Ramadan: Exploring the Depths of Human Hearts
لقد خلق الله الإنسان وأسكنه الأرض وسخرها له، وأرسل إليه الرسل وشرع له الشرائع ليتمكن من تحقيق الهدف الذي خلقه من أجله، وهو أن يكون خليفة لله في الأرض بأن يسعى إلى العودة إلى فطرته حتى يبلغ أعلى مراتب الإنسانية، وإلى بناء مجتمع فاضل يكون شاهدا على الناس، وإلى استثمار موارد الأرض وتوظيفها لخدمة البشر على أحسن وجه.
ومع أن الإنسان مولود على الفطرة المجبولة على الخير والخضوع للحق، إلا أنه لا تكفيه مجرد معرفة معالم المهمة التي خلق من أجلها ليتمكن من أدائها. ذلك أن الإنسان تعتريه شوائب كثيرة من شهوات وأهواء ووساوس ومؤثرات تخضعه لسلطانها وتجعله عبدا لها حتى يتصرف على وفق توجيهاتها لا على وفق ما تقتضيه فطرته السليمة، حيث تكون هذه الأخيرة مطموسة تحت تلك الطبقات.
فلا يمكن للإنسان أن يؤدي المهمة التي خلق من أجلها إلا إذا طهّر روحه مما تعلق بها من الباطل، ولا يمكنه تطهير نفسه من ذلك إلا إذا تجاوز المعيشة المادية والسطحية وشعر بنفسه وما يدور في داخلها، ولا يمكنه ذلك إلا إذا عاد إلى الله تعالى، لأن مفاتيح قلبه عنده: "واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه تحشرون" (الأنفال: 24).
 
ومن هنا جاء الإسلام مؤكدا على العبادات والشعائر من حيث أنها تمثل الوسائل التي يواظب الإنسان من خلالها على العلاقة الروحانية التي تربطه بربه وتطهر فطرته مما لحق بها من مؤثرات الدنيا، لا من أجل أن ينعزل عن الدنيا، بل من أجل أن يعود إليها طاهرا صافي القلب حتى يعمل فيها بصدق وإحسان. وليس المقصود من العبادات إلقاء المشقة والحرج على الإنسان لمجرد اختباره على الانقياد، وإنما المقصود هو تطهيره بتمكينه من العودة إلى خالقه حتى يتمكن من العودة إلى نفسه والعودة إلى الحياة بروحه وجسده، يقول الله تعالى بعد ذكر مجموعة من الأحكام التعبدية: "ما يريد اللّه ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون" (المائدة: 6).
وأهم عبادة في الإسلام تتمثل في الصلواة الخمس، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل منه كل يوم خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا" (متفق عليه). فمقصود الصلوات الخمس أن يطهر الإنسان نفسه من أدران الدنيا التي تتعلق بها بأن يخرج في كل يوم لحظات عن انشغالاته الدنيوية، لإيصال الروح بمصدرها العلوي. إلا أن الصلاة قد تصير هي الأخرى من انشغالات الإنسان اليومية، بمعنى أنها تصبح من روتينيات الحياة التي تتكرر بصفة آلية، ولم تعد من وسائل التحرر من سطوة الحياة.
 
ومهما ابتعد الإنسان عن ربه وعن معنى وجوده فإن "الله لطيف بعباده" (الشورى: 19)، يريد لهم الخير والفلاح، فيمنح لهم الفرص ليتداركوا حياتهم، ومن تلك الفرص فرصة شهر رمضان. فإذا كانت الصلاة تمثل لحظة يتوقف فيها الإنسان عن انشغالاته اليومية ليتأمل حاله ويعود إلى أساس وجوده، فإن رمضان شهر كامل هيأه الله من أجل ذلك الغرض لمن شاء الرجوع ورغب فيه، ولذلك ينادى في أول ليلة من رمضان: "يا باغي الخير أقبل" (أخره الترمذي).
فليس المقصود من وراء هذا الشهر أن يمسك الإنسان عن الطعام والشراب وأن يتحمل ذلك إلى نهاية الشهر، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: "رب صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش" (أخرجه أحمد). بل إن شهر رمضان مدرسة تتغير فيها وتيرة الحياة حتى يتوقف الإنسان متأملا فيها وفي معناها، ليتعلم قيمة الأشياء من جديد.
 
فمن شأن هذا الشهر أن يقلل سطوة الجسد والانشغالات اليومية، حيث أن الإنسان يضعف عنها، وهذا من شأنه أن يعزز الجانب الروحي ويذكّر الإنسان بأنه إنسان بروحه لا بجسده، ويذكره بقيمة العلاقة مع خالقه ويعلمه قيمة الصلاة وجوهر القيام بين بيدي ربه من جديد، فإذا شعر بربه شعر بنفسه وحقيقتها؛ من هو وأين هو وإلى أين هو سائر.
ومن شأن هذا الشهر أن يربي الإنسان على التحرر من كل ما قد يبعده عن إنسانيته، فإذا كانت اليقظة الروحية تكشف للإنسان عن حاله وما يدور في قلبه، فإن ما يصحبها من إمساك عن المفطرات يمثل تدريبا تطبيقيا يعلم الإنسان كيفية التحكم في نفسه والانتصار على الإملاءات الجاذبة.
 
ومن شأن هذا الشهر اشعار الإنسان بأخيه الإنسان، حتى يحب له ما يحبه لنفسه، فيكثر من العطاء المادي والمعنوي وتتآلف القلوب، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجود ما يكون في رمضان" فكان "أجود بالخير من الريح المرسلة " (أخرجه البخاري).وفي هذا كله يتلخص معنى الشعائر التي كتبها الله على عباده، من حيث أنها تمثل الوسائل التي تشعر الإنسان بربه حتى يشعر بنفسه، فيشعر بغيره.
ومن هنا كان للإنسان أن يحتفل بعيد الفطر ويفرح به، حيث أنه احتفال بولادة جديدة، احتفال بانتصار الإنسان على نفسه وتحريرها. فالفرحة فرحتان؛ فرحة الفطر يحتفل فيها بما من الله عليه من إنجاز في هذا الشهر المبارك، وفرحة عند لقاء ربه بقلب سليم وإنجاز عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: "للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح بفطره، وإذا لقى ربه فرح بصومه" (أخرجه مسلم).
 
وقال تعالى: "قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون" (يونس: 58).
وقال: "يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم": (الشعراء: 88/89).
وسوم

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق