Sufism as Islamic Spiritual Ethics

يقول أبو الحسن البوشنجي الذي عاش في حقبة زمنية جاءت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بثلاثمائة سنة:

التصوف اليوم اسم بلا حقيقة، وقد كان من قبل حقيقة بلا اسم

وقال الإمام الهجويري الصوفي الذي جاء بعد ذلك بقرن من الزمان في شرحه لكلام أبي الحسن: "يعني أن هذا الاسم لم يكن موجودا وقت الصحابة والسلف، وكان المعنى موجودا في كل منهم. والآن يوجد الاسم، ولا يوجد المعنى".

إن التصوف هو بحق أحد الموضوعات المثيرة للجدل في الخطاب الإسلامي. ومجرد ذكر الكلمة يثير عند البعض ردود فعل مشمئزة، لكنها تعني للبعض الآخر جوهر التعاليم الإسلامية. وإذا استخدمنا مصطلح "فوبيا الصوفية" في إشارة إلى موقف العديدين من التصوف، فلن يكون هذا من قبيل المبالغة والمغالاة. ويأتي هذا الجدل نتاج أربعة عوامل هي: تبني رؤية مجزئة عن الإسلام؛ وظهور نوع من التصوف الفلسفي الرمزي؛ وإساءة استخدام التعاليم الصوفية الحقة من جانب الأتباع؛ وظهور خطاب إسلامي تصنيفي غير متسامح يثير الشقاق والانقسام.

ولا بد أن يكون تناولنا لمسألة التصوف تناولاً متزنًا في السياق الصحيح. وهناك ثلاثة مبادئ منهجية ينبغي أن تكون دليلا لنا في معالجة التصوف (أو أي موضوع خلافي في هذا الصدد):

1. الجوهر والمضمون أهم من الكلمات والاصطلاحات

لا شك أن اللغة والاصطلاحات هي أمور مهمة لكنها في النهاية تنقل المعاني والرسائل. وهناك قاعدة أصولية في المنهجبة الفكرية الإسلامية تقول لا مشاحة في الاصطلاح. وهي قاعدة معروفة في الفكر الإسلامي. فالمدار على الجوهر والمضمون. لذا إذا كنا نريد بلفظ التصوف الإشارة إلى المظاهر المعاصرة الشائعة للمعتقدات المنحرفة والخرافات والبدع والفهم السلبي والفلكلوري للدين، فإن هذا لا شك يتنافى مع التعاليم الإسلامية وهو أمر لا بد من رفضه. لكن إذا كنا نريد بالتصوف تلك الضوابط والممارسات الأخلاقية والروحية التي تستند إلى القرآن والسنة وتهدف إلى تحقيق "صدق التوجه إلى الله" (كما يقول أحمد زروق) والسمو بالروح الإنسانية وتطهيرها من كل الأدران الحسية والروحية وتحليتها بالفضائل، فهذا هو جوهر الدين الإسلامي.

2. تقييم موضوعي

لا شك أن كثيرًا من التصوف اليوم أو ما يظنه الناس تصوفًا لا يخلو من جهل وخرافة واستغلال للدين ومغالاة في الشعائر والطقوس واستهلاك روحي. ولكن هذا لا يعفينا من المسؤولية الدينية في تقديم تقييم موضوعي منصف للتصوف، ولا يخوّل لنا غير ذلك. وأي تحليل يتسم بالإنصاف والموضوعية لا بد أن يشير إلى أن التصوف مظهر إسلامي حقيقي متجذر في تاريخنا. ويقف التاريخ شاهدًا على الدور المحوري الذي مارسه التصوف في نشر الدين الإسلامي في ربوع العالم. إذ يرجع الفضل للتجار الصوفيين في نشر الإسلام في العديد من أنحاء العالم وهي أماكن تعج الآن بأعداد هائلة من المسلمين. لكن هناك العديد من الاتهامات التي توجه للصوفية والمتصوفة ومنها السلبية والخضوع للظالمين والمستبدين. على أن التاريخ يشهد على جهود الصوفية في الجهاد لحماية حرية الناس، ومن ذلك الحركة السنوسية في ليبيا، وحركة المقاومة بقيادة عبد القادر الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي للجزائر أو جهود صوفية النقشبندي ضد الاعتداء الروسي أو جهود علماء الصوفية في آتشه في قيادة المقاومة الإسلامية ضد الاحتلال الهولندي.

ورغم ذلك فقد أدى انحسار مد الصوفية الحقّة إلى ظهور نوع من الفهم والتطبيق للإسلام يجرده من أي قوام روحي أو أساس أخلاقي ويفصله عن الالتزام الظاهري والشكلي. وأصبحت الصوفية في نظر الكثيرين بدعة وشرك، وكذلك أصبح المتصوفة منحرفين ومبتدعين بل ومشركين.

ودائمًا ما يستدل منتقدو التصوف بما ورد عن ابن تيمية الحنبلي وغيره في ذمّ الصوفية. ومع ذلك، فإن قراءة واعية في مؤلفات ابن تيمية تثبت أنه تبنى موقفًا متزنًا وموضوعيًا في تقييمه. إذ يقول في رسالة له بعنوان (التحفة العراقية في الأعمال القلبية):

"... لما في ذلك من الفساد الذى وقع فيه طوائف من المتصوفـة وما وقع في هؤلاء من فساد الاعتقاد والأعمال أوجب إنكار الطوائف لأصل طريقة المتصوفة بالكلية حتى صار المنحرفون صنفين: صنف يقر بحقها وباطلها وصنف ينكر حقها وباطلها كما عليه طوائف من أهل الكلام والفقه. والصواب إنما هو الإقرار بما فيها وفي غيرها من موافقة الكتاب والسنة والإنكار لما فيها وفي غيرها من مخالفة الكتاب والسنة".

3. روح النقد الذاتي

كل المساعي البشرية - فردية كانت أو جماعية - عرضة للوقوع في الخطأ، وليست الصوفية استثناءً في هذا الأمر. وتعدّ روح النقد الذاتي جزءًا لا يتجزأ من الموروث الصوفي. يقول الواسطي: "كان للقوم إشارات، ثم صارت حركات، ثم لم يبق إلا حسرات". وقد أفرد السراج الطوسي في كتابه (اللمع) جزءًا لانحراف الصوفية وغلوهم. وهذا الاتجاه نحو النقد الذاتي استمر في أعمال شيوخ الصوفية الكبار من أمثال السُلَّمي (المتوفى سنة 413) والقشيري (المتوفى سنة 465) والهجويري (المتوفى سنة 465) والغزالي (505) وآخرين. ولتفادي اللغة الملغزة والغامضة التي عُرفت بها الصوفية، أُلفت العديد من الكتب والرسائل لتمهد الطريق أمام تصوف واضح لا غموض فيه "وتقرّبه للأفهام وتجلي أمام الناس مفهوم التقوى والسمو بالنفس وتزكيتها خاصة لهؤلاء الذين لم يكن لديهم لأي سبب من الأسباب أي اتصال رسمي بالصوفية في أي شكل مؤسسي". (انظر: ترجمة البروفيسور شيرمان جاكسون لكتاب تاج العروس لابن عطاء الله السكندري).

إذًا ما هو التصوف؟ التصوف في الحقيقة هو مرادف لما عبّر عنه القرآن بلفظ "تزكية النفس" وعبّر عنه النبي العدنان بلفظ "الإحسان". والإحسان كما أوضح النبي المصطفى الكريم أن "تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" (البخاري).

والتصوف في حقيقته هو المظهر الأخلاقي والروحي للإسلام. وهو الطريق الموصل إلى التقوى وتزكية النفس والسمو الأخلاقي والتحلي بالفضائل الروحية والأخلاقية. ويركز "التصوف التطبيقي" على تطهير الإنسان من خصال الشر للنفس الدنيا الموجودة بداخل كل منّا، ومن هذه الخصال: الجهل والكبر والحقد والحسد والغضب والكره، إلى جانب التحلي بالفضائل مثل المعرفة والتواضع والرضا والصبر والحب.

والقرآن والسنة النبوية يمثلان الأساس للتصوف التطبيقي. {وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ} (سورة آل عمران:79) هكذا يأمرنا القرآن. ويقول تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} (سورة الشمس:9). وقال تعالى: {يَوْمَ لاَ يَنْفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ، إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (سورة الشعراء:87-89). وفي السنة النبوية أحاديث كثيرة تدل على أهمية القلب: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) (البخاري). والموت في السنة النبوية لا يُقصد به الموت الإكلينيكي وإنما يشير إلى حالة روحية لمن يغفلون عن ذكر الله، روى البخاري عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت".

إن التصوف هو التحلي بمحاسن الفضائل والأخلاق. وقد أورد الإمام القشيري في رسالته عدة تعريفات للتصوف تربطه مباشرة بحسن الخلق. سئل أبو محمد الجريري عن التصوف، فقال: الدخول في كل خُلُق سني والخروج من كل خُلُق دنيّ. ويقول الجنيد (المتوفى سنة 910) التصوف خُلق، من زاد عليك بالخلق، فقد زاد عليك في التصوف.

وإذا كانت الشريعة هي بمثابة الجسد للإسلام فإن التصوف هو الروح.إن الحديث عن التصوف لا بد أن يشهد تغيرًا جذريًا ليس في المادة والمضمون لكن في اللغة أيضًا، وهي لغة حقيقية مناسبة متجذرة في تراثنا الفكري والأخلاقي. وعلى الرغم من ضرورة توخي الحذر عند توظيف كلمة "التصوف" واستخدامها، إلا أنه لا غنى لنا عن إعادة صياغة هذا المصطلح وإعادة هذا النهج إلى الوجود. ولا شك أن إحياء التراث الصوفي ووضعه في سياقه الصحيح لا بد أن يكون في قلب المساعي الرامية إلى نشر الإسلام في ربوع عالمنا المعاصر. فإن التصوف لغير المتصوفة بات ضرورة من ضرورات هذا العصر.

وسوم

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق