تجديد النّظر في العلوم الإسلاميّة: الأوقاف والمقاصد أنموذجا

مقدمة

دعا المفكّر الإسلامي طارق رمضان منذ وقت بعيد، في جميع كتاباته، وخاصّة في كتاب الإصلاح الجذري، إلى ضرورة تجديد العلوم الإسلاميّة، وإعادة قراءتها على ضوء الواقع المعاصر ومشاغله الرّاهنة. وقد أوضح ملامح هذا النّظر المتجدّد ومقتضياته من خلال تعميق النّظر في طبيعة الإصلاح نفسه، والتكيّف مع تطوّر المجتمعات والعوالم المحيطة بنا، بغية الوصول إلى التغيير الجذري المنشود. مع التّركيز على استئناف التّدقيق في جغرافيّة أصول الفقه ومصادره وتصنيفاته،ودمج المعارف الإنسانيّة والأخلاق التّطبيقية،ضمن مباحثه ومشاغله، من أجل إبراز الغايات السّامية والأهداف العليا للإسلام، في مشاغل الفكر الإسلامي والعالمي واهتماماته.

 يتأتّى ذلك بالخصوص بتحقيق الانسجام بين علماء النّصوص وعلماء الواقع، من خلال الرّسم الدّقيق للكفاءات والتخصّصات ومجالات العمل الخاصّة بهم، في مختلف المجالات المعرفيّة والإنسانيّة. [1]

وقد اخترنا تطبيق ذلك المنحى التّجديدي، واتّباع مقتضياته،من خلال أنموذجين هما: علم المقاصد وعلم الأوقاف، وكلاهما ينتمي إلى حقلي الفقه وأصول الفقه، وعمدنا إلى المقارنة بينهما والاهتمام بالعلاقة المشتركة بينهما في تثوير الواقع الإسلامي، الذي نهضا بإصلاحه وضبطه، اجتماعيّا وحضاريّا وفق تصوّر إبداعي للعقل المسلم.

يهدف البحث من هذه القراءة إلى تفعيل روح المقاصد، ورعاية المصالح في الفكر الإسلامي أوّلا، ثمّ في الواقع ثانيّا، لأنّ الأوّل يصنع الثّاني ويشكّله وفق النّظرة الإسلاميّة وظروف الحياة المتغيّرة. ولأنّ القرآن الكريم لم يقنّن شؤون الحياة، ولم يركّز على الجزئيّات والتّفصيلات، بل أصّل ما هو عام وهام في حياة الإنسان، فقد تمتّع الفكر الإسلامي بخاصيّتي التجدّد والإصلاح  فضلا عن الحريّة والقابليّة للإبداع، لأنّه ظلّ غير خاضع لقوالب جاهزة، ولا لعوائق ضاغطة. وقد اخترنا تناول البحث في أصول ارتباط فقه الوقف بنظريّة المقاصد، لإبراز مدى حاجة المجتمع إليه، على مقتضى مقاييس الضّروري والحاجي والتّحسيني في ضوء معطيات الواقع الاجتماعي ومتطلّباته.

لم نجد في كتب الفقه الحديثة، تناولا مستفيضا، لمسائل تجديد العلوم الإسلاميّة على ضوء مقاصد الشّريعة، ولا تقصياّ دقيقا لأغراضه العامّة والخاصّة، ومن هنا فإنّ معالجة هذا الموضوع وخاصّة في ضوء هذه المقاصد وحاجيات المجتمع، تُعتبر ضربا من ضروب الاجتهاد المعاصر.

إنّ تفعيل نظريّتي الأوقاف والمقاصد في واقع المجتمعات الإسلاميّة اليوم، وإبراز أهميّتهما في ضمان التّكافل الاجتماعيّ، وتقدّم شؤون الحياة، هو في الواقع، بيان لأهمّ النّظم المؤسّسية الّتي أسهمت في تثبيت المقاصد العامّة للشّريعة الإسلاميّة، وتحقيق حاجيات المجتمع الضروريّة والتحسينيّة.

نحو فهم تكاملي لطبيعة الإسلام

يقول طارق رمضان، في كتابه الإصلاح الجذري: «إنّ الحديث عن التّجديد في الدّين لا يتعلّق بالتّغيير في الأصول أو المبادئ والأسس الإسلاميّة، وإنّما يتعلّق بفهم الدّين وطريقة تطبيقه وكيفيّة العيش في رحابه، حسب تنوّع الأزمنة والأمكنة».[2]

يمثّل الإسلام منظومة متكاملة تشمل العقيدة والعبادات والتّشريعات والأخلاق، تتماسك أجزاؤها وتتفاعل فيما بينها لتشكّل وحدة عضويّة، لا يمكن أن يُفهم أيّ جزء منها إلاّ بوضعه في نسقه العام، أو من خلال علاقته بهذه الوحدة المتكاملة، ولذلك لا يمكن أن نستوعب مبدأ تجديد العلوم والمعارف الإسلاميّة، إلاّ على ضوء ذلك الفهم التكاملي، وقراءتنا للنّصوص الإسلاميّة  وفهمنا لها، هو فهم متجدّد على الدّوام، بحكم الاطّلاع وتقدّم المعارف، واكتساب المناهج المطّردة والمفاهيم الحادثة،وبحكم الالتزام بمعادلة الثّابت والمتغيّر.[3]

أمّا قراءتنا للفكر الإسلامي فهي بالضّرورة متجدّدة ومتغيّرة، بدون الالتزام بتلك المعادلة،لأنّ الفكر يقوم على التّراكم والتجاوز، والذي يقترن بدوره بتقديم تنقيحات جوهريّة ومنهجيّة في صلب الحقل الإسلامي المدروس. وإنّ حيويّة البحث ترتبط أساسا بما يُنتج ويُولّد من أفكار، وليس مجرّد الالتزام بالأسس القديمة. وعلى سبيل المثال، فإنّ قراءتنا لنظام الأوقاف هو تفعيل للتّوليد المفاهيمي الجديد، باعتبار أنّ الحديث في الأوقاف والمقاصد هو تحديث للخطاب الإسلامي في الإيمان وآثاره في حياة الفرد والمجتمع، في ارتباطه بمنظومة العبادات والتكاليف الإسلاميّة كلّها، ضمن الأصول العامّة للشّريعة ومقاصد الدّين الكليّة، لأنّ الإسلام اهتمّ منذ نزوله بهداية أتباعه إلى الخير والحقّ وميادين الفعل والعمل، وتحريرهم من كلّ القيود التّي يمكن أن تكبّلهم، واعتنى بتوفير مقوّمات الحياة الكريمة، في ظلّ الحريّة والعدل والمساواة، وأرسى قواعد التكافل والأخوّة التّي تضمن رعاية مصالحهم ومعايشهم،وقد علّمهم نبيّهم الكريم عن طريق القدوة الحسنة، أبهى دروس العطاء والتّضحية والإيثار، فتربّوا على قيم المودّة والتّعاون والبذل والإنفاق، فكانوا يتسابقون نـحو مواطن البرّ والتّوسعة على النّاس، وسداد ديونهم وحلّ مشكلاتهم،إيمانا منهم بأنّ الإنفاق في وجوه الخير والمصلحة فرضًا وتطوّعا من أفضل القربات والطّاعات التّي يُتقرّب بها إلى الله تعالى، تمشّيا مع قوله تعالى في سورة الإنسان: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُورًا﴾ [الإنسان:9].

ووجه الله هنا مفهوم واسع ينصرف إلى منفعة الإنسان، أينما كان. ولذلك جعل الإسلام سداد ديون الغارمين وجها من وجوه مصارف الزّكاة، فقد كتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن يقضي عن الغارمين، فقيل له:إنّا نجد الرّجل له المسكن والفرس والأثاث فقال عمر: »إنّه لا بدّ له من مسكن يسكنه وخادم يخدمه وفرس يجاهد عليه عدوّه، وأن يكون له الأثاث في بيته. وأمرَ أن يُقضَى عنه«.[4]

وفرض عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قبل ذلك، لكلّ مولود في الإسلام نفقة. وجعل لكلّ طفل مائة درهم، فإذا ترعرع بلغ به مائتي درهم، فإذا بلغ زاده، وفرض للُقطاء البلد، لكلّ واحد منهم مائة درهم ورزقا يأخذه وليّه كلّ شهر، وأوصى بهم خيرا، وجعل رضاعتهم ونفقتهم من بيت المال.[5]

وبمثل هذه الأفهام والمواقف تأسّست وتأصّلت لدى المسلمين ثقافة التطوّع والتّضامن والإنفاق، وتكوّنت البدايات الأولى للتبرّع والوقف. ويمكن التماس بوادر الوقف الأولى في حياة المسلمين منذ وقت مبكّر، مع موائد الإفطار المجّانية الرّاتبة، التّي كان يُجريها المتصدّقون على المصلّين في المساجد والبيوت. وخاصّة في شهر رمضان الكريم، ثمّ تأثيثهم هذه المساجد وإضاءتها. ثمّ اتّجهت همّة المحسنين إلى إقامة الطّرق ومراكز تجميع الماء والاستراحات. ففي تاريخ الطّبري أن عمر بن الخطّاب وضع في الطّريق بين مكّة والمدينة ما يصلح من ينقطع به ويحمل من ماء إلى ماء. وكلّمه أهل المياه ليسمح لهم بابتناء المنازل بين مكّة والمدينة، فأذن لهم. وشرط عليهم أنّ ابن السّبيل أحقّ بالظلّ والماء: «عن عبد الله المزني عن أبيه عن جدّه قال: قدمنا مع عُمرَ مكّةَ في عمرته سنة سبع عشرة، فمرّ بالطّريق فكلّمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكّة والمدينة، ولم يكن قبل ذلك بناء. فأذن لهم وشرط عليهم أنّ ابن السّبيل أحقّ بالظلّ والماء».[6]

فهمَ المسلمون الأوائل نظام الوقف والتطوّع، وعملوا به قبل أن يتكوّن الفقه الإسلامي، واستخرجوا منه أبعادا وحكما ومقاصدَ عميقة، تُتيح للإنسان فرصة أخيرة للصّدقة والإيداع والادّخار عند الله تعالى، هدفها وغايتها تحويل العمل الدّيني إلى عمل اجتماعي. أو ربط الدّنيوي بالأخروي، والسّعي إلى تحويل العمل في مقاصده الدّينية، إلى عمل اجتماعي نافع للإنسان بحيث تمرّ العبادة عبر خدمة النّاس. ومن هنا تتراءى علاقة الوقف بالعبادة باعتبارها طاعة :«لا يستحقّها إلاّ من له غاية الإفضال وهو الله تعالى، فالمعنى الاصطلاحي للعبادة لا يَخرج لا محالة عن المعنى اللّغوي، فهي اسمٌ جامعٌ لكلّ ما يُحبّه الله ويرضاه، فصارت تشمل العبادات البدنيّة والماليّة والقلبيّة».[7]

قال الإمام فخر الدّين الرّازي معلّقا على الآية الكريمة ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ(57) ﴾ [الذّاريات:56،57]: «العبادة التّي خلق الجنّ والإنس لها. هي التّعظيم لأمر الله والشّفقة على خلق الله، فإنّ هذين النّوعين لم يخلُ شرعٌ منهما، وأمّا خصوص العبادات فالشّرائع مختلفة فيها بالوضع والهيئة والقلّة والكثرة والزّمان والمكان والشرائط والأركان». [8]

لقد اتّبع القرآن في تربيته لشخصيّات النّاس وفي تغيير سلوكهم، أسلوب العمل والممارسة الفعليّة للأفكار والعادات السلوكيّة الجديدة. ولذلك فرض الله سبحانه وتعالى العبادات المختلفة التي تُعلّم المؤمن الطاّعة لله والامتثال لأوامره. كما تعلّمه حبّ النّاس والإحسان إليهم، وتُنمّي في نفسه روح التّعاون والتّكافل الاجتماعي.[9]

إنّ عبادة الله هي أعلى مراتب الخضوع والتّذلّل، وهي اسم لما يحبّه ويرضاه من الأقوال والأفعال والأعمال الظّاهرة والباطنة. ومن الألفاظ ذات الصّلة «القربة» وهي ما يُتقرّب به إلى اللّه فقط، أو مع الإحسان للنّاس كبناء الرّباطات والمساجد والوقف على الفقراء والمساكين.[10]

وَصَفَتْ فاطمةُ بنتُ عبد الملك زوجَها، عمر بن عبد العزيز، الخليفة الأموي بقولها: «والله ما كان بأكثركم صلاةً ولا صيامًا. ولكن والله ما رأيتُ عبدًا أشدّ خوفا لله من عمر. كان همّه بالنّاس بأشدّ همّه بنفسه، قد فرّغ بدنه ونفسه للنّاس، يقعد لحوائجهم يومه، فإذا أمسى وعليه بقيّةٌ من حوائجهم وصَلَه بليلته».[11]

تلك شهادات حيّة على اتّساع الفعل العبادي، وأنّ التقرّب إلى الله يتمّ أيضا عبر الاقتراب من الخلق وخدمتهم، فعبادة الله تعالى تقوم أساسا على التّوفيق والتكامل بين مسلكي الشّعائر التعبديّة والإصلاح. يظهر ذلك في الرّبط الوثيق والدّائم في القرآن الكريم بين الإيمان والعمل الصّالح. والتّقوى والإصلاح والوقف والعمل الصالح، مفردات ذات علاقة حميمة بمصطلح المقاصد العامّة للشّريعة الإسلاميّة أو بمقاصد القرآن الكريم. فما هي هذه المقاصد؟

تقصّيات في تأصيل نظريّة المقاصد العامّة للشّريعة الإسلاميّة

قال العالم التّونسي الشّيخ محمّد العزيز جعيّط (1886-1970م): «لم أعثر في هذه الثّروة العلميّة على ديوان جامع جدير باستحقاق هذا اللّقب يجمع في مطاويه شمل المقاصد الشرعيّة ويفصح عن أسرار التّشريع. وإنّما يوجد في بطون الدواوين الفقهيّة وكتب علم الخلاف، صبابات من العلل، وشذرات من الأدلّة، لا تشفي للواقف عند حدّها علّة، إذ لا تبثّه تلك العلل مقصدا تأزر إليه أفراد من أنواع الأحكام. ولا تناجيه بما يكفي للإذعان بأنّه مقصد، ولا تسفر عمّا في أغوار تلك العلل من الفوائد. ويوجد في كتب القواعد الفقهيّة ما يجمع أشتات الجزئيّات، ولكنّها مقفرة من الاستدلال على تأصيل تلك القواعد، ممسكة عن حديث المصالح التّي تترتّب عليها. والمفاسد التي تُدرأ بها».[12]

 يشير هذا النصّ إلى أنّ الفقهاء وعلماء الأصول لم يصلوا قديما إلى بلورة دقيقة ونهائيّة لمفهوم المقاصد الشرعيّة، وبالتّالي ليس من اليسير الحديث عن نظريّة المقاصد، وإخضاع أحكام فقهيّة في الوقف أو غيره لمعيارها. ولكنّ هذا ليس حاجزا سميكا ولا مانعًا يُثني عن البحث انطلاقا من تلك الصّبابات من العلل والشّذرات من الأدلّة، وأشتات الجزئيّات التي ذكرها الشّيخ جعيّط.

في الواقع العملي والنّظري، لا يعني حصر مقاصد الشّريعة في الكليّات الخمس وحفظها أمرا نهائيّا، لأنّ ذلك لا يختصّ بالشّريعة الإسلاميّة وحدها، وهذا جانب من جوانب التّجديد والإثراء في هذا العلم. إذ أشارت إلى ذلك كلّ الدّيانات الإلهيّة وعملت بها القوانين الوضعيّة بدرجة أو أخرى منذ أقدم العصور. وللإسلام في شريعته خاصيّات عديدة في المقاصد وغيرها، من حيث المنطلق والغاية والعلّة والمفهوم، سواء أمكن للمسلمين بلورة ذلك كليّا أو جزئيّا. فالإصلاح هو من المحاور الرئيسة في القرآن الكريم والهدي النبويّ الشّريف. بل هو المقصد الأسمى والمرجوّ من المسلمين أجمعين: ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ [هود:88]. وما الشّعائر التعبّديّة في الإسلام إلاّ وسائل للإصلاح وتنفيذه.

 وإذ جعل الله تعالى الصّلاة «تنهى عن الفحشاء والمنكر» مثلا، فلأنّها تقوم بدورين وظيفيّين على الأقلّ، أوّلهما إصلاح المسلم في عقليّته ونفسيّته ومشاعره وتصرّفاته، وعن ذلك ينتج الدور الوظيفيّ الثّاني، وهو أنّ المسلم يصبح مصلحا وطالبا للإصلاح تلقائيّا. وعلى ذلك المنهج وللغاية المقاصديّة نفسها، يعرض القرآن الكريم أركان الإسلام وأحكامه التشريعيّة. ولئن كان لكلّ منها مقاصده الهدفيّة الخاصّة من تطهير روحيّ وعقليّ وبدنيّ للفرد، فإنّ كلّ متطلّبات الشّريعة الإسلاميّة تهدف إلى غاية عامّة هي: تكوين الأمّة المسلمة الصّالحة التي تعبد الله وتحقّق الاستخلاف الحضاري.

وقد لخّص القرآن الكريم أسمى المقاصد في الإسلام وأكّدها في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف:56] . وفي قوله: ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [الأعراف:85].

لا يخفى التّرابط العضويّ الوثيق في هذه الآيات الكريمة، بين الدّين والدّنيا، بين العبادات والمعاملات، بين حقّ الله وحقّ البشر. أيّ دين غير دين الله، جعل من إيفاء الكيل والميزان قيمة أخلاقيّة تعبّديّة لها ثقلها في ميزان الله عزّ وجلّ وعدله، فاعتبرها نوعا من الإفساد في الأرض؟ أيّ كتاب غير كتاب الله العزيز ربط ربطا لا انفصام فيه، بين الإيمان والعمل الصّالح، بل جعل الإصلاح شرطا تابعا للتّوبة. حتّى أنّ المشتقّات من مادّة «صلح» ذُكرت في مئة وثمانين (180) آية كريمة، منها اثنتان وستّون (62) فيها لفظة «الصّالحات»، وسبع تكرّر فيها مصطلح «إصلاح». فلا يمكن لقارئ القرآن مسلما كان أو مخالفا، ألاّ يترسّخ في ذهنه أنّ  الإصلاح  والعمل الصّالح من ثوابت الإسلام وركائزه الأساسيّة.

وعلى المنهج القرآنيّ سار الهدي النبويّ الشّريف. فقد أخبر صلّى الله عليه وسلّم أنّ امرأة لم تشفع لها صلاتها وصومها وصدقتها، لمجرّد أنّها تسيء معاملة جيرانها وتؤذيهم: «عن أبي هريرة قالوا: يا رسول الله إنّ فلانة تصوم النّهار وتقوم اللّيل وتؤذي جيرانها. قال: هي في النّار، قالوا: يا رسول الله. إنّ فلانة تصلّي المكتوبة وتصدّق بالأثوار من الأقط. ولا تؤذي جيرانها قال: هي في الجنّة». [13]

وعلى صراط القرآن الكريم والهدي النبويّ الشريف، سار المؤمنون الأوائل وأجلاّء الصّحابة رضي الله عنهم. لقد فهم المسلمون الأوائل المقاصد العامّة للشّريعة تلقائيّا وبديهيّا من قبل أن يتمّ الله عزّ وجلّ دين المسلمين، بل أحيانا قبل أن ينزل القرآن. وقد سعوا للنّفع والإصلاح والتّكافل والتآزر قدر استطاعتهم، بل تجاوز الكثيرون منهم الاستطاعة، أمثال أبي بكر وعثمان وعمر وعليّ ومصعب بن عُمير وبلال، رضي الله عنهم. ولم ينحصر فهم الثلّة الأولى من المؤمنين بالله واليوم الآخر في ميدان ولا في اثنين. كان تحمّل التّعذيب وكان الرّضى بالحرمان وكانت مشقّة الهجرة ومرارة الغربة. وكان الصّبر وكانت الدّعوة إلى سبيل الله بالّتي هي أحسن، وكان التبرّع في أوسع حدوده. لقد كانوا فقهاء قبل الفقه.

وضّح الشّيخ يوسف القرضاوي أبعاد هذا التفقّه في بحثه عن الاجتهاد فقال: «والنّاظر في فقه الصّحابة رضي الله عنهم يجد أنّهم نظروا إلى مقاصد الشّريعة في فتواهم مع نظرهم إلى النّصوص الجزئيّة. وهذا هو الذي جعل عمر رضي الله عنه يتوقّف أوّل الأمر في قسمة سواد العراق على الفاتحين، ولم يأخذ بالنصّ الجزئي في قوله تعالى:﴿واعلموا أنّما غنمتم من شيء فإنّ لله خمسه﴾ [الأنفال:41] وما ذلك إلاّ لأنّه وجد توزيع مثل هذه المساحات الهائلة على عدد محدود من الأفراد، يترتـّب عليه مفاسد تأباها الشّريعة، التي جاءت تقيم العدل والتكافل بين المسلمين بعضهم وبعض، على اتّساع المكان وامتداد الزّمان. فهو تكافل بين الأقطار الإسلاميّة وتكافل بين الأجيال الإسلاميّة. ولذا قال لهم عمر: تريدون أن يأتي آخر النّاس وليس لهم شيء؟ وقال: إنيّ رأيت أمرا يسع أوّل النّاس وآخرهم».[14]

لم تكن نفقات الغزو في سبيل الله، إلاّ بما يجود به أهل الخير والفضل من المسلمين، على سبيل الهبة والوقف، ونـحـن نعلم من أحداث السّيرة النبويّة أنّ سعد بن عُبادة رضي الله عنه، ظلّ يزوّد جيش المسلمين بالتّمر، مدّة نصف شهر، عند محاصرة بني قريظة. ولمّا اتّسعت بلاد الإسلام وكثرت الموارد، لم يكن بيت المال يضيق عن إقامة جميع مصالح الأمّة، حيث بنى الخلفاء الحصون والرّبط والمدارس، وأقاموا الجسور والقناطر والمارستانات، وأغدقوا العطايا على النّاس. ولمّا قلّت الموارد، نهض أهل الخير والصّلاح، من الأثرياء بالقيام بمصالح المسلمين، بما وقفوه من أوقاف على مختلف المصالح العامّة.[15]

هذا فهم مبكّر وعميق لمبدأ المصلحة وفكرة المقاصد؛ فمصلحة المجتمع تتقدّم على مصلحة الفرد. وإنّ رفع الحرج وتنمية النّفع هي من أوكد أهداف الشّريعة وأولويّاتها؛ يقوم بها الحاكم والمحكوم وقت الشدّة والرّخاء. وهذا التناغم الوثيق بين المصالح والمقاصد بلوره ابن تيميّة قديما حيث قرّر« أنّ الشّريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها».[16]

وترسيخا لنظريّة المقاصد العامّة للشّريعة، اهتمّ علماؤنا وفقهاؤنا قديما وحديثا بالبحث والتّنظير لتوضيح تلك المقاصد العامّة. وهناك اتّفاق مبدئي بين المشتغلين المعاصرين في تعريف المقاصد منذ ابن عاشور وعلاّل الفاسي وأحمد الرّيسوني، بأنّها المعاني والحكم والعلل الرّاجحة للصّلاح العام للمجتمع والأفراد، بما تُحفظ به مصلحة الإنسان في الدّنيا والدّين.[17]

تُعتبر مقاصد الشّريعة منافذ واسعة للتّدليل على سعة التّشريع الإسلامي في حياة المسلمين، فهي ميدان التّفاعل المثمر بين النّصوص الخالدة والواقع المتجدّد، الكفيل بفتح وجهات متطوّرة للاجتهاد وإثراء مباحث الفقه. ولقد ظلّ منهج أصول الفقه كما لاحظ الشّيخ الطّاهر بن عاشور مهتمّا بوجوه استنباط الأحكام من الألفاظ، بواسطة قواعد لفظيّة بمعزل عن بيان غايات التّشريع ومقاصده العامّة، أي إنّ علم الأصول توسّع في التّنظير اللّغوي، بعيدا عن التقصّي في أسرار التّشريع وأهدافه وحكمه.

وهذا موطن آخر من مواطن تجديد مباحث هذا العلم وإبرازها. وربّما كان الغزالي:(450-505هـ) من أوائل المتفطّنين إلى هذا النّقص فعالجه بتوسّع في كتاب: شفاء الغليل في مسالك التّعليل، وتوصّل إلى أنّ النّصوص لا يمكن تفسيرها، إلاّ في سياق ما قُصد منها، متعرّضا إلى المصالح العامّة والمقاصد الكليّة.[18]

وقد كان أستاذه الإمام الجويني (419هـ-478هـ) ممهّدا فعلياّ لتأسيس علم المقاصد، فقد نصّ صراحة في تقسيمه للعلل والمقاصد الشرعيّة على مراتب مقاصد الشّريعة الثلاث: الضّروريات، والحاجيات، والتّحسينيات، وخاصّة في كتابيه: البرهان في أصول الفقه، والتّلخيص، الّذي اختصر فيه كتاب شيخه الباقلاّني(338-402هـ) التّقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد. ولكن يجب الاعتراف بأنّ سيف الدّين الآمدي (551-631هـ) ومنذ مطلع القرن السّادس الهجريّ، بدأ الحديث عن المقاصد والضروريّات بصورة واضحة، ولكنّه لم يقدمّ لها تعريفا شافيا. وقد عرض في كتابه: الإحكام في أصول الأحكام، تنظيرا منطقيّا واضحا لفكرة المقاصد: «في أقسام المقصود من شرع الحكم واختلاف مراتبه في نفسه وذاته: وهو لا يخلو إمّا أن يكون من قبيل المقاصد الضروريّة أو لا يكون من قبيل المقاصد الضّرورية. فإن كان من قبيل المقاصد الضّرورية فإمّا أن يكون أصلاً أو لا يكون أصلاً. فإن كان أصلاً فهو الرّاجع إلى المقاصد الخمسة، الّتي لم تخل من رعايتها ملّة من الملل ولا شريعة من الشّرائع. وهي: حفظ الدّين والنّفس والعقل والنّسل والمال. فإنّ حفظ هذه المقاصد الخمسة من الضّروريات، وهي أعلى مراتب المناسبات».[19]

ويقسّم الآمدي المقاصد إلى ضروريّة وحاجيّة وتحسينيّة: «وأمّا إن لم يكن المقصود من المقاصد الضروريّة فإمّا أن يكون من قبيل ما تدعو حاجة النّاس إليه أو لا تدعو إليه الحاجة. فإن كان من قبيل ما تدعو إليه الحاجة، فإمّا أن يكون أصلا أو لا يكون أصلاً. فإن كان أصلاً فهو القسم الثّاني الرّاجع إلى الحاجات الزّائدة. وإن لم يكن أصلاً فهو التّابع الجاري مجرى التتمّة والتكملة للقسم الثّاني. وهذا النّوع في الرّتبة دون ما تقدّم. أمّا بالنّظر إلى المقصود الذي هو من باب الضرورات والحاجات فظاهر. وأمّا إن كان المقصود ليس من قبيل الحاجات الزائدة فهو القسم الثّالث. وهو ما يقع موقع التّحسين والتّزيين ورعاية أحسن المناهج في العادات والمعاملات. جرياً للنّاس على ما ألفوه وعدّوه من محاسن العادات». [20]

ثمّ جاء العزّ بن عبد السّلام (577-660هـ) ودوّن كتابه: قواعد الأحكام في مصالح الأنام، وأفرد المقاصد بالبحث والتّحليل، وأرجع أحكامها كلّها إلى قاعدة جلب المصلحة ودرء المفسدة. ثمّ جاء القرافي( 622هـ-684هـ) فألّف كتاب الفروق، وتوسّع بدوره في التّنظير للمقاصد. وفي القرن الثامن الهجريّ كتب الشّاطبي (ت:790هـ/1388م) كتاب الموافقات. وحاول أن يعيد الفقه إلى الواقع، بالاهتمام بالكليّات في الأصول. ولئن تكلّم كثيرا عن المقاصد، فإنّه لم يرد عنه تعريف لها. فالشّريعة في نظره ترجع إلى حفظ المقاصد، التي يكون بها صلاح الدّين والدّنيا: «وَالشَّرِيعَةُ الْمُبَارَكَةُ الْمُحَمَّدِيَّةُ مَنَزَّلَةٌ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ محفوظة في أصولها وفروعها؛ كما قال تَعَالَى:﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحِجْر:9] لِأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى حِفْظِ الْمَقَاصِدِ التي بها يكون صلاح الدّارين».[21]

شهد الشّاطبي اضطرابات اجتماعيّة ودينيّة عديدة في عصره، وعايش دعوات دينيّة وسياسيّة مختلفة، كرّست اختلاطا مذهبيّا سلبيّا، وتدهورا أخلاقيّا مريعا، وكانت قوّة إيمانه وهمّته العقليّة وتدبّره لواقع عصره، والبحث عن تجديد الفكر وإصلاح السّلوك، عوامل إيجابيّة، كما لاحظ الشّيخ محمّد الفاضل بن عاشور(1909-1970) عصمَتْه من الوقوع في اليأس، أو الانخراط في التصوّف والزّهد والهروب، كما فعل كثير من معاصريه. فأقبل على فحص الواقع الدّيني وتمحيصه مقتنعا بأنّ حقيقة الدّين لا يمكن أن تكون إلاّ واحدة غير مختلفة، وأنّ الدّعوات الابتداعيّة التي نفخت فيها أبواق العصبيّات،هي التي أحدثت في الدّين ما يبدو بين صوره من تخالف واضطراب.[22]

اكتشف الشّاطبي أنّ المشكلة في التّفريعات والتّجزئة، ولأنّ دين الله واحد، لا بدّ من إرجاع الكثرة إلى الوحدة، فاهتمّ بتأصيل أصول علم الشّريعة والسموّ عن التّفاريع المختلفة إلى القواعد الكليّة التي ينبغي أن تكون مراجع للفقه لا تحيد عنه.[23]

وأكّد على ضرورة الجمع بين أحكام الدّين المتناهية، ومستجدّات الحياة التي لا تنتهي. فكان كتاب الموافقات بمثابة التصوير الدقيق لما تقتضيه تلك الأحكام، من استجلاب المصالح، وتفصيل طرق الملاءَمَة بين حقيقة الإسلام الخالدة، وصور الحياة المختلفة والمتعاقبة على الدّوام.[24]

وفي العصر الحديث دعا الشّيخ محمد الطّاهر بن عاشور(1296- 1393هـ/1879- 1972) إلى إعادة النّظر في استثمار مقاصد الشّريعة، واستنباط الأحكام من المقاصد الكليّة بدلاً من العلل الجزئيّة. وكان ذلك في ظروف معروفة مرّ بها العالم الإسلاميّ ولأسباب كثيرة: منها الجدال الدّائر حول الاجتهاد والتّقليد، وتجديد الفقه الإسلامي، ومنها كثرة المسائل المستجدّة التي لم تسعف في دراستها أدوات الاستنباط المعهودة. يقول الشّيخ ابن عاشور: «مقاصد التّشريع العامّة هي المعاني والحكم الملحوظة للشّارع، في جميع أحوال التّشريع أو معظمها. بحيث لا تختصّ ملاحظتها بالكون في نوع خاصّ من أحكام الشّريعة الإسلاميّة». وفي موقع آخر يقول:«إنّ مقصد الشّريعة إصلاح هذا العالم وإزالة الفساد منه، وذلك في تصاريف أعمال أهل العالم. ولقد علمنا أنّ الشّارع ما أراد الإصلاح المنوّه به مجرّد صلاح العقيدة، وصلاح العمل بالعبادة، كما قد يتوهّم، بل أراد منه صلاح أحوال النّاس وشئونهم، في الحياة الاجتماعيّة».[25]

وقد استمدّ الشّيخ هذه المعاني من قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ [البقرة:205]. فقد أكّد رأيه بقوله: «إنّ قوله تعالى: (الآية 205 من سورة البقرة) أنبأنا بأنّ الفساد المحذّر منه هنالك، هو إفساد موجودات هذا العالم». [26]

فمقاصد التّشريع تتجاوز الأشخاص والزّمان والمكان، لذلك هي لا تتحجّر في تقريرات ظرفيّة ولا في أحكام جزئيّة. وهذا ما لاحظه الإمام ابن القيّم حين قال:« إِنَّ الشَّرِيعَةَ مَبْنَاهَا وَأَسَاسُهَا عَلَى الْحِكَمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ فِي الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ. وَهِيَ عَدْلٌ كُلُّهَا وَرَحْمَةٌ كُلُّهَا وَمَصَالِح كُلُّهَا».[27]

فهل يدخل الوقف ضمن المقاصد العامّة للشّريعة فيجلب المصالح للنّاس ويدرأ عنهم المضارّ والفساد، وكيف يمكن أن يكون أداة معتبرة، في إصلاح أحوال النّاس وشئونهم، في حياتهم الاجتماعيّة والماديّة والرّوحية؟

الأوقاف: مقاصد وأهداف

نبع الوقف في العقل المؤمن من نظرة شموليّة للإسلام، باعتباره مشروعا ثقافيا حضاريّا، ومن بعد نظر في نفع الإنسان وإصلاح الأرض. وللوقف أهداف خاصّة بالمسلم وأخرى تخدم الإنسان بغضّ النظر عن دينه ولونه وعرقه. للمسلم من وراء الوقف هدف عريض واحد:هو ابتغاء وجه الله تعالى، ورجاء عفوه ومغفرته، وأن يظلّه العزيز القدير برحمته يوم لا ظلّ إلاّ ظلّه.

 إنّ المتدبّر لكلام الله العزيز ولهدي نبيّه الشّريف يتأكّد أنّ الوقف الخاصّ لله، من أفضل أعمال البرّ والإحسان، إن لم يكن أفضلها. فبصفته إنفاقا يدخل ضمن الآية الكريمة: ﴿يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُم مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾ [البقرة:215] وضمن قوله تعالى: ﴿وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:272]. وبصفته قرضا يدخل ضمن قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً﴾ [المزمّل:20]. وهو في الهدي النبويّ الشّريف نوع من الصّدقة الجارية.

أمّا أهداف الوقف للإنسان والمجتمع، فهي لا تكاد تحصى لأنّها تندرج ضمن قيم التكافل والإصلاح. وأوّل الأهداف هو إعانة الدّولة نفسها، على تنظيم الحياة الاجتماعيّة، والمحافظة على البنية التحتيّة. وعن هذا تتولّد غايات أخرى منها على سبيل المثال:

- بعث الاطمئنان في نفوس المعوزين والعاجزين والمحرومين، عبر تحقيق منافع صحيّة وتعليميّة واجتماعية ومعاشيّة.

- تجسيد العدالة الاجتماعيّة بتوزيع الثّروة، قدر الإمكان، بين أفراد المجتمع وعلى أجيال الأمّة.

- غرس العزّة بالانتماء، أو ما يسمّى الوطنيّة، بالعمل الفعليّ وخدمة المصلحة لا بالشّعارات والأناشيد.

- تأمين نوع من الاكتفاء الذّاتي يمنع التدخّلات الأجنبيّة بحجّة المساعدة الإنسانيّة، أو على الأقلّ يقلّل منها إلى أدنى حدودها ومجالاتها الضروريّة.

- زرع مظاهر الأمن الاجتماعي، لأنّ التبرّع في وجوه الخير والمصالح العامّة، يمتصّ الأحقاد ويقلّل من الاحتقان ويهدّئ من الغليان والتوتّر.

تلك بعض أهداف الوقف باعتباره صدقة جارية وشعورا مرهفا بالمسؤوليّة، وباعتباره أيضا عملا صالحا ومشاركة فعليّة في الحياة العامّة. أمّا الأهداف الميدانيّة للوقف فيمكن التماسها واستخلاصها من النّماذج الوقفيّة المختلفة التي تبنّاها المسلمون قديما وحديثا.

الفهم المقاصدي في فقه الوقف باعتباره تجديدا وإصلاحا

نهتمّ أوّلا بعرض ملامح هذا الفهم المقاصدي من خلال آراء  المدارس الفقهيّة المختلفة ونبدأ بالمدرسة الشّافعية:

رأى الإمام النّووي في كتاب التّهذيب: أنّ الوقف يجوز صرفه إلى ما فيه صلاح المسلمين. حيث قال بعض أصحاب الإمام الشّافعي: «لو جمع بين سبيل الله تعالى وسبيل الثواب وسبيل الخير، صرف الثّلث إلى الغزاة والثّلث إلى أقاربه والثّلث إلى الفقراء والمساكين والغارمين وابن السّبيل وفي الرّقاب».[28]

ماذا أراد النوويّ وفقهاء الشافعيّة بهذا التقسيم؟ كيف لمسلم عاديّ أن يفصل ويدقّق ليجعل وقفه محصورا على سبيل البرّ أو الخير أو الثّواب، وما الفرق بين تلك الأصناف الثلاثة؟ لن ندخل في جدل حول دلالة المصطلح عند الأصوليّين والفقهاء. نقتصر على ما نقله النوويّ الشافعيّ (ت:676 هـ) عن «التّهذيب في الفروع» للبغوي الشّافعيّ (ت: 516هـ) وعن بعض أصحاب الإمام الشافعيّ:

أوّلا: إنْ حبس مسلم على إحدى الجهات الثلاث أو بعضها أو كلّها: سبيل البرّ، والخير والثواب، فغلّة وقفه تُصرف،حسب البغوي، على ما فيه صلاح المسلمين من أهل الزّكاة وإصلاح القناطر وسدّ الثغور ودفن الموتى وغيرها، أي في جميع المجالات الضّروريّة في المجتمع، التّي تحقّق ما فيه صلاح المسلمين، من تكافل اجتماعيّ. والمقصود بأهل الزّكاة هي المصارف الشرعيّة التي تُصرف فيها، أمّا البنية التحتيّة فعبّر عنها بإصلاح القناطر وما شابه ذلك من طرقات وسدود وقنوات، أمّا أمن البلاد الخارجيّ فيتعلّق بسدّ الثغور، وما يلحق بذلك من تحصين الدّفاعات، أمّا الواجب الشرعيّ فذكر دفن الموتى، وهناك مصالح أخرى لم يذكرها مكتفيا بتعميم غامض بقوله: «وغيرها».

ثانيا: إن كان الوقف مقتصرا على جهة الخير دون غيرها، ففي قول بعض أصحاب الإمام، يقتصر صرف الغلّة على مصارف الزكاة، أي توزّع على المستحقّين الشرعيّين للزّكاة. ولكنّ العبارة لا ينبغي أن تفيد الحصر والتّحديد، بل تنصرف إلى المصالح الضّروريّة المذكورة وغيرها.

ثالثا: وإن قصد المسلم بوقفه جهة الثواب وحدها، اقتصر صرف الغلّة على جهة واحدة هي أقارب الواقف في قول بعض أصحاب الإمام. أي أنّ كلّ وقف على جهة الثواب لا يكون إلاّ أهليّا أو مشتركا «أهليّا- خيريّا».

 إنّ سعي الفقهاء وراء تحقّق المصلحة وخدمة المقاصد الشرعيّة، أوقعهم في الاختلاف المحمود وليس المذموم، لأنّ وجهات الاجتهاد وتحقيق المناط كما يقولون متشعّبة ومتباينة. فالبغويّ خالف قول بعض أصحاب الإمام، الّذين خالفوا بدورهم أقوال الشافعيّ كليّا أو جزئيّا في أغلب مسائل الوقف. ويأتي خلاف آخر إذ ليس ما ذهب إليه البغويّ، ولا ما قاله بعض أصحاب الإمام، هو المختار أو المعتمد أو الأصحّ في المذهب.

رابعا: الّذي قطع به الأكثرون هو قسمة الغلّة ثلاثة أثلاث: «لو جمع الواقف بين سبيل الله تعالى وسبيل الثواب وسبيل الخير» ليس منها ثلث واحد في المصالح ولا فيما فيه صلاح المسلمين، وهذا طبعا يخالف ما سبق. يبدو هذا التّوضيح متناقضا، إذ اختلف التّعميم الأوّل في كلام النوويّ عن التّفصيل بعده. لعلّ التّناقض هو في فهمنا المعتمد على معنى «أو» في كلام فقيهنا الجليل رحمه الله. فقد اعتبرنا تلك الأداة للاختيار والتفريق، كما يبدو من السّياق. ولعلّ النوويّ أراد منها معنى آخر، ومع ذلك فلا يتّضح الإشكال ولا يزول الخلاف والتناقض في صرف الغلّة بحسب الجهة الموقوف عليها. ويبدو الاختلاف واضحا بين فقهاء المذهب نفسه في خصوص الوقف.

هذا التقسيم الثلاثيّ للجهة الموقوف عليها والتّفريق بين سبيل البرّ، وجهة الخير، وجهة الثّواب، توارثه الشافعيّة عن كتاب «الأمّ». وخاصة ما ورد في مبحث الهبة وأحكامها حيث تمّ التدقيق والربط بين تلك السبل باعتبارها طرقا لربط الدنيوي بالأخروي.[29]

ونـحا الفقيه الشّافعي الخطيب الشّربيني المنحى نفسه في التّقسيم، ولكنّه اكتفى بزيادة التوّضيح والشّرح وتأكيد اتساع الفعل العبادي.[30]

والتّقسيم نفسه سار عليه فقيه شافعي آخر هو زكريا الأنصاري في الجمع بين جميع سبل الْبِرِّ والْخَيْر.[31]

عند الحنابلة

نجد أيضا المبدأ نفسه في التّقسيم والصّرف في الوصيّة والوقف:« وَإِنْ أَوْصَى فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ: صُرِفَ فِي الْقُرَبِ. وَنَقَلَ الْمَرُّوذِيُّ فِيمَنْ أَوْصَى بِثُلُثِهِ فِي أَبْوَابِ الْبِرِّ يُجَزَّأُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءٌ فِي الْحَجِّ وَجُزْءٌ فِي الْجِهَادِ وَجُزْءٌ يُتَصَدَّقُ بِهِ فِي أَقَارِبِهِ. زَادَ فِي التَّبْصِرَةِ: وَالْمَسَاكِينِ، وَعَنْهُ: يُصْرَفُ فِي الْجِهَادِ وَالْحَجِّ وَفِدَاءِ الْأَسْرَى. قَالَ الْمُصَنِّفُ عَنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ،لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ اللُّزُومِ وَالتَّحْدِيدِ بَلْ يَجُوزُ صَرْفُهُ فِي الْجِهَاتِ كُلِّهَا».[32]

من خلال ما ذُكر من أقوال شافعيّة وحنبليّة في الوصيّة والوقف، كان الهدف منها لا محالة تجلية بعض الغموض، وتوضيح بعض المسائل في فقه الوقف. نستنتج منها بعض الفوائد. لم يدقّق فقه الوقف في تحديد طبيعة العمل الخيري والتبرّعات، وإنّما ظلّ شذرات متفرّقة مقترنة بأحكام العطيّة والهبة والوصيّة والعمرى، وغيرها من مباحث الفقه العملي. وهذا يقتضي إعادة تصنيفها وتجميعها لتكون مرجعا واحدا للدّارسين المعاصرين.

لقد اجتهد الفقهاء في ترتيب المصالح وأولويّات الاستحقاقات، أي إنّهم اختلفوا في أهميّة المقاصد العامّة للشّريعة وأولويّاتها في الوقف، نظرا لثراء النّصوص وتشعّب المعالجات الاجتماعية. وعالج فقه الوقف أوضاعا سائدة انـحاز فيها إلى تغليب الأعراف ومراعاة الواقع.  وهذا يكشف عن وجوه من المرونة والتدرّج تجعل من إخضاع فقه الوقف إلى نظريّة المقاصد أو تقييمه بمعيار المقاصد أمرا يسير المنال.

بدأ التّنظير للوقف وأحكامه في القرن الثّاني للهجرة أي بعد وجود الأوقاف والأحباس وأوضاعها بقرن ونصف على الأقلّ. ولعلّه من المفيد التّذكير ببعض الحقائق في خصوص فقه الوقف.لاحظ وهبة الزّحيلي « أنّ القليل من أحكام الوقف ثابت بالسنّة، ومعظم أحكامه ثابت باجتهاد الفقهاء، بالاعتماد على الاستحسان والاستصلاح والعرف».[33]

في الواقع ليس في السنّة النبويّة تقريرات مفصّلة حول الحبس أو الوقف، ما عدا حديث عمر في صدقة «ثمغ». ووفق الإمام ابن حجر العسقلاني، فإنّ حديث عمر أصل في مشروعية الوقف.[34]

ليست أقوال أئمّة المذاهب في الحبس والوقف هي المعتمدة دائما في فقه الوقف، بل غالبا ما رُجّحت أقوال تلاميذهم وأصحابهم، كما وقع مع أبي يوسف عند الحنفيّة وابن القاسم عند المالكيّة وأبي طالب المشكاني عند الحنابلة. ولا يوجد حسم ولا إجماع تامّ من فقهاء أيّ مذهب على مسألة واحدة من مسائل الوقف، وهذا منزع مقصود في ذاته، يراعي التطوّر وأحوال البلدان والعباد. وهذه الواقعيّة تجعل من نظريّة المقاصد في فقه الوقف، غير واضحة للوهلة الأولى، لأنّها تتطلّب قراءةً متأنيةً في الأحكام والفتاوى المتعلّقة بمسائل الوقف عند كلّ المذاهب، لبلورة تلك النظريّة.

وللبحث في أصول ارتباط فقه الوقف بنظريّة المقاصد في تراثنا الفقهيّ الثريّ، منهجيّات عديدة. فأيّة منهجيّة نسلك؟ هل ننطلق، مثلا، من الأحكام الفقهيّة الخاصّة بالوقف في مذهب فقهيّ أو أكثر بحثا عن مقاصد الشّريعة فيها؟ أم نعرض بعض النّماذج من الأوقاف في تاريخنا لنحدّد غاية الواقف ومقاصد الشّريعة فيه. ثمّ نبحث عن الحكم الفقهيّ وننظر فيه؟

قد لا تفي إحدى المنهجيّتين وحدها بالغرض، والأَوْلَى اعتماد مبدأ الشّمول والتكامل في الطّرح، حسب المقام، واعتماد الاثنتين إن لزم الأمر. ولكي يتسنّى لنا أن نقيّم مدى ملاءمة فقه الوقف لفلسفة المقاصد وأصول ارتباطه بها، سلكنا في هذا المبحث منهجيّة تراعي التاريخ وأنواع الوقف ونظريّة المقاصد. وعلى أساس تلك الاعتبارات، نتساءل: إلى أيّ مدى راعى فقه الوقف نظريّة المقاصد؟ 

علاقة نظريّة المقاصد بأنواع الوقف

ليس في المصادر الفقهيّة الأصليّة حديث إلاّ عن الوقف أو الحبس. إذ لم ينظر فقهاؤنا المتقدّمون رحمهم الله إلى الوقف من حيث نوعه. وتقسيم الوقف من حيث نوعه تقسيم مُحْدَث ذكره بعض الفقهاء المحدثين باعتبار صفة الجهة الموقوف عليها. وشاع في البدء نوعان: الوقف الأهليّ والوقف الخيريّ. ثمّ تعدّدت التّفريعات. وقد ذكر محمّد قلعجي في معجم لغة الفقهاء عدّة أنواع للوقف: «الوقف الخيري، الوقف الذرّي، الوقف المنقطع الابتداء: كالوقف على ما لا يجوز. الوقف المنقطع الآخر، الوقف المنقطع الوسط، الوقف المنقطع الطّرفين».[35] وما زالت محاولات تقسيم الوقف نوعيّا بين أخذ وردّ. فقد ارتأت المملكة العربيّة السّعودية أن تحافظ على التقسيم الثنائيّ مع تغيير اسم الصّنف.[36]

وبغضّ النّظر عن مستندات المشرّعين ومقاصدهم وأغراضهم من تحويل الوقف الأهليّ إلى وقف خيريّ خاصّ، فإنّ مقاربة البحث في أصول ارتباط فقه الوقف بنظريّة المقاصد تستدعي النّظر والتركيز على أبرز الأنواع الثلاثة من الوقف. وهي الوقف على النّفس والأهليّ والخيريّ لتباين مقاصد هذه الأنواع وأغراضها في ارتباطها بنظريّة المقاصد، ولتباين أقوال الفقهاء في كلّ منها. فقد لا تكون صورة ارتباط فقه الوقف بنظريّة المقاصد واضحة، إذا تناولنا فقه الوقف في مجمله دون اعتبار أنواع الوقف. وليس الوقف كلّه خيريّ باعتبار أصله ووصفه الشّرعي كما ذهب إلى ذلك الدريويش في بحثه عن الوقف ومشروعيته.[37]

أوّلا: الوقف على النّفس وعلاقته بنظريّة المقاصد

كان ابن تيميّة متيقّظا دائما للبدع والتّجاوزات الدّينية التي تحصل في المجتمع، فقد انتقد بعض صور التّحايل في الوقف ومنها أَنْ يُوقِفَ الشّخص مِلْكَهُ عَلَى نَفْسِهِ، فهذا لا يجوز في نظره ونظر أغلب المذاهب لأنّه يضيّع مقصد الشّريعة في النّفع العام.[38]

يبدو أنّ هذه الحيل امتدّت إلى زمن ابن حجر الهيثمي(909-974هـ)، ممّا جعله يفرد لها بعض المباحث في كتاب الوقف. يتحدّث عن صور التحايل في الوقف على الولد: «منها أَنْ يَقِفَ عَلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ وَيَذْكُرَ صِفَاتِ نَفْسِهِ فَيَصِحُّ كَمَا قَالَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ وَاعْتَمَدَهُ ابْنُ الرِّفْعَةِ وَعَمِلَ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَوَقَفَ عَلَى الْأَفْقَهِ مِنْ بَنِي الرِّفْعَةِ وَكَانَ يَتَنَاوَلُهُ».[39]

من العسير ضبط تاريخ ظهور هذا النّوع من الوقف، إلاّ أنّه انتشر على الأرجح في النّصف الثاّني من القرن الأوّل للهجرة عندما أجازه بعض القضاة مراعاة للمصالح.ولكنّ أغلب فقهائنا المتقدّمين أنكروا هذا الوقف واعتبروه مجانبا لمقاصد الشّريعة. وإن اختلفت الرواية عن بعضهم. فكثيرا ما نقرأ في مباحثهم مثل هذه العبارات: «وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوقِفَ الرَّجُلُ مِلْكَهُ عَلَى نَفْسِهِ»، و«الوقف على النّفس باطل»، و«يبطل قطعا» و«لَا يَجُوزُ » و«لا يصحّ». ذلك هو المشهور في أغلب المذاهب. فلنعرض بإيجاز مواقف المذاهب الفقهيّة حول هذه المسألة:

موقف المالكيّة:

عرض «محمّد عليش» في شرحه لمختصر خليل موقف الإمام« ابن عرفة» من الوقف على النّفس فقال بلغته الفقهيّة:« الْحَبْسُ عَلَى نَفْسِ الْمُحَبِّسِ وَحْدَهُ بَاطِلٌ اتِّفَاقًا وَكَذَا مَعَ غَيْرِهِ عَلَى الْمَعْرُوفِ».[40]

وفي موقع آخر شرح كلام «خليل بن إسحاق» في المسألة فقال:« وَبَطَلَ الْوَقْفُ إنْ وَقَفَ الْمَالِكُ مِلْكَهُ عَلَى نَفْسِهِ».[41]

موقف الحنابلة:

         سُئل الإمام «أحمد بن حنبل» حول الوقف على النّفس. فقال: لا أعرفه، أي لم يرد في سنّة الرّسول الكريم ولا في سيرة أصحابه. ذكر ذلك الإمام عبد الرحمن المقدسي (597-682 هـ) في شرحه الكبير على كتاب المقنع.[42]

جوّز بعض الحنابلة التوقيف على النّفس.وهم يعلمون أنّ الجمهور على عدم التجويز.ليس حبّا في الاختلاف، بل تنوّعا في الفهم ومراعاةً لمقاصد الشّريعة نفسها.[43]

يمكن إرجاع الاختلاف أو التأرجح في الموقف لدى بعض الحنابلة، لسبب  اختلاف الرّواية عن الإمام أحمد فيمن وقف على نفسه ثمّ على المساكين. فقد روي عنه:« فإذا وقفه عليه (أي على نفسه دون جهة أخرى) حتّى يموت فلا أعرفه».[44]

إنّ اختلاف الرّأي هنا مرتبط بحضور المصلحة أو غيابها فعندما تتحقّق، يجوز مخالفة علماء المذهب. نكرّر هنا ملاحظة منهجيّة. وهي أنّ اختلافات الفقهاء في مثل هذه المواقع ينبغي النّظر إليها باعتبارها ضرورة اقتضتها مطالب السّعي الحثيث نـحو تحقيق المصالح والمقاصد في بنية الحياة الاجتماعية ومشاغل النّاس. فهي وَصْفات مختلفة وعلاجات متعدّدة. وبهذا الوجه ننظر إليها باعتبارها اجتهادا وتجديدا في بنية الثّقافة الإسلامية. 

موقف الحنفيّة:

لأنّ الوقف هو تبرّع على وجه التمليك، كان اشتراط التّوقيف على النّفس والولد مرتبطا بمدى مراعاة مقاصد الشّرع وتحقيق مصالح العباد. وبعبارة أخرى هل التصدّق على النّفس والأهل رغم أنّه محدود بآجال، يمكن أن يجلب المنفعة أو يدفع المضرّة؟ هذا الطّرح يقود بالضّرورة إلى موقفين عبّر عنهما فقهاء الحنفيّة بكلّ وضوح:« لَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ قِيلَ: لَا يَجُوزُ».[45]

وليس مهماّ بعد ذلك أن يكون التّفصيل متعلّقا بجزئيّات أخرى، فالغاية تتّجه إلى مقياس تحقُّقِ المصلحة والتّرغيب في الوقف بين النّاس.[46]

موقف الشّافعيّة:

يُعللّ «الخطيب الشّربيني» سبب الاختلاف في استحقاقات الوقف، بأنّه صدقة جارية ومتواصلة، فكما لا يوقف على ما لا دوام له وهي الأعيان. لا يوقف أيضا على من لا دوام له وهو الإنسان، ويحيل إلى َقَول عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ  فِي وَقْفِهِ بِئْرَ رُومَةَ:« دَلْوِي فِيهَا كَدِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ لَيْسَ عَلَى سَبِيلِ الشَّرْطِ، بَلْ إخْبَارٌ بِأَنَّ لِلْوَاقِفِ أَنْ يَنْتَفِعَ بِوَقْفِهِ الْعَامِّ كَالصَّلَاةِ بِمَسْجِدٍ وَقَفَهُ، وَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ وَحَكَمَ بِهِ حَاكِمٌ نَفَذَ حُكْمُهُ وَلَمْ يُنْقَضْ؛ لِأَنَّهَا مَسْأَلَةٌ اجْتِهَادِيَّةٌ».[47]

ويلخّص الإمام النّووي المسألة بصورة منطقيّة توضّح أنّ المذاهب الفقهيّة رغم إجماعها على مسألة، تترك المجال مفتوحا أمام الاجتهادات ووجهات النّظر المختلفة، التي تزيد مباحث الفقه تنويعا وإثراء: «في وقف الإنسان على نفسه وجهان أصحّهما بطلانه وهو المنصوص والثّاني يصحّ. قاله الزّبيري».[48]

موقف الظّاهريّة:

جوّز الظّاهرية التّحبيس على النّفس جزئيا وكلّيا. قال ابن حزم:« جَائِزٌ أَنْ يُسَبِّلَ الْمَرْءُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى مَنْ شَاءَ، فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ:«ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهَا».وَقَالَ لِعُمَرَ «تَصَدَّقْ بِالثَّمَرَةِ» فَصَحَّ بِهَذَا جَوَازُ صَدَقَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَى مَنْ شَاءَ  وَهُوَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ، وَغَيْرُهُ».[49]

موقف الإماميّة:

اهتمّ الإماميّة بتأكيد القرائن في شروط الوقف، سعيا نـحو التّدقيق وإزالة الغموض والاستفادة من الأوقاف على أحسن الوجوه.ولم يختلفوا في النّظر إلى الوقف على النّفس عن بقيّة المدارس الفقهيّة. بل نجد الطّرح نفسه من حيث الإجماع والتفرّد. قال نجم الدّين الحلّي (620-676هـ):« وَلَوْ وَقَفَ عَلَى نَفْسِهِ لَمْ يَصِحَّ».[50]

موقف الزّيديّة:

يصحّ الوقف على النّفس عند عامة فقهاء الزيديّة إذا قصد القربة في ذلك، وأن يستغني عن تكفّف النّاس، واستندوا في ذلك على أحاديث الكسب من الحلال وإنفاقه على النّفس والولد باعتباره صدقة، فإن لم يقصد ذلك لم يصحّ الوقف. وقال بعض الفقهاء لا يصحّ الوقف على النّفس لأنّه تمليك.[51]

موقف الإباضيّة:

نصّ الإباضيّة على أنّ الوقف لا يلزم إلاّ بحكم، أو أن يخرج مخرج الوصيّة.[52]

الظّاهر أنّ أئمّة المذاهب قالوا ببطلان الوقف على النّفس. وخالفهم من جاء بعدهم من تلاميذهم، أو من علماء المذهب بعدهم. فأيّ الأقوال تنسجم مع نظريّة مقاصد التّشريع، وتؤسّس ملامح فكر اجتماعي ومدني يفي بمطالب النّاس ويحلّ مشكلاتهم المطّردة؟

اعتمادا على الإجماع بين أئمّة المذاهب وتلاميذهم ومن جاء بعدهم فإنّ الاتّجاه الغالب عندهم هو: «الوقف على النّفس باطل». فهم لم يجدوا له مدخلا ولا مبرّرا. لأنّه في تقديرهم لا يخدم مصالح شرعيّة واضحة. بل تفطّنوا إلى مظنّة التحيّل في هذا النّوع من الوقف.[53]

يتلاقى كلام السُّبكيّ(683- 756 هـ) في المضمون الجوهريّ، مع كلام ابن تيميّة السّابق في معنى تحيّل الواقف على نفسه. والسّبكيّ يقرّ بالتحيّل، إذ وصف الواقف بأبشع النّعوت وهو شحّ النّفس. وإذا نسّقنا بين النّصّين تاريخيّا أمكن الاستنتاج أنّ تشريع الوقف على النّفس انتشر في زمن ابن تيميّة (661-728 هـ) أو قبله بقليل، إذ اعتبر ذلك «مِن الْحِيَلِ الْجَدِيدَةِ». والسُّبكي يؤكّد التحيّل بصيغ مختلفة. ولكنّ معظم الفقهاء، لا يعتبرونه وقفا وإنّما وصيّة، وهذا ما قرّره فقهاء الإباضيّة أيضا.

يبدو أنّ هذه الحيل امتدّت إلى زمن ابن حجر الهيثمي(909-974هـ)، ممّا جعله يفرد لها بعض المباحث في كتاب الوقف.[54]

وقد تراءى لنا حسب المراجع التي أمكن الاطّلاع عليها أنّ الوقف على النّفس ثمّ على جهة معيّنة هو من فقه المتأخّرين:«قَالَهُ جَمْعٌ مُتَأَخِّرُونَ» من الشافعيّة ومن غيرهم. مثل ابْن الرِّفْعَةِ الأنصاري الشافعي (645-710هـ) الذي قال بصحّة هذا النّوع من الوقف وَعَمِلَ بِهِ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وغيره. فهل كان ذلك تطبيقا لأحكام الدّين ومراعاة لمقاصد الشّريعة؟ [55]

عالج السُّبكيّ المسألة بتوسع في فتاويه ورأى أنّ الوَقفَ عَلَى النّفسِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ، يكون صحيحا ولا حقّ للورثة فيه. من الواضح هنا أنّ الفقيه، اعتبر مقاصد الشّريعة العامّة، لأنّه لم يكن له من غرض إلاّ تحقيق مصلحة الوقف.والفقهاء في هذا النّوع قسمان: الّذين قالوا ببطلانه حوّلوا الوقف إلى إحدى الجهات المعيّنة في شرط الواقف، أو كلّها، ما عدا الواقف نفسه، ونقّحوا شروط الواقف في قسمة الرّيع (غلّة الوقف) واعتمد بعضهم المساواة في ذلك أو المَنَابَات الشرعيّة في الميراث، أو شرط الواقف إن نصّ على ذلك. والّذين أباحوا الوقف على النّفس اكتفوا بتنفيذ شروط الواقف أو الاجتهاد في تنفيذها حسب القرائن.

يظهر أنّ فقه الوقف على النّفس أتعب الفقهاء والمفتين. إذ أغرقهم على مرّ القرون في جدل متواصل تزايدت فيه الجزئيّات وترابطت وتعقّدت فتحوّل النّظر إلى «الحكم على النوايا» من خلال شرط الواقف ولفظه بحثا عن قرينة تخدم مقصد الشّرع ومصلحة الإنسان أينما كان.

سعى أئمّة الفقه قدر جهدهم بألاّ يخرج الوقف في نوعيّته عن نظريّة المقاصد عن أحكام الشّريعة. فلا اعتبار لمن شذّ عنهم أو راعى أمرًا لا علاقة له بهذه المقاصد. وإنّ النّظر إلى المباحث الفقهيّة من هذه الزّوايا الاجتهادية والاختلافيّة تصبح لذّة معرفية تضعنا وجها لوجه مع قضايا فكر متجدّد، يبني تخريجات طريفة واستنباطات فقهية على درجة كبيرة من التنوّع والواقعية. 

ثانيا: الوقف الأهليّ وعلاقته بنظريّة المقاصد

الوقف الأهليّ أو الذريّ  أو الخاصّ تسميّات بمعنى واحد تتعلّق بتخصيص ريع للواقف أوّلا ثمّ لأولاده، ثمّ إلى جهة برّ لا تنقطع. ويكون وقفا مشتركا عندما تُخصّص المنافع إلى الذريّة والمصلحة العامة معا. وفي تعريفه اصطلاحا بعض التدقيقات، لن نعرض لها بالتحليل، وإنّما نكتفي بتعريف الشّيخ « سيّد سابق» الذي تكفّل بتقديم تعريف وصفيّ للوقف قال فيه: «الوقف أحيانا يكون على الأحفاد أو الأقارب ومن بعدهم إلى الفقراء، ويسمّى هذا بالوقف الأهلي أو الذريّ وأحيانا يكون الوقف على أبواب الخير ابتداء ويسمّى بالوقف الخيري».[56]

أمّا الشّيخ «وهبة الزُّحيلي» فيزيده توضيحا فيقول:«الوقف الأهلي أو الذُّرِّي: هو الّذي يوقف في ابتداء الأمر على نفس الواقف أو أيّ شخص أو أشخاص معيّنين، ولو جعل آخره لجهة خيريّة، كأن يقف على نفسه، ثمّ على أولاده، ثمّ من بعدهم على جهة خيريّة».[57]

إنّ انتشار الوقف الأهليّ بين المسلمين مستنبط من فقه محمّد بن عبد اللّه الأنصاري شيخ البخاري الّذي «صنّف فيه جزءا ضخما واستدلّ له بقصّة عمر [في صدقة ثمغ] وبقصّة راكب البدنة وبحديث أنس في أنّه صلّى اللّه عليه وآله وسلّم أعتق صفيّة وجعل عتقها صداقها، كما ذكر ذلك الشّوكاني في «نيل الأوطار».[58]

   تعدّدت الأقوال واختلفت في المذهب نفسه، وكلّ فقيه أو مُفْت اجتهدَ برأيه منطلقًا من حُجج ناتجة عن شرط الواقف. ووقع التّركيز على مآل الوقف في حالات غياب جهة موقوف عليها، وعلى قضايا استحقاقيّة ونسبة المناب للمستحقّين في نطاق تعدّد المنتفعين وما إلى ذلك.  واختلفوا في التّسوية ومن يدخل ومن يخرج. لذلك قال الإمام «مالك» فيمن حبس على بنيه وبناته وشرط أنّ من تزوّج من بناته فالحبس خارج عنها: «أنا أكره هذا ولا أرضاه».[59]

فكيف يمكن للوقف الأهليّ إذن أن ينسجم مع مقاصد الشّريعة وأنّى لفقهه أن يضمن مصلحة من المصالح الشرعيّة العامّة أو الخاصّة؟

اتّجه الفقه في هذا الباب إلى حلّ النّزاعات والإشكالات المتفاقمة في الوقف الأهليّ وإخضاعه إلى مقاييس الشّرع. لأنّ «الوقف على الذريّة يفضي إلى النّزاع والشقاق والإحن والفتن أو يؤدّي إلى محاباة بعض الورثة وهذا فيه من الشرّ والفساد ما لا يخفى».[60]

قد يكون في الوقف الأهلي، في صورته المعروضة في كتب الفقه، ما يجعل بعضهم يجوّزه ويدافع عنه ويبدي محاسنه، ولكنّهم لم يجهلوا غاياته الحقيقيّة عند الواقفين ومشاكل المستحقّين.فقد نـحا الوقف الأهليّ منحى غير الّذي انتهجه الصّحابة الكرام ، بحرص بعض النّاس على بقاء الموقوف ملكا في الذرّية. وبمثل ذلك التحكّم وفرض إرادة دائمة من قبل الواقف على الموقوف عليهم، ضيّعوا كثيرا من المقاصد الشرعيّة.

وقد تصدّى الفقهاء إلى ذلك بالغوص في ألفاظ شروط الواقف وفق اجتهادات شخصيّة نظرا لإشكاليّات النصّ ونظرا لاختلاف الأوضاع والغايات بطول الزمن وتباعده. فقد تكون اللّفظة أو العبارة أو الصّيغة تعني أمرا واضحا في ذهن الواقف يوم كتابتها، حسب ثقافته ومذهبه وعرفه وعادات مجتمعه، ثمّ تفقد ذلك المفهوم بمرور الزّمن، وقد عمل الفقهاء على تطويعها لتُطابق دائما مقاصد الشّريعة أو على الأقلّ  حدود خدمة الأفراد أو الصّدقة على ذوي القُربى، وتحقيق منافع اجتماعية شتّى.

ثالثا: الوقف الخيريّ وعلاقته بنظريّة المقاصد

عرّف «وهبة الزّحيلي» الوقف الخيري بأنّه «هو الّذي يوقف في أوّل الأمر على جهة خيريّة، ولو لمدّة معيّنة، يكون بعدها وقفاً على شخص معيّن أو أشخاص معيّنين. كأن يقف أرضه على مستشفى أو مدرسة ثمّ من بعد ذلك على نفسه وأولاده».[61]

وحدّد الفقهاء مصارفه فذكروا أنّه:« وقف على جهات البرّ، كالفقراء، والمساكين، والمساجد، وما إلى ذلك».[62]

وحدّدوا له جملة من الغايات تستهدف تحقيق مصلحة عامة كالوقف على المساجد ودور العلم وعلى العلماء والفقراء والمستشفيات. وقيل إنّ الوقف الخيري هو ما جُعل ابتداءً على جهة من جهات البرّ، ولو لمدّة معينّة يكون بعدها على شخص أو أشخاص معيّنين. فإذا وقف إنسان داره لينفق غلّتها على المحتاجين من أهل بلده كان الوقف خيريّاً».[63]

وإن كان الوقف الخيريّ يتجاوز الحدّ والحصر من حيث مشمولاته، فلا بدّ من إعادة تعريفه اصطلاحا وتحديد طرق تنفيذه، وهذا يعود إلى أهل الاختصاص في فقه التّشريع والقانون وخبراء الاقتصاد والتخطيط في البلاد الإسلاميّة، لتجديد مفهوم الوقف، إذ المسلمون في حاجة إلى أن تتّضح رؤيتهم للوقف الخيريّ وطرق النّفع والإصلاح، حتّى يمتدّ نفعه للأجيال على مختلف وجوه العمران والتّمكين.

فهل يحقّق الوقف الخيريّ كثيرا من مقاصد الدّين والشّرع؟ وهل فقه الوقف، على حالته اليوم، يجسّم الالتحام العضويّ المنشود بين نظريّة المقاصد العامّة للشّريعة وبين الوقف الخيريّ في مواقعه العديدة؟ يحتاج الطرح إلى عرض تجارب وقفية وتقييمها على ضوء مقاصد الشرع. ولن تسمح طبيعة البحث بهذا التوسّع، ولكنّ حضور الوقف الخيري في المصالح الاجتماعيّة والتعليميّة والصحيّة،كان بارزا في تاريخ المسلمين، ومثّل أسمى درجات النّبل ونكران الذات وأرقى أنواع السموّ بالإنسان، في تحقيق توازنه المادي والروحي. وإنّ الأوقاف الخيريّة في تاريخ المسلمين هي مفخرتهم، وفخرهم الحقّ أكثر من إنجازاتهم العلميّة. فقد وفّر هذا القسم من الأوقاف للأمّة تبعاً لمقاصد الواقف ومقدار حاجة المجتمع، كثيرا من المرافق الضّرورية والحاجيّة والتّحسينية، التي جاءت الشريعة الإسلامية من أجل خدمتها وتحقيقها في واقع البلاد والعباد.        

 %d8%a7%d9%84%d8%af%d9%83%d8%aa%d9%88%d8%b1-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%ad%d8%b3%d9%86-%d8%a8%d8%af%d8%b1%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%8a%d9%86

الدكتور محمد حسن بدرالدين

كاتب وباحث تونسي، متخصّص في التّربية والفكر الإسلامي. حاصل على بكالوريوس الآداب، والأستاذية في العلوم الإسلامية، والماجستير والدكتوراه في أصول الدين ومقارنة الأديان. مارس التدريس والإشراف التربوي والإدارة، وأسهم في التأليف المدرسي. نشر عدّة أبحاث ودراسات أدبيّة وتربوية وفكريّة في مجلاّت ودوريّات عربيّة متنوّعة.

 


 

قائمة المصادر والمراجع: (مرتّبة وفق ورودها في البحث)

    أ) عربيّة:

1- أبو عبيد القاسم بن سلاّم، الأموال، تحقيق: محمّد حامد الفقي، القاهرة ،1353هـ.

2- محمّد ضيف الله بطاينة، الحياة الاجتماعيّة في صدر الإسلام، مكتبة دار التّراث، المدينة المنوّرة، الطبعة الأولى، 1409هـ /1988م.

3- ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، دار الكتب العلمية، ط:1،بيروت،1407هـ.

4- الرّاغب الأصفهاني، مفردات القرآن، دار القلم، الدّار الشامية، ط:1 ، دمشق، بيروت،1412هـ.

5- الفخر الرّازي، التّفسير الكبير مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط 1، 1411هـ.

6- محمّد عثمان نجاتي، القرآن وعلم النفس، دار الشّروق، مصر، ط:7 ،1421هـ/2001م.

7- الموسوعة الفقهية الكويتية، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة بالكويت.

8- أبو يوسف، كتاب الخراج، المكتبة السلفية، الطبعة الثانية، القاهرة، 1952م.

9- محمّد العزيز جعيّط، المقاصد الشرعيّة وأسرار التّشريع،المجلّة الزيتونيّة، رمضان 1355هـ/1936م، مجلّد 1، جزء3.

10- المتّقي الهندي:كنز العمّال في سنن الأقوال والأفعال، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1989م.

11- يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية، دار القلم، الكويت،1417هـ / 1996م.

12- محمّد الطّاهر بن عاشور، أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام،الشركة التونسية للتوزيع،1979م.

13- ابن تيميّة، الفتاوى الكبرى. دار الكتب العلمية،ط: 1 ،1408هـ /1987م.

14- الصّحبي عتيق، التّفسير والمقاصد عند الشيخ ابن عاشور، دار السّنابل، تونس 1410هـ/1989م.

15- الآمدي: الإحكام في أصول الأحكام،تحقيق:عبد الرزاق عفيفي،المكتب الإسلامي،بيروت، 1402هـ.

16- الشّاطبي، الموافقات في أصول الشّريعة، دار ابن عفّان، مكّة المكرّمة، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.

17- محمد الفاضل بن عاشور،أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، مكتبة النجاح تونس،(د.ت) .

18- محمّد الطّاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، الطبعة الثالثة،الشركة التونسية للتوزيع،1988م.

19-  يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشّريعة الإسلامية، دار القلم، الكويت،1417 هـ/ 1996م.

20- ابن القيّم، إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، تحقيق محي الدّين عبد الحميد، طبعة القاهرة.1986م

21- النّووي، روضة الطّالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1412هـ/1991م.

22- الشّافعي، الأمّ، دار المعرفة، بيروت ، 1410هـ/1990م.

23- الخطيب الشربيني، مغني المحتاج ، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1415هـ/ 1994م.

24- زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ ، أسنى المطالب. دار الكتاب الإسلامي.بيروت،(د.ت)

25-  المرداوي، الإنصاف في معرفة الرّاجح من الخلاف، دار إحياء التراث ، بيروت.(د.ت)

26- وهبة الزحيلي، الفقه الإسلاميّ وأدلّته، دار الفكر، الطَّبعة الثّالثة، دمشق ،2012م.

27- ابن حجر العسقلاني، فتح الباري، دار المعرفة، بيروت، 1379هـ.

28- محمد قلعجي، معجم لغة الفقهاء، دار النفائس،الطبعة الثانية،بيروت ،1408هـ/1988م.

29-  أحمد بن يوسف الدريويش،الوقف مشروعيته وأهميّته الحضارية.مكة المكرّمة،وزارة الأوقاف، 1420هـ.

30-  ابن تيميّة: الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، ط: 1 ،1408هـ /1987م.

31- ابن حجر الهيثمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج،المكتبة التجارية الكبرى بمصر،1357هـ.

32-  السّبكي (تقيّ الدين)، الفتاوى، دار المعرفة، لبنان، بيروت (د.ت)

 

     ب) أجنبية:

1-  Tarik Ramadan,mon intime convection,presses du châtelet,paris 2009

2-   Tarik Ramadan,la reforme radicale,presses du châtelet,paris 2008

[1] - انظر بالفرنسيّة: Tarik Ramadan,mon intime convection,presses du châtelet,paris 2009.p123

[2] - 22  Tarik Ramadan,la reforme radicale,presses du châtelet,paris 2008,p

[3] - المرجع نفسه، ص23.

[4] - أبو عبيد القاسم بن سلاّم، الأموال، تحقيق: محمّد حامد الفقي، القاهرة، 1353هـ. ص، 358

[5] - محمّد ضيف الله بطاينة، الحياة الاجتماعيّة في صدر الإسلام، مكتبة دار التراث، المدينة المنوّرة، الطبعة الأولى، 1409هـ /1988م، ص 273.

[6] - ابن جرير الطبري، تاريخ الرسل والملوك، المطبعة الحسينية المصرية، ط1. 4/69.

[7] - الرّاغب الأصفهاني، مفردات القرآن، دار القلم، الدّار الشامية، ط:1 ، دمشق، بيروت،1412هـ،1/542.

[8] - الفخر الرّازي، التّفسير الكبير مفاتيح الغيب، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1،1411هـ. 8/200.

[9]  - محمّد عثمان نجاتي، القرآن وعلم النّفس، دار الشّروق، مصر، ط:7 ،1421هـ/2001م، ص 284.

[10] - الموسوعة الفقهية الكويتية، إصدار وزارة الأوقاف والشؤون الإسلاميّة بالكويت، مطابع دار الصّفوة، مصر.29/257.

[11] - أبو يوسف، كتاب الخراج، المكتبة السلفيّة، الطّبعة الثانيّة، القاهرة، 1952م. ص 16.

[12] - محمّد العزيز جعيّط، المقاصد الشرعيّة وأسرار التّشريع،المجلّة الزيتونيّة، رمضان 1355هـ/1936م، مجلّد 1، جزء3.ص54.

[13]- المتّقي الهندي، كنز العمّال، مؤسّسة الرّسالة، بيروت، 1989م. 8/170. والأثوار: جمع ثور وهي القطعة من الأقط، والأقط: شيء يتّخذ من مخيض اللّبن.

[14] - يوسف القرضاوي، الاجتهاد في الشّريعة الإسلاميّة، دار القلم، الكويت،1417هـ / 1996م ، ص 45

[15] - محمّد الطّاهر بن عاشور، أصول النّظام الاجتماعي في الإسلام، الدّار التّونسية للنشر،1979م ،ص 196

[16] - ابن تيميّة، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، ط: 1 ،1408هـ /1987م. 10/265.

[17] - الصّحبي عتيق، التّفسير والمقاصد عند الشيخ ابن عاشور، دار السّنابل، تونس 1410هـ/1989م. ص 87.

[18] - المرجع السّابق، ص 85.

[19] - الآمدي، الإحكام في أصول الأحكام،تحقيق:عبد الرزاق عفيفي،المكتب الإسلامي،بيروت، 1402هـ، 3/275.

[20] - المرجع السّابق ،3/374

[21] - الشّاطبي، الموافقات في أصول الشّريعة، دار ابن عفّان، مكّة المكرّمة، الطبعة الأولى 1417هـ/ 1997م.1/107.

[22] - محمّد الفاضل بن عاشور،أعلام الفكر الإسلامي في تاريخ المغرب العربي، مكتبة النّجاح، تونس،(د.ت) ص73.

[23] - المرجع السّابق، ص75.

[24] - المرجع نفسه، ص76

[25] - محمّد الطّاهر بن عاشور: مقاصد الشّريعة الإسلامية، ص 65. سبق ذكره.

[26] - المرجع السابق، ص105.

[27] -  ابن القيّم، إعلام الموقّعين عن ربّ العالمين، تحقيق: محي الدّين عبد الحميد، طبعة القاهرة،1981م، 3/149.

[28] - النّووي، روضة الطّالبين وعمدة المفتين، المكتب الإسلامي، بيروت، ط:3، 1412هـ/1991م،5/321.

[29]  - الشّافعي، الأمّ، دار المعرفة، بيروت، 1410هـ/1990م. 4/98.

[30]  - الخطيب الشربيني، مغني المحتاج ، دار الكتب العلمية، الطبعة: الأولى، 1415هـ/ 1994م،3/531

[31] - زَكَرِيَّا الْأَنْصَارِيُّ ، أسنى المطالب. دار الكتاب الإسلامي، 2/461

[32] - المرداوي، الإنصاف في معرفة الرّاجح من الخلاف ، دار إحياء التراث ، بيروت ، 7/ 236.

[33] -  وهبة الزّحيلي، الفقه الإسلاميّ وأدلّته ،10/293

[34] -  ابن حجر العسقلاني، فتح الباري ،5/402

[35]  - محمد قلعجي، معجم لغة الفقهاء، دار النّفائس،الطبعة الثانية،بيروت ،1408هـ/1988م،1/508

[36] -  أحمد بن يوسف الدريويش،الوقف مشروعيته وأهميّته الحضارية. مكّة المكرّمة،وزارة الأوقاف، 1420هـ . ص 160

[37] - المرجع نفسه، ص161.

[38] -  ابن تيميّة، الفتاوى الكبرى، دار الكتب العلمية، ط: 1 ،1408هـ /1987 م،6/90. وانظر أيضا: ابن القيّم:إعلام الموقّعين،3/225. وقد جعل للمسألة فصلا تحت عنوان: إبطال حيلة لتصحيح وقف الإنسان على نفسه.

[39] - ابن حجر الهيثمي، تحفة المحتاج في شرح المنهاج،المكتبة التجارية الكبرى بمصر،1357هـ ،6/245 

  [40]- محمد عليش، منح الجليل شرح مختصر خليل، دار الفكر، بيروت،1409هـ/1989م، 8/124.

[41] -  المرجع نفسه ، 8/124

[42] -  ابن قدامة المقدسي(عبد الرحمن) الشّرح الكبير على المقنع ، دار الكتاب العربي،بيروت، 6/ 194.

[43] -   البُهوتي، كشّاف القناع عن متن الإقناع، دار الكتب العلمية، بيروت، 4/274

[44] -   البُهوتي، شرح منتهى الإرادات،عالم الكتب،ط:1 ، 1414هـ/1993م .2/402.

[45] -    ابن عابدين، ردّ المحتار على الدرّ المختار.دار الفكر،بيروت،ط:2، 1412هـ/1992م، 4/384.

 [46]-   الزّيلعي،  تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق،المطبعة الأميرية،بولاق،القاهرة،الطبعة الأولى،1313هـ ، 3/61.

[47] -  الخطيب الشربيني، مغني المحتاج.دار الكتب العلمية،بيروت،ط:1 ،1415هـ / 1994م ، 3/529.

[48] -  النّووي: روضة الطالبين وعمدة المفتين ، 5/318، سبق ذكره.

[49] -  ابن حزم: المحلّى ، 8/159.

[50] -  المحقّق الحلّي (نجم الدّين) شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام.دار الإيمان،بيروت،1409هـ .2/203

[51] -  أحمد بن قاسم العنسي، التّاج المذهّب لأحكام المذهب.دار الحكمة اليمنية.صنعاء،1414هـ/1993م، 3/133

[52] -  محمّد بن يوسف أطفيش، شرح النّيل وشفاء العليل.دار الفتح ،بيروت.ط:2 ،1393هـ/1973م . 12/454

[53] -  السّبكي (تقي الدّين) : الفتاوى، دار المعارف.بيروت ، 2/217

[54] - ابن حجر الهيثمي: تحفة المحتاج في شرح المنهاج،المكتبة التجارية الكبرى بمصر،1357هـ ، 6/245   

[55] - السّبكي، الفتاوى،  2/ 219. سبق ذكره.

[56] -  سيّد سابق: فقه السنّة. دار الكتاب العربي، الطبعة الثالثة، بيروت ،1397هـ/1977م، 3/515

 [57] - وَهْبَة الزُّحَيْلِيّ: الفِقْهُ الإسلاميُّ وأدلَّتُهُ ، 10/297

[58]  - الشّوكاني: نيل الأوطار، دار الحديث، مصر،الطبعة: الأولى،1413هـ، 1993م. 6/31.

[59]  -  ابن عبد البرّ: الكافي في فقه أهل المدينة، دار الكتب العلمية، بيروت،ط:2 ،1413هـ/1992م، 1/537.

[60]  -  محمّد بن أحمد الصّالح:  الوقف الخيري وتميّزه عن الوقف الأهلي، ص، 909.

[61] - المرجع نفسه، 10/297

[62] - حكم الشريعة الإسلامية في الوقف الخيري والأهلي، المطبعة السلفيّة ومكتبتها، مكّة المكرّمة، 1346هـ، ص 5

[63] - خالد محمّد عبد الرّحيم: أحكام الوقف على الذرّية في الشّريعة الإسلامية، مطابع الصفا، مكّة المكرّمة، 1416 هـ ،1/232.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

التعليقات

هذا بحث علمي بالفعل، فهو مليء بالشواهد والأمثلة والقضايا. ويحتوي روحا تجديدية في النظر إلى الأوقاف والمقاصد . نشكر الموقع على نشر مثل هذه الدراسات الشاملة التي تتميز بالرجوع الى كافة المذاهب والمدارس الفقهية والفكرية بدون تمييز، وترك الحرية للقارئ في التمثّل والاستيعاب.نرجو نشر مزيد من الدراسات الأخرى التي تشمل قراءات جديدة لعلوم التفسير والحديث والتصوف، وخاصة المداخل العلمية والتأويلية لفهم القرآن الكريم ومقاربة النص الديني عموما. وشكرا مرة اخرى على جهودكم الطيبة.

أعجبني قول طارق رمضان في هذا البحث : إنّ الحديث عن التّجديد في الدّين لا يتعلّق بالتّغيير في الأصول أو المبادئ والأسس الإسلاميّة، وإنّما يتعلّق بفهم الدّين وطريقة تطبيقه وكيفيّة العيش في رحابه، حسب تنوّع الأزمنة والأمكنة. فعلا نحن نحتاج الى تجديد النظر في العلوم الاسلامية وليس في الدين نفسه فالدين باعتباره وحيا لا يتجدد وإنما التجديد يتعلق بالأفهام والتفسيرات والاجتهات التي قدمها المسلمون على مر العصور . أعجبني هذا البحث لأنه عبّر عن روح اسلامية عالية وقراءة جديدة لاحكام الوقف على ضوء روح المقاصد الاسلامية الشرعية. تحية وتقدير للمركز على جهوده في نشر العلم والقيم الاسلامية.

السلام عليكم ورحمة الله العلاقة بين النظام الوقفي والمقاصد مهمة جدا تكشف طبيعة المجتمع الاسلامي في أبعاده المدنية والحضارية الى جانب واجبات التعاون والتآخي وقد تطرق الباحث الى بعض جوانبها. ربما نحتاج الى بحث آخر يقدم لنا نماذج وقفية قديمة وحديثة تبين لنا طبيعة هذا الربط بين مقاصد الشريعة ونظام الوقف باعتبارها دعما للمجتمع الاسلامي القائم مهما كانت طبيعته. نرجو من المؤلف ان يكمل البحث بالتركيز على الجانب التطبيقي ونشكر المركز على جهوده في نشر العلم النافع والبحوث المبتكرة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق