة بالقلق البادي على الأولياء نتيجة هذا التمييز المسلط على أبنائهم.

إلا أن إشكال عدم توفير الوجبات الحلال في المدرسة يعتبر هينا إزاء التحدي القيمي الذي تحوّل إلى الهاجس الأكبر للعديد من الأسر المسلمة التي تسعى إلى تربية أبنائها على قيم الفضيلة والاستقامة والعفة. ذلك أن المنظومة التعليمية في فرنسا مبنية على فلسفة التعليم أساسا، بمعنى أن يقتصر دور المعلم أو الأستاذ على التعليم أي تقديم المعرفة في مختلف المجالات بأقدار معينة من المنهجية العلمية. ويعبّر العديد من المعلمين والأساتذة عن عدم استعدادهم للقيام بدور المربي الذي يغرس قيما تربوية ويستكمل دور الأسرة التربوي. بل يتم حصر مصطلح التربية في الجانب المدني، بحيث تقدّم المدرسة تربية مدنية بمفهوم احترام القوانين المدنية من أجل تحقيق المواطنة. وهو أمر في حدّ ذاته مرغوب فيه لكنه غير كاف خاصة إذا تم في المقابل ترسيخ مفاهيم وقيم تتنافى مع القيم الدينية.

ومن بين هذه المفاهيم التي تثير جدلا مفهوم الحرية وحدودها. ومن الشائع القول بأن حرية الفرد تقف عندما تبدأ حرية الآخرين. بيد أن الحدّ الفاصل بين حرية الفرد وحرية الجماعة ليس دقيقا ويمكن تأويله بحسب المقاربات والتصورات الفلسفية والإيديولوجية للإنسان والمجتمع والدين. والإشكال هو السعي بكل جهد عبر البرامج التربوية والأنشطة التي تقدمها المدارس والمعاهد إلى توجيه التلامذة والطلبة إلى تصور أحادي للحرية يصبّ في خانة تحدّي القيم الدينية التي تنادي بالفضيلة والاستقامة. بحيث يتم تشجيع الأبناء والبنات على الاختلاط المفتوح بلا قيود ولا حدود، وتشجيع اليافعين والشباب على  ممارسة علاقات خاصة قبل الزواج من باب اكتساب التجربة في الحياة واكتشاف الجنس الآخر،  وتقوم بعض المدارس الثانوية والإعدادية بتوزيع حبوب منع الحمل والواقي على من يرغب في ذلك من الفتيات والفتيان تحت مسميات عدة منها حرية التصرف في البدن دون تدخل الآخرين في ذلك ولو كان الأولياء وحرية التمرد على "القيم" الدينية وعدم الالتزام بها بحجة أنها تقيد حريات الإنسان الذي من حقه أن يختار جنسه وميولاته في ظل نظرية  الجنسانية أو الجندر التي تسعى إلى عدم اعتبار الفروق البيولوجية بين الرجل والمرأة. وقد كثر الجدل في فرنسا حول هذه النظرية التي حاولت وزارة التعليم إقحامها في البرامج التربوية للأطفال والشباب فضلا عن الدروس التطبيقية حول مسألة الإجهاض وحقوق الطفل والمرأة  بخلفية توجيه تفكيرهم في اتجاه واحد وعدم إتاحة الفرصة لمقاربات أخرى مختلفة للحرية، وترك حرية الاختيار وهو أحد الأركان التيالأساسالتي التي  يقوم عليها مبدئيا الفكر العلماني وتتبناه نظريا المؤسسات التعليمية. وبالتالي، يتم حشر المخالفين للتوجه المفروض في زاوية المعارضين للعلمانية ولمبدأ الحرية. فيبقى الخيار إما الانصهار ومسايرة الموجة أو التهميش والإقصاء. فتصبح البنت المسلمة التي تريد الحفاظ على شرفها وعفتها -على سبيل المثال لا الحصر-  بنتا متخلفة وخارج التاريخ في نظر زميلاتها. وتشتد الضغوط عليها من كل جانب من أجل ركوب موجة "الحداثة والمعاصرة" وترك "قيود" القيم الدينية جانبا..

ونفس الشيء يقال فيما يتعلق بمسألة تعاطي المخدرات والتدخين وشرب الخمر وهي مسائل وإن كانت المؤسسة التربوية تسعى إلى التقليل من مخاطرها عبر التوعية المستمرة، إلا أن الواقع يؤكد تحول هذه الظواهر إلى كوارث اجتماعية لم ينج من تداعياتها أبناء العرب والمسلمين. ولعل من أسباب عجز المؤسسة التعليمية عن الحدّ من هذه الظاهر وجود إخلالات عميقة في المنظومة التعليمية من بينها كسر السلطة الأبوية عبر دفع الأبناء إلى نوع من التعامل الندّي مع أوليائهم وغياب الوازع الديني بل التنفير من كل ما يتم إلى الأديان والقيم الدينية.  الأمر الذي جعل العديد من الأولياء يفكرون في حل بديل متمثلا في التعليم الخاص أو الحرّ. وهو حلّ إما غير متوفّر لدى المسلمين لنقص في مثل هذا النوع من المدارس مقارنة بالمدارس الخاصة اليهودية والمسيحية أو ليس في متناول كل الأسر لأسباب مادية.

ولم تكتف المؤسسات التعليمية بالضغوط النفسية على التلامذة والطلبة ذوي الانتماءات العربية الإسلامية من حيث الأجواء التي تشجع على الانحلال الخلقي والتميع، بل تعمد بعض المؤسسات إلى توجيه التلامذة من أصول أجنبية من بينهم عدد كبير من العرب والمسلمين في مرحلة اختيار التخصص العلمي ما بعد البكالوريوس إلى شعب علمية وتخصصات تقنية لا تحتاج إلى سنوات طويلة من التعليم. وغالبا ما يدفع الأستاذ المشرف هؤلاء التلامذة إلى هذا النوع من التخصص بعد محاولات عديدة لإقناعهم بتناسبها مع ميولاتهم كما يقنع أهاليهم بفوائد مثل التخصصات على مستقبل أبنائهم في ميدان الحياة العملية.

ب - التهميش على مستوى السكن والعمل

تقطن نسبة هامة من العرب والأفارقة ومن أصول أجنبية أخرى مجمّعات سكنية مكثفة. وبالرغم من الجهود الكبرى التي بذلتها مختلف الحكومات لتحسين ظروف السكن لهذه الفئات (هدم مجمعات سكنية قديمة تعود في معظمها إلى الستينات وبناء مجمعات جديدة..) لكن ظاهرة الإقصاء والتهميش ما زالت قائمة من حيث موقع هذه المجمّعات التي تقام عادة في ضواحي المدن الكبرى وتشكل حزاما شبه منفصل عن الحركية الاقتصادية والتجارية وسط هذه المدن، وكذلك من حيث ظروف العيش إذ لا تتوفر فيها جل المرافق من أجل حياة كريمة، لذلك تبدو مظاهر الفقر والبطالة واضحة، وما يترتب عنها من شعور بالإقصاء والتهميش تدفع بنسبة من الشباب في متاهات الانحراف وتعاطي المخدرات وشرب الخمر والعنف اللفظي والمادي. وتعود "قضية الضواحي" إلى السطح كلما تحصل أحداث عنف أو شغب أو انفجار موجة الغضب احتجاجا على الظروف القاسية. وقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن السيطرة على الأوضاع في أغلب الضواحي التي بها كثافة من فئات ضعيفة أصولها أجنبية عادة.

وبينت العديد من الدراسات أن سكان هذه الضواحي هم أكثر الناس تعرّضا للتمييز في العمل وفي بعض الخدمات الاجتماعية. ومن صور التمييز رفض مطالب الترشح للعمل لمجرّد كون أصحابها يحملون أسماء وألقاب ذات طابع عربي افريقي، وخاصة إذا كانوا يقطنون الأحياء السكنية في ضواحي المدن الكبرى. وجاء في نتائج إحدى الدراسات قام بها معهد مونتاني أن "حامل اسم محمد له حظوظ في الحصول على عمل أقل بأربع مرّات من حظوظ حامل اسم ميشال". وما يعني ذلك من شعور بالغبن لدى أبناء العرب والمسلمين في بلد مثل فرنسا تفتخر نخبته السياسية والفكرية بانه رائد شعارات الثورة الفرنسية " حرية ومساواة وأخوة"، علاوة على تداعيات هذا التمييز على الاقتصاد من خسارة فادحة وتأخر مقارنة بدول متقدمة أوروبية وغير أوروبية بسبب عدم الاستفادة من جميع الكفاءات وإقصاء نسبة منها وتهميشها بناء على انتماءاتها الدينية والعرقية.

 

 

بعض أشكال التمييز في العمل 

وللعلم، فإن ظاهرة تهميش أو إقصاء الشباب أو الكفاءات من أصول مهاجرة قائم رغم الإجراءات القانونية التي تسعى إلى ردع القائمين بذلك. بل إن القوانين الحالية وإن كانت تمنع عمل المحجبة في القطاع العام، فإنها تحمي نظريا من ترتدي الحجاب إذا تعرضت لتمييز بسبب حجابها في القطاع الخاص. وتعاني اليوم الكثير من المحجبات من هذا المشكل لأنه يتسبب في إقصائهن من الحياة الاجتماعية والاقتصادية وله تأثير على الحياة الأسرية لأن المرأة تحتاج أحيانا إلى مساعدة زوجها لكن أبواب العمل موصدة في وجهها.

  • التهميش على مستوى دوائر التأثير

وإذا كانت قاعدة التساوي في فرص العمل غير مطبقة بالشكل الكافي، فلا غرابة أن يكون الوضع أكثر تعقيدا كلما تعلق الأمر بالدخول في دوائر التأثير في المجتمع، وعلى رأسها دائرتا الإعلام والقرار السياسي.

إعلاميا، لم يتمكن أبناء العرب والمسلمين بعدُ من الولوج إلى مواقع التأثير الإعلامي وبقي حضورهم في كبريات وسائل الإعلام هامشيا، ولا يرقى إلى مستوى مجموعات الضغط (لوبيات)، مقابل تعدد المواقع المهتمة بالتعريف الإسلام وبأخبار المسلمين لكن مع محدودية تأثيرها. وقد يكون سبب هذا الضعف ناتجا عن أسباب ذاتية للكيان المسلم داخل المجتمعات الغربية ومن بينها التفاوت الكبير بين الخطاب الإسلامي الواعي بضرورة امتلاك أدوات ومنابر إعلامية مؤثرة، وبين تنزيل هذا الخطاب على أرض الواقع، وذلك نتيجة النقص في امتلاك متطلبات العمل الإعلامي المؤثّر، وفي توفير الأسباب والشروط الضرورية لتحقيقه، ومن أهمّها العامل البشري والعامل المالي والتجربة المهنية. ويسجل خلال السنوات الأخيرة بروز طاقات شابة جديدة مهتمة بالإعلام ومتحفزة للعمل الإعلامي المحترف، لكن الأبواب شبه مغلقة أمامها للدخول في باب الاحتراف المهني وبالتالي هناك صعوبة في الارتقاء في سلّم الوظائف المؤثرة.      

ويندرج الملف السياسي في نفس السياق، فقد ظهرت في السنوات الأخيرة بوادر لإدراج أسماء عربية وافريقية على قوائم الأحزاب في الانتخابات البلدية أو المحلية الأمر الذي يفسر وجود بعض أبناء العرب والمسلمين في المجالس البلدية، وذلك بعد أن أصبحت الأجيال الناشئة في فرنسا والغرب عموما أكثر مطالبة بحقوقها في المواطنة الكاملة التي من بين شروطها المشاركة في صنع القرار والممارسة الميدانية.

ويبقى الإشكال حول ارتقاء هذا الصنف من المواطنين إلى مواقع الريادة ومناصب السيادة، إذ من الصعب أن تجد شخصية سياسية بارزة تنتمي إلى العرب والمسلمين. صحيح انه تم تعيين وزراء محسوبين على الجالية العربية والإفريقية الإسلامية (مثل رشيدة داتي من اب مغربي وأم جزائرية وفضيلة عمارة من أصل جزائري وراما يادي Rama Yade من أصل سنغالي)

 

رشيدة داتي، راما ياد  وفضيلة عمارة
 

لكن يتبين أن الاختيار يقع على شخصيات متشربة في أغلبها للقيم الغربية وأحيانا مناهضة للقيم الدينية، ومركّز أكثر على وجوه نسائية، بقدر ما يتم توظيف وجود مثل هذه الوجوه والأسماء بغية إبراز طابع انفتاح القيادة السياسية الرسمية على مختلف مكونات المجتمع الفرنسي، علاوة على الوعي بتنامي الوزن الانتخابي للمسلمين، وهو ما يبدو من خلال بعض المؤشرات مثل سعي جلّ السياسيين والأحزاب والتنظيمات السياسية إلى كسب أصوات المسلمين بالتقرب منهم ومجاملتهم.

وفي حصيلة الأمر، فإن مظاهر التهميش والإقصاء التي تستهدف شريحة العرب والأفارقة والمسلمين في فرنسا ليست منفصلة عن سياسة عامة في التعامل مع الفئات الاجتماعية المصنفة في خانة الفئات الضعيفة. إذ أن التهميش والإقصاء يطالان أيضا مواطنين من أصول فرنسية شبابا وكهولا وشيوخا. ولعل الحركة الاحتجاجية التي عرفت بالسترات الصفراء الصورة الأكثر تعبيرا عن هذا الأمر.

  1. السترات الصفراء حركة احتجاجية

انطلقت منذ 17 من نوفمبر 2018 حركة احتجاجية في فرنسا عرفت بالسترات الصفراء. وذلك إثر الترفيع في أسعار ضرائب الطاقة. وبمرور الوقت، أخذت هذه الحركة طابعا خاصا من حيث الشكل ونوعية المطالب.

من حيث الشكل، هي حركة ليست كبقية الحركات الاجتماعية الأخرى ولها سمات خاصة من حيث الديمومة (لم تتوقف بعد، وهناك تحركات احتجاجية كل أسبوع) ومن حيث اتساع رقعتها (في عدة مدن فرنسية على المستوى الوطني) ومن حيث جمعها بين التظاهر السلمي والمصادمات العنيفة مع قوات الأمن، ومن حيث شعبيتها (تجمع بين الشباب وبين كبار السن الذين هم في التقاعد). أما الجانب المطلبي، فإن سقف المطالب ارتفع من مجرد الاحتجاج على الضرائب إلى قضايا سياسية واجتماعية جوهرية.

عندما تزرع الفقر تحصد الغضب. فرنسيون غاضبون

وككل حركة احتجاجية بهذه النوعية، فقد تعرضت إلى التوظيف السياسي من قبل بعض أحزاب المعارضة خاصة حزب "التجمع الوطني" الذي ينتمي إلى ما يسمّى بأقصى اليمين وتتزعمه ماري لوبان المنافسة للرئيس الحالي إيمانوال ماكرون في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية السابقة سنة 2017 بنسبة حوالي 34 بالمائة. وبدون شك، فإن من مصلحة المعارضة إبراز الرئيس الحالي في موقف ضعف، ولكن خارج الاعتبارات السياسية، هناك مسألة جوهرية وراء حركة الاحتجاج الاجتماعية الواسعة غير العادية في فرنسا. تتمثل في الشعور بالتهميش والإقصاء لدى الفئات الاجتماعية الضعيفة نتيجة التوزيع غير العادل للثروات في ظل نظام رأسمالي مجحف يزيد الغني غنى والفقير فقرا. 

وقد انطلقت الحركة بعد الترفيع في الضرائب على المحروقات واتسعت رقعة الاحتجاج لتشمل مختلف جوانب الحياة. وتبين من خلال هذه الحركة عمق الشعور بالغبن إزاء اتساع الهوة بين الفئات الضعيفة والفئات المُترَفة. وبالنسبة للفئات الاجتماعية الضعيفة، فإنها تعيش التهميش مقابل تحملها أعباء الظلم الاجتماعي والتفاوت الاقتصادي والقرارات السياسية المجحفة.

ومن الشعارات التي رفعت في هذه الحركة أن الرئيس الفرنسي الحالي هو "رئيس الأغنياء" إشارة إلى أنه عمل سابقا في خدمة مؤسسة روتشيلد وأن لوبيات المال والأعمال هي التي ساعدته على الوصول إلى السلطة فجاء لخدمة صالحها. الأمر الذي يفسر غضب المحتجين على إلغاء "الضريبة على الثروة" بقرار رئاسي.   

 ويتحول الصراع بين الدولة وأصحاب "السترات الصفراء" من البعد الاقتصادي الاجتماعي عبر المطالبة بالعدالة الاجتماعية إلى الصراع السياسي عبر المطالبة بمراجعة منظومة القرار السياسي وبضمان مشاركة أفضل للمواطن في اتخاذ القرار. ومن بين المقترحات التي يدور حولها جدل كبير ما يسمى بتنظيم استفتاء "المبادرة الشعبية" على الطريقة السويسرية. والاستفتاء الشعبي هو تقليد ديمقراطي قوامه اقتراع عام مباشر يدعى إليه الناخبون للفصل في تعديلات ذات طبيعية تشريعية أو دستورية أو حتى ترابية، بطلب من الحكومة أو بناء على تعبئة شعبية، حسبَ القوانين المعمول.

وأوضحت صحيفة» لوموند «الفرنسية الصيغة التي طرحتها حركة السترات الصفراء بشأن هذا الاستفتاء الشعبي والتي جاءت كالتالي «يمكن للمواطنين تقديم اقتراح لقانون على موقع واضح وفعال تحت إشراف هيئة رقابة مستقلة شريطة أن يحصلوا على 700 ألف توقيع موافق على اقتراح القانون، وإذا تم جمع التوقيعات المطلوبة فسيتعين على الجمعية الوطنية أن تناقش الاقتراح وتكمله وتعديله قبل أن تطرحه للتصويت على جميع الفرنسيين»، في موعد أقصاه سنة واحدة بعد جمع العدد المطلوب من التوقيعات.

وينص الدستور الفرنسي على أن الاستفتاء الشعبي يجري بناء على مقترح من الحكومة أو مقترح من غرفتيْ البرلمان (الجمعية الوطنية ومجلس الشيوخ). وفي حال كان المقترح مقدما من قبل جمعيات أهلية يلزمه - ليقدم للاستشارة الشعبية- الحصول على توقيعات 1% من الهيئة الناخبة وخمس أعضاء غرفتيْ البرلمان.

وفي سويسرا تنبثق أغلب الاستفتاءات عن مبادرات شعبية تعمل على جمعِ قدر من التوقيعات يحدده القانون ليتسنى تقديم المقترح إلى السلطات لتحيله على المجلس الدستوري للتأكد من دستوريته، ثم يُحدد تاريخ الاستفتاء وتُدعى الهيئة الناخبة إليه. وهو ما يسعى اليوم أصحاب السترات الصفراء في فرنسا إلى الضغط من أجل تحقيقه.

 

"استفتاء المبادرة الشعبية" أحد المطالب الرئيسية للسترات الصفراء  

ومن بين تداعيات حركة السترات الصفراء عدوى الاحتجاجات التي تجتاح عددا من دول العالم، حيث دعت نقابة العمال الألمانية «فيردي» العمال في شركة أمازون العالمية للتسويق إلى الإضراب لتحسين الأجور ووضع شروط أفضل للعمل.

وبالنسبة للفيلسوف الإيطالي أنطونيو نيغري، فإن السترات الصفراء هي جزء من اتجاه لوحظ في أوروبا والعالم منذ 2011، من حركة وول ستريت إلى الثورة التونسية. ويرى أننا "على وشك تحول عالمي".

 

المحور الثاني: قراءة في أسباب الإقصاء

قبل الحديث عن معالم العلاج بمقاربة أخلاقية لظاهرة التهميش والإقصاء، يجدر التطرق إلى الأسباب، وهي عديدة ومن أهمها:

  1. الثقل التاريخي وتداعياته:

لا يمكن فهم الحاضر بدون الغوص في أعماق التاريخ. وللحديث عن ملف الفئات الضعيفة وأسلوب التعامل معها، يحتاج الأمر إلى محاولة استكشاف تطور قوى موازين القوة داخل فرنسا وخارجها.

  • الحروب الصليبية

إذا كانت فرنسا اشتهرت بثورتها في القرن الثامن عشر، فإن التاريخ الفرنسي اتسم بالطابع التوسعي ونزعة الاستعلاء على الشعوب الأخرى تأثرا بنزعة الهيمنة والتوسع لدى الامبراطورية الرومانية التي حكمت أوروبا بعد الامبراطورية اليونانية.

أمام تشكل موازين قوة جديدة في العالم تنافس هيمنة القوتين المهيمنتين، وعلى رأسها مد الفتوحات الإسلامية في منطقتي الفرس والروم، كان ردّ الفعل قويا وحشدت قوات كبرى لمهاجمة العالم الإسلامي في إطار ما يسمى بـ "الحروب الصليبية" التي دامت حوالي قرنين.

ومن داخل فرنسا وتحديدا من مدينة كلارمون فيران Clermont Ferrand    أطلق البابا إيربان الثاني في نهاية القرن الحادي عشر (سنة 1095) نداءه الشهير للمسيحيين في القارة العجوز للقيام بحروب صليبية مقدسة لتحرير فلسطين موطن المسيح عليه السلام من   "همجية الترك" والمقصود بهم في ذلك الوقت السلاجقة الترك المسلمون الذين أبعدوا الفاطميين ذوي التوجهات الشيعية وبسطوا نفوذ العباسيين على تلك المناطق، الأمر الذي أغاظ القيادة المسيحية فأعلنت الحرب على المسلمين بحجة أن هؤلاء محرفون للعقيدة الصحيحة (المسيحية). 

لكن أن تكون فرنسا هي منطلق الهجمات الصليبية على العالم الإسلامي والتي تواصلت حوالي قرنين من الزمن بداية من 1096، فهذا يعني أن هذه المرحلة التاريخية ستترك آثارا عميقة إلى اليوم على مستوى العلاقة بين العالم الإسلامي وفرنسا تحديدا التي سيغلب عليها طابع التوتر والصراع.

وغني عن القول أن هذه الحروب كانت تسبقها وتصحبها عملية تعبئة قوية للقوات المهاجمة بكل الصور النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين، ووصف هؤلاء بالوحشية والهمجيّة والعنف والرغبة الجامحة في احتلال العالم المسيحي والتعطش للدماء وغيرها من الأوصاف التي تلهب حماس المسيحيين للقضاء على "العدو" في حرب "دينية مقدّسة"، حيث كان قادة الحملات الصليبية يزعمون أن الله يطلب منهم مقاتلة المسلمين.  

فلا غرابة أن تكون النّتائج كارثية من حيث الخسائر البشرية وعلى مستوى العلاقات بين العالميْن الإسلامي والمسيحي، لكن هذا اللقاء - الصّدامي- كان فرصة لكل طرف ليكتشف الطرف الثاني. وهذا الاكتشاف كان مرحلة ضرورية لمستقبل العلاقة بين الطرفين، من خلال اكتشاف مواطن القوة والضعف لدى "الخصم" الحضاري.   

  • الاستشراق  

وفي هذا السياق شجعت الكنيسة بالتوازي مع الحروب الصليبية على اكتشاف مواطن القوة والضعف لدى "الخصم" الحضاري في ذلك الوقت، وهم المسلمون. عبر دراسة مرجعيتهم الدينية (القرآن والسنة) وسيرة قدوتهم (الرسول صلى الله عليه وسلم) وتاريخهم. وكان الدافع في البداية تبشيريا. فقد  ذهب ((رودي بارت))  وهو مستشرق ألماني إلى أن "الهدف الرئيسي من جهود المستشرقين في بدايات الاستشراق في القرن الثاني عشر الميلادي وفي القرون التالية له: هو التبشير، وعرّفه بأنه: إقناع المسلمين بلغتهم ببطلان الإسلام، واجتذابهم إلى الدين المسيحي"

إن مصطلح الاستشراق مشتق من كلمة الشرق أو المشرق والتي تعرف بكلمة ORIENT، واستعمال هذا المصطلح من طرف الأوروبيين يحمل خلفية النظرة الأوروبية لتقسيم العالم التي سادت مند القرون الوسطى ومازالت آثارها إلى اليوم،

وتقوم هذه النظرة على اعتبار أوروبا مركز العالم، حيث أنها تقع جغرافيا بين شرق - خليط من الأجناس والأعراق والأديان-  يمثل الآخر المختلف حضاريا وثقافيا عن أوروبا، وغرب أقصى ما وراء المحيط إشارة إلى العالم الأمريكي الجديد الذي هو نتاج الهجرة الأوروبية. ثم إنها مثلت مركز الإشعاع الثقافي ومركز القوة والنفوذ حتى وقت قريب، بل إن عددا من الأوروبيين ما زال يعتبر أوروبا إلى اليوم هي المحور السياسي والثقافي والاستراتيجي للعالم. فالاهتمام الأوروبي بدراسة الشرق أو المشرق انطلق من خلفية مركزية أوروبية.

أما الخلفية الثانية لهذا المصطلح فهي أن أوروبا هي جزء من العالم الغربي "المتحضر" وأن ما بقي من العالم يدخل في نطاق الشرق "المتخلف" حضاريا. وفي هذا الإطار، لم تعد كلمة الشرق محصورة في البعد الجغرافي المعروف، بل شملت الفضاءات المحيطة بأوروبا شرقا وجنوبا، والتي توافق مناطق العالم الذي انطلق منه الإسلام وتنتمي إليه الشعوب العربية المسلمة. وهكذا، أصبحت كلمة الشرق ترمز في الذهنية الأوروبية إلى المشرق الذي اختُزل في أساسا في العالم العربي –الإسلامي. الأمر الذي يفسّر النظرة الدونية للإسلام والمسلمين، والتي عبّرت عنها أدبيات صنف من المستشرقين المتحاملين.

يقول ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق ص 124" ولم يصبح الإسلام رمزا للرعب والخراب وجحافل الهمجيين الشيطانية الكريهة بلا سبب، فلقد كان يمثل لأوروبا صدمة نفسية متصلة الحلقات، إذ كان "الخطر العثماني" يكمن حتى نهاية القرن السابع عشر بجوار أوروبا ويمثل خطرا دائما على الحضارة المسحية بأسرها وعلى مر الزمان، تمكنت أوروبا من أن تدرج هذا الخطر ومأثوراته التقليدية، وأحداثه العظمى وشخصياته البارزة ومناقبه ومثالبه في صلب حياتها"

  • مرحلة السيطرة والهيمنة الاستعمارية: الأنانية المركزية لدى الرجل الأبيض والنظرة الاستعلائية على الشعوب

وخلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، استفاد الأوروبيون من مواطن الضعف لدى المسلمين بعد أن بدأت مؤشرات تراجع قوة الخلافة العثمانية.

ونتيجة لذلك، اتسمت هذه المرحلة بالهيمنة والسيطرة الأوروبية على العالم الإسلامي. بما يعنى أن هذه العلاقة كانت في اتجاه أحادي يتسلط فيها طرف قوي مهيمن (الإمبراطوريات الأوروبية في ذلك الوقت) على طرف ضعيف مشلول الإرادة السياسية (العالم الإسلامي) دون أن يتوقف قلبه النابض (الجانب العقائدي) عن مدّه بالطاقة التي مكّنته من عدم التوقف عن مقاومة التسلط الخارجي.

واختلفت أشكال الهيمنة بداية من عمليات الغزو مثل غزو نابليون لمصر في يوليو سنة 1798، وانتهاء بالسيطرة الاستعمارية على الأراضي الإسلامية، منذ سنة 1830 تاريخ الاستعمار الفرنسي إلى الجزائر ثم الاستعمار البريطاني لمصر سنة 1882 بهدف الاستيلاء على وادي النيل واستغلال خيراته وتأمين طريق الهند. وبين هذا الشكل وذاك، كانت هناك محاولات عديدة لإضعاف الصف الإسلامي بأساليب متعددة من أبرزها إحداث الفتن والانشقاقات الداخلية مثلما حصل مع آخر خليفة عثماني السلطان عبد الحميد الثاني الذي تم إسقاطه عن طريق حركة الاتحاد والترقي التي كانت تدعو إلى قومية تركية مختلفة عن الهوية العربية الإسلامية. وفي المقابل، كان تشجيع دعاة العروبة للانفصال عن الخلافة العثمانية بدعوى عدم رضى العرب بحكم الأتراك. وانتهت هذه المحاولات بإسقاط الخلافة الإسلامية نهائيا سنة 1924 بتحريض من القوى الخارجية، وتقسيم التركة العثمانية وإقحام المسار العلماني في سياسة العالم الإسلامي بداية من حكم أتاتورك في تركيا. 

وأهم ما يشار إليه في هذه المرحلة التي تمثل محطة سوداء في العلاقة بين الطرفين، أن القوى الاستعمارية اكتشفت مدى صمود الشعوب أمام الهجمة الاستعمارية الأوروبية ولم تحسب حسابا كبيرا للعامل الديني ودوره في عملية التصدي للغزو الخارجي.  ففي البلاد الإسلامية مثلا، استطاعت حركات المقاومة تحت راية الجهاد أن تقاوم الاستعمار مقابل تضحيات جسام، وقد تركت هذه المرحلة التاريخية الاستعمارية بصمات كبيرة على علاقة الشعوب الإسلامية بأوروبا. 

وقد قدم عدد من المستشرقين في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر خدمة "جليلة " لقوى الاستعمار الفرنسية والبريطانية أساسأ من خلال الانغماس في دراسة المجتمعات "الشرقية"، عاداتها وتقاليدها وأنماط عيشها ومرجعيتها الفكرية والعقائدية، مما سهّل على المستعمِر تحديد حجم قدرة هذه الشعوب على الصمود والمقاومة، والبحث عن مداخل لمحاصرة قوى المقاومة ثم التصدي لها. وبذلك يكون دور هذا الصنف من الاستشراق مكمّلا لدور فئة من المختصين في علم دراسة الإنسان (أنثروبولوجيا) الذين يذهب بعضهم ليعيش مع الشعوب التي يدرسها ويخالطها من أجل فهمها بعمق من الداخل. وفي نفس الوقت، كانت الأدبيات الاستشراقية تُدرج في إطار مناهج التعليم، فيكون لها دور مضاعف: التشكيك في الإسلام من ناحية وتسريب الأفكار التي يحملها المستعمر حول النظرة للإنسان والكون والحياة من ناحية ثانية. يقول ادوارد سعيد في كتابه الاستشراق ص 47"ومنذ بداية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الخرب العالمية الثانية، كانت لفرنسا وبريطانيا السيطرة على الشرق والاستشراق، واما منذ انتهاء هذه الحرب، فأمريكا هي التي تسيطر على الشرق"ً. كما يمكن تصنيف المستشرقين من حيث الأدبيات والمضامين إلى مستشرقين متحاملين على الإسلام وأهله وصنف آخر منصف. واستعمل الاستشراق المتحامل عدة مداخل لتشويه صورة الإسلام والمسلمين من بينها:

-  مصطلح "السراسنة" (Les Sarrazins) ، كمصطلح احتقاري للعرب

- إسـاءة توظيف ألف ليلة وليلة

- التشكيك في المصادر الأساسية للإسلام/ القرآن والسنة

- تشويه سيرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم

ومن السلبيات لهذا الصنف من الاستشراق:

سيادة النظرة المشوهة عن الإسلام من بينها:

- المرأة التي اقترنت بفكرة الحريم

- العنف الذي مهد لفكرة الإرهاب

- فكرة الشرق الرومانسي، المهتم بالعاطفيات والخيال بعيدا عن العقلانية والعلم

وقد وصلت هذه النظرة السلبية والمشوهة إلى البلاد الإسلامية فتأثرت بها فئة من النخبة السياسية والمثقفة، فكانت تستعمل هذه الأدوات الاستشراقية لمحاربة الإسلام والتهجم عليه. 

وبصفة عامة، يمكن القول بأن الصنف المتحيز من المستشرقين- وفيهم نسبة مهمة من الفرنسيين مثل لويس ماسينيون- ساهمت كثيرا في إرساء ما يسمى اليوم بظاهرة الاسلاموفوبيا المنتشرة اليوم في البلاد الاوروبية. بحيث تكون جذور هذه الظاهرة ضاربة في التاريخ (منذ القرن الثاني عشر) وليست وليدة اليوم.

وبعملية الربط بين الماضي والحاضر، يمكن فهم ما تبثه وسائل الإعلام الغربية – من بينها الفرنسية – من صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين.

 

  1. الصورة النمطية السلبية عن الإسلام والمسلمين في الإعلام

تتعمد بعض وسائل الإعلام الفرنسية طرح ملف الوجود الإسلامي في فرنسا وأوروبا بخلفية سلبية بالتأكيد على أن هذا الوجود يمثل مصدر إزعاج بشكل أو بآخر. وبعض العناوين والصور تعبّر عن هذا الهاجس.

 

 

عنوان غلاف إحدى المجلات الفرنسية: "الإسلام: الحقائق المزعجة"

 

وﺗﺘﺠﻠﻰ اﻟﺼﻮرة  اﻟﺴﻠﺒية ﻓﻲ ﻣﻔﺎﺻﻞ أو ﻣﺤﺎور أﺳﺎﺳية ﻧﻤﻄية:

  • اﻟﻌﻨﻒ ورﺑطه ﺑﺠﻮهر اﻟﺸﺨﺼية اﻹﺳﻼﻣية،
  • اﺣﺘﻘﺎر اﻟﻤﺮأة ﻓﻲ اﻹﺳﻼم وﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻤﺴﻠﻤﺔ،
  • وﻣﺴﺄﻟﺔ اﻟﺘﺨﻠﻒ وﻋﺪم اﻣﺘﻼك ﻣﻘﻮﻣﺎت اﻟﺘﺤﻀّﺮ واﻟﺘﻘﺪم واﻟﺤﺪاﺛﺔ.

 

  •  العنف

اقترنت المعالجة الإعلامية للقضايا الإسلامية في عدد من وسائل الإعلام الفرنسية والغربية بمسألة العنف. إلى حدّ اقتناع نسبة كبرى من الٍرأي العام بالعلاقة المتلازمة بين الإسلام والعنف. أما التعبير عن هذه العلاقة فقد اتخذ أشكالا مختلفة. تارة الاصولية والراديكالية وتارة أخرى التطرف والإرهاب    

وعلى ذكر الإرهاب، هناك ﻣﻦ يعتبر أن ﻣﻨﻄﻠﻘﺎت ﻣﻘﺘﺮﻓﻲ ﻋﻤﻠية اﻹرهاب إيديولوجية، ويصف هﺆﻻء ﺑﺄﻧهم ﻣﻦ ﺣﻤﻠﺔ اﻟﻔﻜﺮ اﻹﺳﻼﻣﻲ اﻟﻤﺘﺸﺪد ويسمونهم "اﻷﺻﻮﻟيون" أو "اﻟﺮاديكاليون"، ﺑينما ﻗﻠّﻤﺎ يتم اﻟﺤﺪيث ﻋﻦ اﻟﻤﻨﻄﻠﻘﺎت اﻟﺴياسية ﻟﻺرهاب اﻟﺘﻲ ﺗﺮﺑﻂ ﺑين ﻣﺎ يحدث ﻣﻦ ﻋﻤﻠيات العنف واﻟﻈﻠﻢ اﻟﻤﺴﻠّﻂ ﻋﻠﻰ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﺳﻼﻣﻲ. إن اﻟﺘﺄﻛيد ﻋﻠﻰ اﻟﺒﻌﺪ اﻟﺪيني ﻟﻠﻌﻨﻒ ﻟﺪى اﻟﻤﺴﻠﻤين يطرح اﻟﻤﻮﺿﻮع ﻋﻠﻰ ﻧﻄﺎق اﻻﺧﺘﻼف اﻟﺤﻀﺎري ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺴﺘﻮى اﻟﻘيمي بين اﻹﺳﻼم واﻟﻐﺮب، ويتم ربطه ميدانيا وواﻗﻌيا ﺑﻤﺴﺄﻟﺔ اﻹرهﺎب ﺑﺤيث يصبح هذا اﻻﺧﺘﻼف ﺑين ﻣﻦ يحملون ﻋﺪاء ﻟﻠﻐﺮب وأﻧﻈﻤته اﻟﺪيمقراطية وﻻ يتورعون ﻓﻲ اﺳﺘﻌﻤﺎل اﻟﻌﻨﻒ  وﻗﺘﻞ اﻷﺑﺮياء ﺑﺎﺳﻢ اﻟﺪين ﻣﻦ ﻧﺎﺣية، وبين غربيين اﺗﺨﺬوا ﻣﻦ اﻟﺪيمقراطية واﺣﺘﺮام ﺣﻘﻮق اﻹﻧﺴﺎن منهجا ﻟﺤياتهم وﻧﻈﺎﻣهم اﻟﺴياسي ﻣﻦ ﻧﺎﺣية أﺧﺮى.

 

صورة معبّرة وكلمات مختصرة مؤثرة

 

 

عنوان كبير في غلاف إحدى المجلات الفرنسية:" فرنسا وأوروبا: الإسلام لماذا يخيف؟" وهو عنوان لملف يتضمن 40 صفحة فيه تحقيقات وشهادات وعمليات سبر آراء.

 

 

  •  صورة اﻟﻤﺮأة المحتقرة ﻓﻲ اﻹﺳﻼم وﻓﻲ اﻟﻤﺠﺘﻤﻌﺎت اﻟﻤﺴﻠﻤﺔ

 

يكاد المرء لا يحتاج إلى وقت وجهد كبيرين لكي يستخلص بجلاء مدى الشبهات المتعلقة بصورة المرأة المسلمة في الإعلام الفرنسي والغربي. كما أنه لا يكاد يخلو ملف معالجة إعلامية لقضايا الإسلام وأهله دون أن يكون العنصر الخاص بالمرأة حاضرا بنفس الخلفية التي تتكرر بأشكال مختلفة. وأهم قضية تناقش أو يشار إليها في هذا المجال غياب المساواة بين المرأة والرجل. والمبررات كثيرة في نظر المعلقين والإعلاميين، بداية من الحجاب إلى الميراث إلى تعدد الزوجات.. والخلاصة أن حقوق المرأة المسلمة مهضومة ودورها هامشي.

 

إلا أن المتتبع لوسائل الإعلام الغربية يلاحظ بداية تحول في هذه النظرة. ولعل التفاعل مع قضية الحجاب في فرنسا والجدل الكبير الذي أثارته على مستوى النخب والعامة عبر وسائل الإعلام، أفرز نوعا من المراجعات في الخطاب وفي الصورة. فلم تعد وسائل الإعلام الفرنسية على سبيل المثال ترى مانعا من استضافة فتيات ونساء محجبات ليناقشن ويتحدثن في قضايا اجتماعية وغيرها. وبدأت الصورة النمطية السلبية عن المرأة المسلمة الجاهلة والمسلوبة الشخصية تهتزّ لدى الرأي العام بعد أن ثبت بالحجة بأن الحجاب الذي ترتديه الفتاة المسلمة ليس عائقا أمام العلم والثقافة.. وبالنظر إلى أن القضايا المتعلقة بالوجود الإسلامي وتطبيق العلمانية تشد انتباه الرأي العام، تتم أحيانا استضافة نساء محجبات على شاشات التلفزيون يحملن شهادات عليا ويعملن في وظائف مميزة في المحاماة والتعليم.. ويتقنّ لغة البلد ويشاركن في نقاش مفتوح يشاهده الملايين من الناس.. كتلك المرأة المحجبة التي أفحمت الوزير الاول السابق فالس الذي رشح نفسه لرئاسيات 2017 والمعروف بخطابه المتشدد إزاء مظاهر الإسلام. فسألته بوضوح "هل يحرجك حجابي وأنا مواطنة فرنسية؟ فارتبك وقال هذا من حقك. وحاول تحويل النقاش إلى مسألة النقاب.

وبالفعل، هناك محاولة لاستدامة الصورة النمطية السلبية عن المرأة المسلمة من خلال إبراز المرأة المنقبة عبر الصورة والكاريكاتور. وذلك حتى يبقى الإسلام والمسلمون كبش المحرقة وإقناع الرأي العام بأنهم مصدر كل المشاكل.

 

 

يظهر الكاركاتور صورة مخيفة لامرأة منقبة تماما تقوم شخصيتان سياسيتان من حزب اليمين التقليدي الفرنسي وهما  نيكولا ساركوزي وكوباي بالتآمر عليها بتحميلها مسؤولية كل مشاكل فرنسا وأزماتها من بطالة وارتفاع نسبة المعيشة وملف التقاعد وظاهرة المحرومين من السكن المهمشين في المجتمع..

 

 

الحجاب يعوّض العلم الفرنسي ثلاثي اللون

 

 

  •  التخلف وعدم مواكبة الحداثة

علاوة على ما تقدم، تبقى المعالجة الإعلامية السلبية للقضايا الإسلامية مصبوغة بخلفية مفادها أن الإسلام صنوان التخلف. حيث تتعمد وسائل إعلامية إبراز صورة منفّرة مفادها أن المسلمين لا يمكنهم مواكبة الحداثة والتطور. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يقوم بعض الصحفيين المكلفين بإعداد تقرير عن إحدى المساجد، بتصوير أحذية المصلين في مدخل المسجد بدل تصوير المنبر أو قاعة الصلاة التي تحتوي أحيانا على نقوش هندسية جميلة وفن معماري أصيل. لقائل أن يقول هذا هو الواقع وعدسة الصحفي التقطت مشهدا أثار فضوله. ولكن كان بإمكانه التغاضي عن هذه المسألة وإبراز جوانب أكثر تعبيرا عن العبادة والصلاة. وواضح أن الرسالة التي يريد هذا الإعلامي إيصالها إلى الرأي العام لا تخلو من خلفية استفزازية في نفس الوقت لمشاعر المسلمين وللرأي العام.

صورة أحذية المصلين في مدخل المسجد

 

المساجد تغزو

 

ومحاولة مواكبة هذه التحولات.  

 ومن خلال ما تقدم يمكن اﻟﻘﻮل ﺑﺄن ﺻﻮرة اﻹﺳﻼم واﻟﻤﺴﻠﻤين ﻓﻲ اﻹﻋﻼم الفرنسي يغلب عليها اﻟﻄﺎﺑﻊ اﻟﺴﻠﺒﻲ وﻟﻜﻦ دون اﻟﺴﻘﻮط ﻓﻲ اﻟﺘﻌﻤيم.

 

  1. طغيان الفكر العلماني بأبعاد كونية

كلما ذُكرتْ فرنسا في علاقتها بالدين، تمر على الذهن مسألة تكاد يختص بها هذا البلد وهي طغيان الفكر العلماني بأبعاد كونية أي بالنظرة إليه على أساس كونه مشروعا عالميا، ينافس الديانات السماوية الكبرى.

ومعلوم أن فرنسا من أكثر البلدان التي شهدت حروبا دينية خاصة بين الكاثوليك والبروتستانت، وجاء قانون 1905 ليفصل الدين عن الدولة من أجل التخفيف من وطـأة الدين على المجتمع في انتظار سحبه تدريجيا من الفضاء العام وحصره في الفضاء الخاص. ولم تتمكن الكنيسة من الصمود أمام القانون، ولكنها تمكنت من الدفاع عن فكرة حيادية الدولة إزاء الشأن الديني. ولهذا استطاع المسيحيون وكذلك أصحاب الديانة اليهودية من إقامة مدارس خاصة لضمان التعليم الديني.

وبحضور المسلمين ونشأة أجيال جديدة لها أقدار من الوعي، أصبحت هي أيضا تطالب بحقوق المواطنة، ولكنها اصطدمت بعودة الخطاب الرسمي إلى مربع العلمانية باعتبارها أحد أعمدة الجمهورية الفرنسية في ظل تزايد مظاهر التدين لدى الشباب المسلم وعلى رأسها لبس الحجاب. وأخرج بعض دعاة العلمانية هذا الفكر من حيادية الدولة إلى نوع من السلطوية المعادية للدين ومن الأحادية الفكرية التي لا تقبل النقاش فيما يروه أصحابها "مقدسات" لا تحتمل التأويل. فانطلقت "معركة" الحجاب في فرنسا منذ التسعينات ولم تتوقف فصولها إلى اليوم.

 

  1. طغيان العقلية المادية الرأسمالية وبروز أحزاب عنصرية

لم تكن الثورة الفرنسية لتحصل سنة 1789 لو لم تكن هناك عوامل لانفجارها. فالنظام الملكي الذي ساد في ذلك الوقت استبد بالسلطة والثروة وساعده على ذلك رجال الكنيسة الذين سيطروا بدورهم على الأرض والعباد، وهيمنوا على الحياة الاقتصادية وعطلوا حركة الفكر. فكانت ثورة على الاستبداد السياسي والهيمنة الدينية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والديمقراطية السياسية.  وانطلقت الدعوة إلى احترام حقوق الإنسان في ظل ثلاثية اشهرت بها فرنسا وتحولت إلى شعار بارز "حرية ومساواة وأخوة".  وتم إلغاء الثلاثية التي سادت القرون الوسطى التي تقسم المجتمع إلى ثلاث فئات "ملكية ورجال دين والسواد الأعظم", وهو ما يعني أن الفئات الضعيفة كانت مسحوقة. 

لكن أصحاب النفوذ المالي والسياسي تمكنوا من السيطرة من جديد على مفاصل الدولة والقوة والثروة، وظهر نابليون ليحول فرنسا إلى إمبراطورية قادت حملات عسكرية من أشهرها الحملة على مصر سنة 1798 التي مهدت للحقبة الاستعمارية والتي استثمرتها الإمبراطورية لتعزيز نفوذها الاقتصادي والعسكري والثقافي، وتقوية نفوذ اللوبيات الرأسمالية.

 وشهد القرن العشرين انقسام أجزاء كبرى من العالم إلى قطبية ثنائية بين المعسكر الشرقي الشيوعي والمعسكر الغربي الرأسمالي. وكانت فرنسا من قيادات المعسكر الثاني وترسخ المد الرأسمالي فيها وبدأت تتعمق الفجوة بين الفئات الاجتماعية. وكانت الفئات الضعيفة هي من دفعت أكثر من غيرها ضريبة حربين فتاكتين، بعد أن انتشرت الفاشية والنازية وأعلنت الحرب في أوروبا وخارجها. وكانت فرنسا من أكثر البلدان تضررا خلال الحرب العالمية الثانية. واضطرت إلى استقدام أعداد هائلة من أبناء مستعمراتها ليكونوا أتون الحرب إلى جانب قوات وجنود ينتمون في معظمهم إلى فئات مستضعفة.  

وبعد الحرب، استطاعت أوروبا الغربية الرأسمالية أن تنهض وتستعيد عافيتها بفضل مشروع مارشال الأمريكي وبفضل سواعد المهاجرين القادمين من المستعمرات بحثا عن الرزق، والذين قدّموا تضحيات جليلة بعرق جبينهم في ظروف قاسية لتتحقق النهضة الاقتصادية والعمرانية لفرنسا التي شهدت ثلاثة عقود (من منتصف الأربعينات إلى منتصف السبعينات) مرحلة بحبوحة العيش، لكنها كانت لصالح الفئات المترفة بدرجة أولى.

وبعد أزمة النفط في منتصف السبعينات، بدأت مؤشرات التراجع الاقتصادي والتفاوت الاجتماعي تبرز للعيان. وتزامن ذلك مع ارتفاع موجة العنصرية ضد العرب الذين تحولوا إلى كبش فداء للصراع بين الغرب والشرق على مصادر الطاقة، علاوة على أزمة الصراع العربي الإسرائيلي وتحيز الموقف الفرنسي الرسمي إلى الجانب الاسرائيلي مقابل وقوف العرب والمهاجرين وجانب من الرأي العام إلى جانب القضية الفلسطينية العادلة.  

وكان وصول اليسار إلى السلطة عام 1981 بمثابة المتنفس للفئات الضعيفة وخاصة منهم المهاجرون. حيث تم اتخاذ عدد من القرارات التي خففت وطأة المعاناة عليهم منها تيسير الحصول على الجنسية وتسوية وضعية من كان يقيم بطريقة غير قانونية. وبالرغم من التحسن النسبي في ظروف لفئات الضعيفة، إلا أن مظاهر التهميش لم تنته. وعادت الحياة السياسية إلى التراوح بين اليسار واليمين، لكن هذه المرة في ظل أزمة اقتصادية عالمية خانقة ناجمة عن سلبيات العولمة عل الطريقة الامريكية (الشرطي الجديد للعالم بعد سقوط جدار برلين في التسعينات وانهيار الاتحاد السوفياتي والمعسكر الشيوعي).

ونجحت العولمة في تنميط المجتمعات ثقافيا وتقوية أصحاب النفوذ المالي من رجال أعمال وغيرهم لتكون لهم اليد الطولى في مفاصل الدولة والسلطة والاقتصاد والإعلام. وتعمّقت الهوة الاجتماعية بين أقليات مترفة تتهرب من دفع الضرائب وفئات ضعيفة تتضاعف معاناتها يوما بعد يوم نتيجة تحمّل الجزء الأكبر من التضخم والزيادة في الأسعار وتراجع القدرة الشرائية.

في ظل هذه الظروف، ظهرت أحزاب ما يسمى بأقصى اليمين في العقود الأخيرة، وكسبت شعبية على خلفية الأزمات التي تمرّ بها أوروبا، حتى أن بعضها تمكن من الوصول إلى السلطة. أما الأحزاب التي بقيت في المعارضة، فإنها تقوم من موقعها بدور الضغط على الحكومات وعلى الرأي العام لاتخاذ إجراءات صارمة ضد ما يسمونه بالغزو الأجنبي لبلدانهم. كما هو الأمر بالنسبة لحزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية) بفرنسا الذي تتزعمه ماري لو بان.

واستغلت أحزاب ما يسمى بأقصى اليمين هذه الظروف لترمي بسهامها صوب الفئات الأكثر ضعفا وهم العرب والمسلمون عبر خطاب شعبوي يحمّل هؤلاء مسؤولية كل المصائب التي تعيشها شعوب أوروبا ومنها البطالة والعنف والجريمة..

ويبرز التوجه المعادي للحضور الإسلامي لقيادات هذه الأحزاب ذات التوجه العنصري أو الشوفيني من خلال تصريحات بعض مسؤوليها. وحجة هؤلاء أن الحضور الإسلامي يهدّد الهوية المسيحية لأوروبا، ويؤكدون في هذا الصدد على العامل السكاني (الديمغرافي) الذي يرجح الكفة- برؤية استشرافية للمستقبل البعيد-  لتحول الأقليات المسلمة إلى أكثرية بالنظر إلى نسبة الإنجاب لدى المسلمين المرتفعة مقارنة بنسبتها لدى الأوروبيين الأصليين. كما يحذرون من ظاهرة المسلمين الجدد من أصول أوروبية. 

وقد صرح فيليب دو فيليه رئيس حزب “الحركة من أجل فرنسا" بصفة علنية يوم 16/7 /2005 في قناة فرنسية يشاهدها الملايين تعليقا على تفجيرات لندن، بقوله: " منذ يوم الخامس من يوليو، نعلم – نحن الزعماء السياسيون- أن الإسلامية الأصولية قد أعلنت الحرب العالمية الثالثة بل وانطلقت فيها. ولا يمكننا أن نبقى نتفرج- عاجزين- على الأسلمة التدريجية للمجتمع الفرنسي".

وطالب الإسراع بتكوين حرس وطني مكلّف بثلاث مهام: إعادة الحدود بين دول أوروبا خاصة تلك التي تشملها اتفاقية تشينغن التي تسمح بحرية بتنقل الأشخاص والبضائع، والسيطرة على الأحياء الإسلامية، ومراقبة المساجد. وقال " لا أفهم مقترح وزير الداخلية (نيكولا ساركوزي في ذلك الوقت) بتمويل المساجد من الضرائب التي يدفعها الفرنسيون.  وأضاف (وهنا تكمن خطورة مواقف هذا السياسي) بقوله" أعتقد أن الإسلام هو محضن الأصولية الإسلامية، وهذه الأخيرة محضن الإرهاب، لذا من الأفضل أن نكون حذرين". وتكون حصيلة مثل هذه التصريحات والمواقف، ارتباط الإسلام في ذهن المستمع والمشاهد بالإرهاب. 

وتلتقي الأحزاب العنصرية والشوفينية حول التعبير عن مواقفها المعادية للحضور الإسلامي بأساليب استفزازية، واعتماد خطاب تبسيطي شعبوي بهدف إيصال الرسالة بسرعة إلى أوسع نطاق لشرائح واسعة من الرأي العام على المستويين المحلي والإقليمي. ولئن كان بعض هذه الأحزاب لا يتجرأ على مهاجمة الإسلام والمسلمين، فإن الخطاب يغلّف باستهداف المهاجرين أو الأجانب.

وتستخدم ورقة الأجانب للابتزاز السياسي وتحقيق مكاسب انتخابية. واستطاع حزب أقصى اليمين في فرنسا أن يطرق الحكم مرتين، حيث نافست لوبان ماكرون الرئاسة في الجولة لانتخابات 2017. ولم تغفر له هزيمتها، وهي تحرص الآن على توظيف الحركة الاحتجاجية للسترات الصفراء لتمرير بعض المطالب والضغط على السلطة وكسب ورقة انتخابية لجولة قادمة.

لكن العديد من المحتجين حذرون من عملية التوظيف هذه، وتسعى الجهات الرسمية إلى الخروج من عنق الزجاج باقتراح حلول "ترقيعية" ومحاولة امتصاص الغضب عبر سلسلة من الجولات الحوارية التي يقوم بها الرئيس الفرنسي ماكرون بنفسه مع فئات واسعة من الشعب من باب "الاستماع إلى صوت الشعب من أجل حسن التفاعل مع همومه ومشاغله وتقديم الحلول الأصوب". كما ظهرت بوادر لإضعاف حركة السترات الصفراء من خلال تحويل اتجاه المعركة إلى مسألة أيديولوجية سياسية تتعلق بمعاداة السامية والصهيونية بحجة أن بعض المحتجين قد رفعوا شعارات معادية لليهود.

لكن هناك تخوّف من الجهات الرسمية من عملية تلاحم بين السترات الصفراء وأبناء الضواحي من العرب والأفارقة والمسلمين، والحال أن بين الطرفين نقاط التقاء من حيث ظروف التهميش والإقصاء ومن حيث المطالبة بالعدالة الاجتماعية.    

 

 

المحور الثالث: معالم للعلاج

يتعين على الفئات المثقفة الواعية ومؤسسات المجتمع المدني الجادّة القيام بضغوط بأسلوب منهجي في اتجاه التوعية بعدة قضايا من بينها:

  1. مناهضة كل أشكال التمييز في المجتمع

أول هذه الجهود يجب أن يكون في اتجاه مناهضة كل أشكال التمييز في المجتمع سواء أكان التمييز على أساس ديني أو عرقي.. وسواء تعلق بفرنسي من أصول فرنسية أو فرنسي من أصول أجنبية أو مواطن مقيم بصفة قانونية. 

وبدأت تتكون في هذا السياق جمعيات ومؤسسات لمناهضة التمييز ومن بينها "جمعية ضد الاسلاموفوبيا" التي تترصد كل الأعمال في هذا الاتجاه وتصدر تقريرا سنويا تتفاعل معه وسائل الإعلام.

ولا يقتصر الأمر على النخبة، بل إن كل المعنيين بهذا الشأن ولو من عامة الناس مطالبون بالتعبئة الشاملة من أجل التصدي لهذا المرض الذي ينخر المجتمع ويهدم التعايش المشترك داخله.

أمثلة من التهجم على المسلمين ومقارنتهم بالنازيين والمطالبة بطردهم

جمعية مناهضة الاسلاموفوفيا في فرنسا

الاسلاموفوبيا: الصمت قاتل ومظاهرات ضد الاسلاموفوبيا

متظاهرة فرنسية تقول أنا متضامنة من قلبي مع مسلمي فرنسا   " ليس باسمي" ردا على أحداث إرهابية

 

التنبيه إلى مخاطر الإقصاء والتهميش

إن علاج ظاهرة التهميش والإقصاء تحتاج أيضا إلى التنبيه المستمر إلى مخاطر مثل هذه الظواهر من خلال التذكير بالكوارث التي شهدها تاريخ البشرية نتيجة التمييز والتفاضل على أساس العرق أو اللون أو الأصل أو الدين. ولعل أخطرها العبودية وتجارة الرق. وللعلم، فإن منظمة الأمم المتحدة اعتبرت يوم 25 مارس اليوم العالمي لإحياء ذكرى الرق وتجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي. ويعد الرق وتجارة الرقيق ضمن أسوأ انتهاكات حقوق الإنسان في تاريخ البشرية. لقد كانت تجارة الرقيق عبر الأطلسي أمرا فريدا في تاريخ الرق ويرجع ذلك لطول أمدها (أربعمائة عام) وحجمها (قرابة 17 مليون شخص باستثناء أولئك الذين لقوا حتفهم في أثناء نقلهم) وإضفاء الشرعية فيما تضمنته قوانين ذاك الوقت.

إن تجارة الرقيق عبر الأطلسي تشكل أكبر عملية ترحيل في التاريخ وغالبا ما يشار إليها على أنها النموذج الأول للعولمة. وبامتدادها منذ القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر، فقد شملت مناطق وقارات متعددة: أفريقيا وأمريكا الشمالية والجنوبية، وأوروبا والكاريبى وتسببت في بيع ملايين الأفارقة واستغلالهم من قبل الأوروبيين.

وفي نفس السياق يندرج نظام الميز العنصري الذي طبق في جنوب افريقيا من سنة 1948 إلى سنة 1991. وبالرغم من الجهود والتضحيات التي بذلها نيلسون مانديلا طيلة حياته النضالية وفي منصب الرئاسة للقضاء على آفة العنصرية إلا أن الواقع اليوم يدل على وجود مخلفات لهذه السياسة التي عاملت السود كعبيد.

كما دفع مسلمو البلقان الثمن باهظا في التسعينات من القرن الماضي. حيث شهدت هذه المنطقة حرب إبادة للعنصر المسلم عرفت بالتطهير العرقي في البوسنة وكوسوفا. ويعود تواجد هؤلاء المسلمين إلى عهد الدولة العثمانية. فقد توارثوا المعتقدات الدينية جيلا بعد جيل، وصمدوا رغم تعرضهم إلى محن جمة من أجل سلخهم عن هويتهم. ولكن هذه المحن تركت بصمات عميقة في فهم الإسلام وتطبيقه وبقي الانتماء الديني في جل الحالات مجرد تفاعل شعوري وعاطفي. ولم يمنع ذلك من وجود مظاهر الالتزام الديني وبقضايا المسلمين. ولعل تجربة الرئيس السابق للبوسنة علي عزت بيغوفيتش بمثابة مؤشر على الفهم العميق للمسؤولية الضخمة الملقاة على كاهل مسلمي أوروبا من حيث الإشعاع الحضاري والفعل والتأثير. وقد تم اكتشاف مقابر جماعية تعود إلى أيام الحرب في البلقان في التسعينات. ولعل مذبحة سيبرنيتسا مازالت شاهدة على هول المأساة التي عاشها المسلمون في قلب أوروبا نهاية القرن العشرين.

مقابر شهداء مذبحة سيبرنيتسا بالبلقان

 

إلا أن ما يثير الجدل هو تورط بعض الجهات الغربية مع أصحاب التوجه العدائي للمسلمين في البلقان، والسكوت وغض الطرف عن جرائمهم، بل وتشجيعهم معنويا بالدعم السياسي وماديا بالسلاح. 

ومعلوم أن مذبحة سيبرنيتسا تمت قريبا من تواجد كتيبة هولندية تابعة لقوات الأمم المتحدة التي جاءت لحفظ السلام في المنطقة ومنع مثل هذه المجازر. كما أن التدخل لإيقاف الحرب جاء متأخرا بعد أن قامت القوات الصربية بتصفيات وجرائم على مشهد من العالم، وتحت ضغوط حركة الاحتجاج والتظاهر في صفوف الرأي العام الأوروبي والرأي العام الإسلامي والعالمي.

  1. إبراز أهمية المنظومة الأخلاقية والعدالة الاجتماعية في النظام العالمي 

يتسم النظام العالمي بكثير من النقائص والشوائب والتناقضات التي تضعف مصداقيته لدى العديد من الشعوب التي تعاني من الحيف والظلم بسبب سياسة الكيل بالمكيالين. وأكبر دليل على ذلك قيام مؤسسة دولية مثل منظمة الأمم المتحدة على مقاس دول كبرى خرجت منتصرة فيما يعرف بالحرب العالمية الثانية. وتم تأسيس هياكل داخلها مثل الجمعية العمومية من أجل تمثيل كل الدول ذات سيادة بالتساوي نظريا، لكن أحد الهياكل المحورية في هذه المنظمة وهو مجلس الأمن تحتكر فيه خمس دول العضوية الدائمة علاوة على احتكارها لحق النقض (فيتو) وما يترتب عن ذلك من حيف في وضع قرارات الحرب والسلم تخدم مصالح هذه البلدان.

ولم يعد هذا الوضع قابلا للمضي بهذا الخلل الجوهري في تصريف شؤون العالم في ظل كوارث وحروب تدفع ثمنها باهظا شعوب عدة في سوريا واليمن وفلسطين ومسلمو البورما والصين..

كما أن الأمر يحتاج إلى وقفة حازمة فيما يتعلق بالتهجم على الأديان والمقدسات باسم حرية التعبير، وضرورة أن تفصل المنظومة الدولية في هذه القضية الشائكة بعد التجاوزات الكبرى في هذا المجال والتي طالت كل الأديان وعلى رأسها الإسلام، ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

 

 

 

 

نماذج من الكاريكاتور المتهجمة على مقدسات الإسلام

 

وبصفة عامة، فإن الحاجة ماسة إلى إبراز أهمية المنظومة الأخلاقية والعدالة الاجتماعية في النظام العالمي. ويمكن بالنسبة للنخبة المسلمة الاستفادة من فلسفة الإسلام في العلاقة بين الشعوب التي تقوم على التعارف والعيش المشترك “لتعارفوا" وليس التحارب أو التقاتل، حتى تكون 

وإذا كانت مرجعيتنا دينية فمن باب أولى وأحرى أن تكون المنظومة الأخلاقية حاضرة بثقلها في الخطاب

وعلى سبل المثال لا الحصر

 

  1. أهمية التعايش المشترك والاعتراف بالتعددية الثقافية ومخاطر الأحادية

شهد العالم الإسلامي في العقود الأربعة الأخيرة مخاضا سياسيا وصحوة دينية وضعت الإسلام فكرا ومنهجا في صدارة الأحداث ومركز الاهتمام. وحصلتْ سلسلة من الهزات والأزمات في المنطقة الإسلامية لم تكن الدوائر الأوروبية بعيدة عنها.

ومن بين هذه الأزمات التي تركت بصماتها على الحضور الإسلامي في أوروبا، تصاعد التوتر والصراع في فلسطين منذ نكسة 1967، وأزمة النفط سنة 1974، والثورة الإيرانية بزعامة الخميني سنة 1979، والحرب في أفغانستان سنة 1980، والحرب الأهلية في الجزائر بعد عرقلة نتائج الانتخابات التي فازت فيها الجبهة الإسلامية للإنقاذ، وحربَا الخليج الأولى والثانية، وحرب "التطهير العرقي" ضد مسلمي البلقان في الفترة 1991-1995، والانتفاضة الفلسطينية في أيلول/ سبتمبر سنة 2000، والحرب على العراق سنة 2003.  وقد جلب انتباه الرأي العام في أوروبا بما في ذلك المسلمون، الدور المتصاعد للدين في الوقت الذي كان الرأي السائد أن العلمانية بجناحيها اليساري والليبرالي قد أزاحت الدين في العالم الإسلامي، وأن الهيمنة ستبقى للنفوذ الغربي. 

ولهذا كانت الصدمة كبيرة في أوروبا عندما شعرت بأن "الخصم التاريخي" بدأ يستعيد قوته وقدرته على الحركة، وكانت الصدمة أكبر عندما تأكدت أن الإسلام هو وقود هذه الحركة، والحال أن المعركة كانت قد حسمت في ظن الضمير الأوروبي لفائدة الإنسان الذي تأله في الأرض. ولهذا كان رد الفعل الأوروبي الغربي قويا ضد الصحوة الدينية في العالم الإسلامي التي كان لها صدى في صفوف الأقليات المسلمة في البلاد الغربية. وتم وصف حركة الانبعاث الإسلامي بنعوت كثيرة مثل "الإسلام السياسي" / "الإسلام الأصولي" / "الإسلام المتطرف"، هدفها التخويف من هذه الظاهرة فيما يعرف بـ "الاسلاموفوبيا".

لكن كل المؤشرات تؤكد بأن العقود القادمة ستشهد تطورا في اتجاه التعامل مع المد الإسلامي الذي بات الهاجس الأول لصانعي القرار السياسي والاقتصادي والنخب الفكرية والإعلامية في الشمال والجنوب، حيث اتضح - خاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001- مدى انشغال هؤلاء بالمعطى الإسلامي بكل تجلياته وأبعاده: صحوة دينية، وحضور متنامي في الغرب، مقاومة لسياسة الاستيطان في فلسطين، وحركات احتجاجية ضد كل أشكال الظلم. ويصبّ هذا الاهتمام في البحث عن أسلوب التعامل مع هذه الظاهرة المتنامية، بين محاولة المحاصرة والاحتواء من ناحية، والقبول بالأمر الواقع والتفاعل معها إيجابيا من ناحية أخرى. ولعلّ الحالة التركية الحالية تمثّل نموذجا حيا لارتباك الموقف الدولي إزاء صعود التيار الإسلامي إلى السلطة عن طريق صناديق الاقتراع واحترام قوانين اللعبة الديمقراطية بالمفهوم والنمط الغربيين.

من ناحية أخرى، هناك مؤشرات لوجود تحولات تؤهل العالم الإسلامي لاستئناف دورة حضارية جديدة يكون هو أحد أقطابها الرئيسة، وتفتح باب التعامل النِدّي بين مختلف المكونات الحضارية، وخاصة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي. ومما يزيد عملية التفاعل الحضاري بين هذين الكيانين الحضور الإسلامي المتنامي عددا ونوعية داخل المجتمعات الغربية التي تشهد بنفسها تحولات داخلية عميقة.

ولا يشك أحد في أنّ عملية تصحيح الصورة المشوهة عن الإسلام والمسلمين لدى الغرب ستكون لها انعكاسات جدّ إيجابية على العالم الإسلامي، من حيث المساهمة في كسر جدار الخوف من "الغول الإسلامي"، ودفع الغرب نحو التعامل بندّية مع سدس سكان المعمورة.

 

  1. الحوار الحضاري

تحتاج معالجة التهميش والإقصاء إلى فتح قنوات حوار حضاري خاصة مع الجهات الجادة في صفوف النخبة ومن بينها الاستشراق والإعلام المنصفان وقادة المجتمع المدني والمؤسسات الدينية

فقد استطاع الاستشراق المنصف تقديم صورة ناصعة عن الإسلام وذلك عن طريق:  

- الإشادة بسمو الحضارة الإسلامية

-الإشادة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وبجلال القرآن الكريم

ومن ايجابيات هذا الصنف من الاستشراق:

- التعود على النقد الذاتي

- التعرف على العيوب

- حث الكفاءات المسلمة على البحث

- الاستشراق المنصف جسر بين الشرق والغرب

يقول د. سفير احمد الجراد في كتابه "الاستشراق والمستشرقون فن التزييف العلمي والأخلاقي" ص 6-7 إن "الواقع الذي لا يمكن إنكاره هو أن الاستشراق له تأثيراته القوية في الفكر الإسلامي الحديث إيجابا أو سلبا أردنا أم لم نرد، ولهذا لا نستطيع أن نتجاهله أو نكتفي لمجرّد رفضه.."

ويضيف ص 8"لا بد من إقامة الجسور بين العلماء المسلمين والمعتدلين من المستشرقين حتى ليمكن إجراء حوار مثمر بين الطرفين، ومن المصلحة الإسلامية أن يكون هناك مثل هذا الحوار لعرض وجهة النظر الإسلامية في شتى الموضوعات الخلافية على أسس علمية سليمة، فذلك سيكون له من غير شك أثره الايجابي في تصحيح الكثير من الأخطاء"

وفي نفس السياق، يحتاج الأمر إلى بعض المراجعات في التعامل مع وسائل الإعلام الفرنسية والغربية عموما. إذ أن اﻟﻤﻨهجية العلمية ﺗﻘﺘﻀﻲ اﻷﺧﺬ ﺑﺎﻻﻋﺘﺒﺎر اﻟﺘﻄﻮر اﻟﺤﺎﺻﻞ ﻓﻲ اﻟﻤﻮﻗﻒ اﻹﻋﻼﻣﻲ ﻓﻲ ﺗﻌﺎﻣله ﻣﻊ اﻟﻤﻠﻒ اﻹﺳﻼﻣﻲ. ﻓﺎﻟﺪارس ﻟﻠﻤﻀﻤﻮن اﻹﻋﻼﻣﻲ يلاحظ بداية تحول إيجابي ﻓﻲ اﻟﻤﻮﻗﻒ اﻹﻋﻼﻣﻲ ﻓﻲ هذا اﻟﻤﻮﺿﻮع. وﻣﻦ اﻟﻤﻔﺎرﻗﺎت اﻟهامة، أن أﺣﺪاث ﺳﺒﺘﻤﺒﺮ 2001 بقدر ﻣﺎ أﺳﺎءت ﻟﺼﻮرة اﻹﺳﻼم واﻟﻤﺴﻠﻤين ﻓﻲ اﻟﻤﺮﺣﻠﺔ اﻷوﻟﻰ، ﺑﻘﺪر ﻣﺎ  ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻨﺎﺳﺒﺔ ﻟﻤﺮاﺟﻌﺔ هذه اﻟﻨﻈﺮة اﻟﺴﻠبية  ﻣﻦ طرف اﻟﻌﺪيد  ﻣﻦ اﻟﻌﺎﻣلين ﻓﻲ اﻟﺤﻘﻞ اﻹﻋﻼﻣﻲ.  

 

الخاتمة

إن دراسة الحالة الفرنسية في مسألة الإقصاء الاجتماعي والسياسي للفئات الضعيفة كأنموذج لما يحدث بأشكال متفاوتة في المجتمعات الغربية يقود إلى ضرورة الإسراع بتبنّي مقاربة أخلاقية لمعالجة مثل هذه القضايا قبل أن تتحوّل من منطقة التوتر إلى منطقة الصراع ذي العواقب الوخيمة على السلم الاجتماعي والحوار الحضاري والتعايش المشترك.

فالسياسة والاقتصاد والإعلام والتربية.. بلا أخلاق تهذّبها وتعضدها وضوابط أخلاقية تحدّها وتنظّمها، تصبح أداة للهدم والصراع، لأن الإنسان بطبيعته التي جُبل عليها (وإنه لحبّ الخير لشديد) لا تردعه القوانين الوضعية، بل لا بد من وازع أخلاقي من داخله يضبط حركته تجاه نفسه وتجاه محيطه. وقس على ذلك ما تعيشه الكيانات الصغرى مثل الأسرة والكيانات الكبرى مثل المجتمعات والدول. 

يقول الشاعر أحمد شوقي :
"إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا"
ويقول :

 «صلاح أمرك للأخلاق مرجعه … فقوّم النفس بالأخلاق تستقم"
ويقول :

 «إذا أصيب القوم في أخلاقهم … فأقم عليهم مأتماً وعويلاً"

______________________

 

 

* الدكتور محمد الغمقي: أستاذ الدراسات الإنسانية في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس.

 

المراجع

  • صحف فرنسية
  • إدوارد سعيد: الاستشراق، دار الرؤية
  • سفير احمد الجراد: الاستشراق والمستشرقون: فن التزييف العلمي والأخلاقي، دار العصماء، الطبعة الأولى 2015
  • محمد الغمقي: الصورة النمطية للعرب والمسلمين في الإعلام الغربي من خلال النموذج الفرنسي، بحث تم تقديمه في المؤتمر الدولي الرابع لكلية الآداب واللغات سنة 2017 حول اتجاهات معالجة القضايا المعاصرة في وسائل الإعلام، جامعة جدارا، الأردن
  • محمد الغمقي: مقرر مادة الإسلام وأوروبا بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية باريس.

 

Post your Comments

Your email address will not be published*

Add new comment

Restricted HTML

  • Allowed HTML tags: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • Lines and paragraphs break automatically.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.