عن دور الإعلام في إصلاح الواقع: مقاربة نظرية من زاوية التأثير

يحيى اليحياوي*

 

مقدمة عامة لوضع السياق

 

ثمة ثلاثة معطيات أساس لا بد من سياقها، بالبداية، درءاً لكل لبس ورفعاً لكل التباس من ناحية أولى، وتحديداً من ناحية ثانية، للعناصر الكبرى المؤطرة لهذه الورقة:

  • المعطى الأول ويكمن، منذ أواسط ثمانينات القرن الماضي على وجه التحديد، في الطفرة الكبرى التي عاشها ولا يزال قطاع الإعلام والمعلومات والاتصال يعيشها، ليس فقط بجانب الأدوات والأعتدة والتجهيزات، بل أيضاً من زاوية البرامج والتطبيقات والمضامين.

ولعل العنصر/الأصل في هذه الطفرة، إنما التحولات الجوهرية التي طالت بنية المعلومة وبنيانها، وكان من تداعياتها المباشرة أن خضع القطاع برمته لحركية لا تزال تموجاتها جارية لحد الآن، على مستوى مظهر القطاع كما على مستوى جوهره[1].

لقد كنا، لحين أواسط ثمانينات القرن الماضي، بإزاء ثلاثة حقول مستقلة، وإلى حد كبير، عن بعضها البعض: حقل المعلومة الصرفة، حيث مجال الأخبار ووكالات الأنباء والجرائد الورقية والمتلفزة والإذاعية ووسائل الإعلام، ثم حقل الاتصال، حيث الإشهار والتسويق، وكل ما له صلة باستقطاب المستهلك أو المتلقي، ثم حقل ما يسمى بالثقافة الجماهيرية، حيث الأفلام، وإنتاجات الأدب ومسلسلات التلفزيون بكل أشكالها وأنماطها وتوجهاتها.

هذه الحقول الثلاثة لم تعد تتمتع بالاستقلال الذاتي الذي عهدناه بها لعقود طويلة، بل اندمجت في بعضها البعض في حقل واحد، ادغمت بصلبه وسائل الإعلام المكتوب والمسموع والمرئي، ثم المعطيات والبيانات المعلوماتية، ثم أدوات الاتصال من كوابل هرتزية، وكوابل ألياف بصرية، وأقمار صناعية، ومبدلات اتصالاتية وبرامج للبحث والتخزين والتوزيع، وما سوى ذلك.

نتيجة لذلك، لم تعد المعلومة تحمل المميزات التقليدية التي لازمتها لعقود طويلة مضت، بل باتت مكمن صفات جديدة لم نعهد مثيلاً لها من ذي قبل، وأولى هذه الصفات صفة الوفرة. فالمجتمعات البشرية عاشت ولقرون عدة، حالات كبيرة في ندرة المعلومات، اللهم إلا معلومات القرب العادية، بلغت درجة راجت خلالها مقولة بأن من يملك المعلومة يملك السلطة، لا بل ثبت أن من يملك المعلومة هو القادر على فرض منظومته المادية والرمزية، على الفرد كما على الجماعة على حد سواء.

ليس هذا فحسب، بل تم الربط تقليدياً وتاريخياً بين المعلومة والحرية، فقيل بأن عدم توفر المعلومة هو بالمحصلة مؤشر لغياب الحرية، وأن توفرها وترويجها وتقاسمها على نطاق واسع، هو دليل حرية عامة، ودليل حرية التعبير والتفكير وإبداء الرأي على وجه التحديد[2].

الصفة الثانية الملازمة للمعلومة، خلال الخمسة عقود الأخيرة، وتكمن في السرعة. فالمعلومات كانت تتنقل فيما مضى من أزمان ببطء شديد، أما اليوم فإنها تنتقل بوتائر مرتفعة، لا بل وتنتقل بسرعة لا تضاهيها في ذلك إلا سرعة الضوء.

والقصد هنا هو التأكيد على حقيقة أن المعلومة باتت "تعاش" في زمن قياسي، أو فيما يسمى ب"الزمن الواقعي"، حيث ينقل الحدث بالمباشر الحي، عبر التلفزيونات المقتنية للأقمار الصناعية، أو عبر الشبكات الرقمية، من خلال شبكة الإنترنت أو بواسطة الاتصالات الخليوية النقالة، أو بما سواها[3].

أما الصفة الثالثة التي أضحت لصيقة بالمعلومة، فتتمثل في الطبيعة السلعية التي أضفيت عليها في الشكل وفي المضمون. المعلومة بموجب هذا الواقع، باتت تباع وتشترى، وباتت لها تكاليف من المفروض احتسابها في تحديد السعر، وباتت نتاج ذلك، مكمن عرض وطلب بين من يتوفر عليها، وبين من يبدي الرغبة في اقتنائها والإفادة منها[4].

كل هذه العناصر تفاعلت ولا تزال تتفاعل في صلب حقل إعلامي واتصالاتي، يعيش على وقع ثورة تكنولوجية، تدلل الوقائع على أنها لا تزال إلا في بداياتها وإرهاصاتها الأولى، وتأثيراتها على المستوى الاقتصادي والصناعي والاجتماعي والثقافي، لا تزال مؤشراتها في طور التشكل.

إن القلب النابض لمنظومة الثورة التكنولوجية هاته، إنما يتمحور حول حقل الإعلام والاتصال، ومستويات الاندماج والاندغام التي طاولته في العمق، ووحدت روافده الثلاثة المتمثلة في المكتوب والمرئي والمسموع، أي في الصحافة المكتوبة والمجال المعلوماتي، ثم المجال السمعي والبصري. وهو ما أفرز من حينه أطروحات ومفاهيم عديدة، لعل أكثرها رواجاً وتداولاً أطروحات "مجتمع الإعلام"، ثم "مجتمع الاتصال"، ثم "مجتمع الوفرة المعلوماتية" وغيرها[5].

 

  • المعطى الثاني، المؤطر لهذه الورقة، ويكمن في القول بأن هذه الطفرات التكنولوجية لم تنحصر تداعياتها في ازدياد منسوب إنتاج وتخزين وتوزيع واستهلاك المعلومات، وعلى نطاق كوني، بل تزامنت وثلاث طفرات أخرى، ليست من ذات الطبيعة، لكن كان لها ولا يزال وقع قوي على مسارات "النظام الإعلامي" كما نعيشه اليوم:
  1. الطفرة الأولى وتتمحور حول تزايد مد عولمة الأسواق والتيارات المادية واللامادية، والتي تعدى مداها الحدود واللوائح الوطنية، وكان من تبعاتها انتفاء الحاجز الجغرافي الذي كان وإلى حين عهد قريب، يحد من حركة المجموعات الإعلامية، ويقف بوجه استراتيجياتها في التوسع، أو في التحالف على المستوى الدولي.
  2. الطفرة الثانية وتتمثل في التحولات التي طالت شكل وطبيعة الرأسمالية نفسها، ونزوعها التدريجي لولوج عالم الإعلام والمعلومات والاتصال، في سياق ما بات يصطلح عليه بـ"الرأسمالية المعلوماتية".

إن ظاهرتي الاقتصاد الجديد، ثم الإعلام الجديد اللتين شاعتا من مدة، لا تعبران فقط عن التموجات العميقة التي يعيشها الإعلام، بل تعبران أيضاً عن المد المتزايد للرأسمال المالي والصناعي والتجاري بجهة ولوج هذا القطاع، وتسريع وتيرة إنتاج القيمة من بين ظهرانيه بالزمن كما بالمكان.

  1. أما الطفرة الثالثة فتكمن في الانسحاب التدريجي للدولة وللقطاع العام عموماً، ليس فقط من القطاعات الإنتاجية التقليدية المباشرة، بل كذلك من القطاعات الإعلامية "السيادية"، لفائدة فاعلين خواص لا تتماهى استراتيجياتهم دائماً مع الدولة، بقدر ما تتماهى مع مجالات فعل مخوصصة، محررة أسواقها، غير مقننة ولا خاضعة لسلطة المستوى السياسي والتشريعي، والذي من شأنه، ومن صلاحياته أيضاً، توجيه الأسواق، وتحديد قواعد اللعبة بين الفاعلين من بين أضلعها[6].

بالتالي، فقد بات مجال الإعلام والاتصال اليوم، في ظل العولمة الليبرالية وتقوي منطق السوق خصوصاً، بات مؤطراً ومنظوماً من لدن مجموعات إعلامية كبرى تحمل ميزتين اثنتين:

  • الميزة الأولى أنها مجموعات تسيطر على كل ما هو مكتوب ومسموع ومرئي، من خلال سيطرتها على كل الحوامل المرتبطة بهم، من صحافة مكتوبة وإذاعات، وتلفزيونات هرتزية، وكوابل وأقمار صناعية، وبرامج ومحركات بحث بالشبكات الرقمية وغيرها.
  • أما الميزة الثانية أنها مجموعات عالمية، كونية وشمولية، العالم برمته فضاء لنشاطها وليست الأسواق الوطنية أو المحلية، كما كان عليه الحال بفترات الندرة، أي بفترات ما قبل الثورة الرقمية[7].

إن العولمة الجارية اليوم ليست عولمة اقتصادية وتجارية ومالية فحسب، إنها أيضاً عولمة لوسائل الإعلام، عولمة للمعلومات ولأدوات الاتصال والتواصل. ولما كانت الثورة الرقمية خلف اندماج الكلمة والصوت والصورة، فإنها فسحت في المجال واسعاً لبروز متعدد الأقطاب، ثم الإنترنت فيما بعد، حتى بات الأمر يجسد حقاً لمنظومة موحدة وواحدة، من المتعذر معها التمييز بين ما يرتبط بالثقافة الجماهيرية الصرفة، وما يرتبط بالمعلومات وبالاتصال[8].

العولمة بالتالي لم تطل المنظومة فحسب، بل طالت كذلك الفاعلين فيها تمثلا واستراتيجيات.

أما المعطى الثالث، الموجه لهذه الورقة فيكمن، إضافة إلى معطيي الطفرة التكنولوجية وعولمة وسائل الإعلام والاتصال المتحدث فيهما من قبل، يكمن في القول بأن هذه الطفرات، التكنولوجية منها كما المرتبطة بظاهرة العولمة، قد غيرت من مواقع مختلف الفاعلين، اقتصاديين وماليين ومؤسساتيين، إما بزاوية تقوية المواقع إياها، أو بزاوية إضعافها، أو من خلال الدفع بجهة إعادة النظر في طبيعة علاقات الفاعلين إياهم ببعضهم البعض، فرادى ومجموعات على حد سواء.

فالقطاع الخاص، ثم رأس المال، ثم السوق تقوى وتوسع مجاله، في حين أن مجال الدولة والتقنين تراجع وتقلص. ثم إن مكانة الفرد تقوت إلى حد بعيد، وبات بظل الثورة الرقمية وعولمة وسائل الإعلام والاتصال ليس فقط مستهلكا للمعلومات ووسائل الإعلام، بل أضحى منتجا لبعض من مضامينها ومحتوياتها بسياق ما بات يصطلح عليه ب"الإعلام المواطن"[9].

إن العلاقة هنا بين باث الرسالة ومتلقيها، إنما يجب النظر إليها باستحضار التكنولوجيا ليس كقيمة في حد ذاتها، بل كوسيط ثابت، بالإمكان تلمس التأثير عبره ومن خلاله. بمعنى أن أي معلومة تقتني الشبكة أو أية أداة تقنية أخرى، إنما تعرف تحولاً على مستوى الشكل والحجم، في فضاء فعلها بين باث الرسالة وملايين المستقبلين، وفي مدى إشعاعها أيضاً، على اعتبار أن أي رسالة غالباً ما تستقبل، ثم يعاد ضخها في البنية التقنية، التي تضمن لها الرواج والانتشار على نطاق واسع.

التقنية هنا لا تعير كبير اهتمام لقيمة المعلومة، بقدر ما تهتم بحجمها عندما تبرز، ثم عندما تروج، ثم عندما تصل للمتلقي، والذي يقوم بدوره بإعادة ضخها في البنية جزئياً أو بالكامل. ثم إن التقنية هنا لا تقف عند معيارية المعلومة، بقدر ما تقف عند قوة هذه المعلومة ومفعولها. فالتقنية باتت اليوم قادرة على إرسال أحجام ضخمة من المعلومات، بنجاعة عالية وبمنسوب غير مسبوق، حيث الملايين يتلقفون نفس المعلومة، سواء تسنى لها اقتناء الحامل المكتوب أم المرئي أم المسموع، أم القادم من خلال وعبر الشبكات الإلكترونية.

ثم إن التقنية هنا تراهن على إشعاع المعلومة، وهذا الأخير لا يتأتى لها إلا حينما تضمن الرواج الواسع، وتخترق عوالم الفرد والجماعة بهذا الشكل أو ذاك، وتمكنهما معاً من إدراك مضامينها ومدلولاتها[10].

بالتالي، فإن المسألة هنا تتجاوز على التأثير وتحيل على الدور، دور وسائل الإعلام والاتصال، التقليدي منها كما المستحدث، الواقعي منها كما المحيل على المستوى الافتراضي، دورها في توفير المعلومة، في بثها وتوزيعها، في ترويجها، وفي ضمان رجع الصدى المتأتي من العملية برمتها.

ولما كان الأمر كذلك، فإن مساءلة هذه الوسائل، إعلامية واتصالية على حد سواء، إنما يفترض التوقف عند مدى تأثيرها على الفرد والجماعة، قبل التوقف عند الدور الذي من المفروض أن تقوم عليه هذه الوسائل في الزمن والمكان. فهذا من ذاك، أي أنه لا معنى للحديث عن الدور إذا لم يكن التأثير قائماً ومداه معتبراً، وإلا فإن الأمر سيقتصر على الأحكام المعيارية، المغلفة حتماً بأحكام القيمة، التي لا تقدم كثيراً المسألة موضع البحث.

وعلى هذا الأساس، فإن الأطروحة الأساس لهذه الورقة إنما مضمونها القول التالي: إن دور وسائل الإعلام والاتصال لم يتغير كثيراً، حتى بتغير زوايا المقاربة ومداخل القراءة، في حين أن الذي خضع للتحول كثيراً (وللنقاش النظري أيضاً) إنما التأثيرات التي كان لهذه الوسائل، والتي (التأثيرات أقصد) يخضع فعلها للتحول من أداة لأداة ومن حامل لحامل، لا سيما في ظل الثورة التكنولوجية وتزايد مد العولمة الليبرالية وإرهاصات الثورة الرقمية.

 

وسائل الإعلام والرأي العام

الإعلام في اللغة مصدره علم، ويحمل معنيين اثنين: الإعلام بمعنى الإشعار أو الإخبار، وتكون الرسالة في هذه الحالة، هي العنصر الأساس في تحديد المعنى. ثم الإعلام بمعنى النشر، بواسطة وسيلة من وسائل الإذاعة أو التلفزة أو الجريدة أو الموقع الألكتروني. الزاوية المعتمدة في هذا التحديد تركز على الأداة وعلى الحامل، على اعتبار أن المعلومة المقتنية لذوات الأداة أو الحامل، هي براء ضمنياً من الوظيفة والدور الموكلين إليها.

من هنا، فإن كل التعريفات الرائجة بهذا الباب، غالباً ما تركب ناصية زاوية من هاتين الزاويتين. فنرى الواحدة منهما تقدم المحمول، أي المعطى والمعلومة والمعرفة على حاملها، ونرى الأخرى تفضل التركيز على الحامل بصرف النظر عن المادة المحمولة، كلمة مكتوبة كانت، أم مسموعة، أم مرئية، أم مقتنية لإحدى الوسائل الإلكترونية المتاحة.

ونرى، إلى جانب هاتين الزاويتين، زاوية أخرى لا تعير ذات التقسيم أهمية كبرى، على اعتبار من لدنها بأن ثمة تماهياً قوياً بين الرسالة وحاملها، بين المعلومة والبنية المادية التي تضمن لها السريان والرواج والشيوع.

يقول جاكوب وباريا بخصوص هذه النقطة: إن "تدبير المعرفة لا يقتصر فقط على جمع المعلومات، كما تجمع الكتب برفوف الخزانات. إن هذا التدبير يكمن أساساً في إقامة بنية تحتية، بشرية ومادية، تمكن هذه المعلومات من الرواج من بين ظهراني منظمة ما"[11]، أياً ما يكن بنيانها، هرمياً أم عمودياً أم أفقياً، أم ما سواها.

وهناك من يتجاوز أيضاً على ثنائية الحامل والمحمول، فيقدم تحديداً للإعلام بالاحتكام إلى معيار الجمهور المستهدف، وطبيعة الرسالة المقدمة. الإعلام، وفق هذا التصور، يتمثل هنا في كونه "التعبير الموضوعي عن عقلية الجماهير وروحها وميولها واتجاهاتها في نفس الوقت. والمقصود بموضوعية الإعلام في هذا التعريف، أنه ليس تعبيراً ذاتياً عن رجل الإعلام. فدور هذا الأخير في مجال الإعلام، يختلف عن دور الأديب أو الفنان، إذ يعتمد التعبير الموضوعي عن الحقائق والأرقام والإحصاءات، وينبغي أن تكون الحقائق التي يبنى عليها الإعلام السليم، معبرة تعبيراً صادقاً عن عقلية الجماهير وميولاتها واتجاهاتها"[12].

بإمكان المرء أن يستنبط من هذا التعريف، عنصرين أساسيين اثنين:

الأول: أن الإعلام لا يجوز أن يخضع للتوجيه والتأطير من لدن هذه الجهة أو تلك، بقدر ما يجب أن يكون مرآة عاكسة لواقع الحال، في حركيته وتموجاته، كما في سكونه وتصلبه وتمنعه.

الثاني: أن الإعلام يجب أن يكون "الضمير الحي" للمجتمع، يرصد جوانب مكوناته النفسية والسلوكية، ويعبر عنها بموضوعية في نقل الخبر، لكن دون أن يحرم رجل الإعلام من حقه في التعبير والتفكير والرأي. الإحالة هنا تتجه صوب أطروحة المسؤولية الاجتماعية للإعلام، والتي مفادها أن الوسيلة الإعلامية مسؤولة عملياً عما تقدمه من معطيات وبيانات وأخبار ومعلومات، ومسؤولة أخلاقياً عما يصدر عنها من وجهات نظر ورؤى وأفكار، قد لا تتقاطع دائماً مع رغبات أو رؤى أو أفكار هذه الجهة المحددة أو تلك.

تقول فوزية فهيم: إن الإعلام الناجح "يعد شاهداً على العصر الذي ولد فيه. وهو مرآة تعكس ما يدور في المجتمعات، بما ينقله من رسائل واقعية وأخرى خيالية، يجب أن تقدم للجماهير فلسفة حياة زاخرة بالقيم والمبادئ والمعايير والاتجاهات، لما ينقله من سلوكيات ومهارات إيجابية، والابتعاد عن كل ما هو مبتذل"[13].

بالتالي، وبالبناء على ما سبق، يبدو أن المنظور الذي يعتمد هو الذي غالباً ما يحيل على هذه الوظيفة أو تلك للإعلام، باعتباره أداة ورسالة في آن معاً:

  • فالوظيفة الإخبارية تعتبر الخبر أو المعلومة، بكل أشكالها وأنواعها وخاصياتها، تعتبرها رافد العملية الإعلامية وعمادها المادي الرافع. فبها تبنى هذه العملية، وتقام المؤسسات من وكالات أنباء ومحطات إذاعية وتلفزية، ومواقع الإنترنت بكل تلاوينها وأشكالها، لا سيما ذات الطابع الإخباري الصرف.

لقد أصبح " البحث عن الأخبار والتقاطها والسبق إليها ونشرها، جوهر صناعة الإعلام المعاصر. فالخبر كما يقولون أساس المعرفة، ومن دون الأخبار لا نستطيع أن نفهم ما يجري من حولنا في عالمنا المعاصر، والذي أصبحت المعلومات فيه تمثل جانباً كبيراً من عملية بناء الإنسان والتنمية. ومن خلال الأخبار، يستطيع الباحث أن يرصد الظواهر المجتمعية المختلفة، سواء كانت اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية"[14]، المفروض فيه أن يرصدها ويتتبع مساراتها، إما باعتبارها حالات فردية لا يقاس عليها، أو في كونها معطيات تؤسس لظاهرة من الواجب التأكد من ثبوتيتها، أو من انبنائها على قواعد عامة، تضمن لها الاستمرارية والديمومة في الزمن والمكان.

  • أما الوظيفة التنموية، فهي التي تتعامل مع الخبر والمعلومة ليس فقط ك"مادة أولية" تنصهر ضمن باقي المواد في صلب العملية الإنتاجية، بل كعنصر جوهري من عناصر اتخاذ القرار.

إن الكتابات والبحوث والدراسات المتمحورة حول الوظيفة التنموية للإعلام، وحول العلاقة بين الإعلام والتنمية بوجه عام، كثيرة ومتنوعة، لكنها تصب مجتمعة في مسلمة الجدلية الإيجابية للإعلام، أجهزة ومضامين، تصب في العملية التنموية في بعدها الوطني الشامل، كما في بعديها المحلي والجهوي على حد سواء.

إن توفير البيانات والمعطيات والإحصاءات والمعلومات لفائدة المؤسسات الإنتاجية، كما لأصحاب القرار والباحثين، من شأنه ليس فقط ترشيد الموارد وضمان توزيعها بطرق عقلانية، بل من شأنه أيضاً ضمان التناسقية في النسيج الاقتصادي، وفك العزلة عن المناطق والجهات التي قد يحول وضعها الجغرافي أو الترابي دونها ودون الحصول على نصيبها من الثروة المنتجة أو المفروض إنتاجها[15].

  • أما الوظيفة التربوية والتعليمية، فتتمثل في عملية الرفد التي تقوم بها وسائل الإعلام والاتصال المختلفة، من خلال البرامج المقدمة في هذا الصدد، أو عبر ترويج المواد التربوية (على شاكلة التلفزيونات التربوية مثلاً) أو المساهمة في تبيان مكامن القوة أو نقط القصور التي قد تكون المنظومة التربوية مكمنها بهذا الشكل أو ذاك.

إن الوظيفة التربوية والتعليمية هنا هي وظيفة عمودية بامتياز، على اعتبار تكفل الإعلام بجزء من العملية. وهي بالآن معا وظيفة أفقية، تتغيأ الإسهام في نشر الوعي وتمكين المتلقي من المعرفة، ناهيك عن الإسهام التنويري الذي تثوي خلفه جملة أو بالتفصيل.

  • أما الوظيفة السياسية لوسائل الإعلام فتكمن في ضرورة نزوعها ليس فقط إلى عكس التموجات القائمة بين أطراف اللعبة السياسية بأرض الواقع، بل أيضاً في توجيه النقاش بشأنها على مستوى الكلمة والصوت والصورة.

إن الدور الذي يؤديه الإعلام في هذا المجال، إنما يجب أن يتميز "بإتاحة ما يمكن من المعلومات والأفكار، وتدعيم الحوار بين أفراد المجتمع حول قضاياه. ومن خلال هذا الدور، يتحقق للأفراد الشعور الإيجابي بالمشاركة في الحياة العامة، ودفع الجميع للتفكير في الحلول السليمة لمشاكلهم العامة"[16].

ثم إن دور إشاعة المعلومات والأخبار ونشرها على نطاق واسع، لا يسهم في رفع منسوب الوعي السياسي لدى المتلقي فحسب، بل يسهم كذلك في تكريس مبدأ التشاركية في الزمن والمكان، في اتخاذ القرار وتسويغه، وتحمل المسؤولية الجماعية في القبول به، ثم تنفيذه دون ممانعات كبرى.

  • وهناك الوظيفة الترفيهية التي لا يمكن لوسائل الإعلام والاتصال المختلفة تجاهلها أو التجاوز عليها. إن مواد التسلية والترفيه "شهدت تطوراً هائلاً من خلال تطور وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، خاصة بعد ثورة الاتصالات. فلم تعد الكتابة الساخرة أو الكاريكاتير، هي المصدر الوحيد للتسلية، كما كان الأمر من ذي قبل. لقد وجدت الوظيفة الترفيهية مكانها داخل كافة وسائل الإعلام، من أجل وجود تنوع بين المواد المختلفة، وذلك حتى لا يصاب المتعامل مع وسائل الإعلام بالملل"[17].

هذه اللائحة من الوظائف ليست كاملة ولا ضافية، إذ ثمة وظائف اقتصادية وتجارية وإشهارية، لا تدخل ضمن اهتمام هذه الورقة، لكنها تشي مجتمعة بالسلطة المتزايدة لوسائل الإعلام والاتصال، ليس فقط من زاوية النظر الجزئية، بل وتحديداً من الناحية الشمولية، ناحية سلطة الإعلام من بين ظهراني المجتمع.

والواقع أن تاريخ الإعلام، وسائل ومضامين، يبين بجلاء أن العلاقة بينه وبين المجتمع ما فتئت تتحول بالزمن والمكان، ووفق كل وسيلة على حدة، إذ "إن تطورات المجتمع (فردانية، تزايد النعرة الاستهلاكية، انفجار الروابط الاجتماعية، عولمة...الخ) والتحولات التي عرفتها الديموقراطية (دور الدولة، تراجع مكانة السياسة والسياسيين، أزمة التمثيلية، تراجع مصداقية الأحزاب...الخ) لم تكن دون التأثير على مكان ووظيفة ودور وسائل الإعلام"[18] في العالم.

بالتالي، فإن تحليل الإعلام ودوره غالباً ما يتم بالارتكان فقط إلى آلياته الداخلية، بصرف النظر عن المحيط العام الذي يعتمل فيه الإعلام إياه. وهذا التحليل غالباً ما ينطلق من مسلمة أن للإعلام سلطة قائمة، المفروض فقط، وفق هذا التصور، البحث في طبيعتها وآثارها.

بالمقابل، فإن المدخل السليم لمقاربة تاريخ الإعلام، يجب أن يبدأ بالأساس من اعتبار أن هذا التاريخ ليس خطياً، ولا هو بالمستقل عن المجتمع الذي يفعل فيه ويتفاعل معه. بمعنى أن "مكانة ودور وسائل الإعلام في المجتمعات المتقدمة قد عرفت تطورات جوهرية، حسب التقنيات، وأيضا حسب السياق"[19].

ويبدو أن مقاربة تأثير هذه الوسائل إنما يجب أن تنطلق من هذا المدخل، لملامسة الدور الذي تثوي خلفه الوسائل إياها، أو تمثله أو تدفع به. وهذا المدخل يحيل على العلاقة بين الإعلام والمجتمع كدينامية تاريخية، وليس فقط كتراكم للتقنيات الإعلامية، سرعان ما يتجاوز لاحقها سابقها.

من هنا، فلو كان لنا أن نتلمس هذه العلاقة تاريخياً، لميزناً بين أربع مراحل كبرى، متتالية ومتكاملة بعضها البعض:

  1. حتى العام 1500م، وهي المرحلة التي هيمنت خلالها الثقافة الشفهية للإعلام "الإنساني"، حيث سادت اللغة غير المكتوبة والتعابير التي كانت تلجأ للجسم كأداة للموسطة الاتصالية.
  2. ما بين 1500 و 1900م، حيث بدأت الحوامل المطبوعة تأخذ بعض الأهمية، لا سيما وقد تجاوزت المطبعة مرحلتها النخبوية، وأضحت خلف نشوء صحافة تم التوافق على تسميتها ب"الصحافة الجماهيرية".
  3. ثم طيلة عقود القرن العشرين، حيث عرفت وسائل الإعلام من إذاعة وتلفزة وفيديو وحاسوب، ازدهاراً كبيراً، أضحت كل فيما يخصها مصدراً من مصادر الإخبار الواسعة.
  4. أما المرحلة الحالية، فهي مرحلة الإعلام الالكتروني بامتياز، أو لنقل إنها مرحلة تعويض وسائل الإعلام التقليدية بوسائل إعلام جديدة، حتى وإن لم يذهب الأمر لحد الاندحار التام للأدوات التقليدية. هذه المرحلة تؤرخ لتزاوج التلفاز والحاسوب فيما يمكن الاصطلاح عليه بالتلفزة التفاعلية، والتي مكنت وتمكن، من خلال الإنترنت تحديداً، من توفير وظائف إضافية وتطبيقات لم تكن معهودة من ذي قبل.

كل هذه الوسائل كان لها أثر ما على الآراء الفردية وعلى الرأي العام. إلا أن ذلك لا يبدو لنا كافيا للحديث عن التأثير، بقدر ما يدفعنا للتسليم باحتمال ذلك ليس إلا.

 

الإعلام وتأثيراته على الرأي العام

ثمة مداخل عدة بالإمكان الارتكاز عليها، أو الانطلاق منها لمقاربة الأثر والتأثير للإعلام ووسائله على مستوى الرأي العام، والآراء الفردية بوجه خاص. إلا أن هذه المداخل، وعلى الرغم من تباينها لحد الممانعة في بعض منها، فهي تتقاطع في القول بأن الحكم على قدرة الإعلام على التأثير في الرأي العام وفي الآراء الفردية، إنما يستوجب أخد العناصر التالية بعين الاعتبار:

  • النظر في المعارف المنبثقة عن العلوم الاجتماعية والإنسانية حول التأثير المحتمل للإعلام، لا سيما على مستوى تشكيل الرأي العام.
  • استحضار نسبة ولوج هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك في المجتمع، وذلك وفق المقاييس الموضوعية المعتمدة.
  • طبيعة تكوين الجمهور الذي تتوجه إليه هذه الوسيلة أو تلك.
  • السياق الاجتماعي الذي تفعل فيه الوسيلة الإعلامية.
  • الاستخدام الاجتماعي للوسيلة الإعلامية داخل مجتمع معين.
  • نسبة المصداقية التي تتمتع بها هذه الوسيلة أو تلك، قياساً إلى المعايير الموضوعية المتعارف عليها.
  • الأهمية النسبية لوسيلة مقارنة بوسيلة أخرى، لا سيما في ظل التداخلات والاندماجات التي فرضتها الطفرة التكنولوجية، والثورة الرقمية على وجه التحديد.

 

المعارف المنبثقة عن العلوم الإنسانية والاجتماعية حول التأثير المحتمل لوسائل الإعلام في تشكيل الرأي العام

المجال هنا شاسع ومتشعب، لكنه ضروري وأساس، على اعتبار أن من شأن التعرض له التجاوز على العديد من أحكام القيمة المتداولة، وأيضاً التأكيد على أن الدراسات والمقاربات المرتبطة بهذا المجال، عرفت تطورات في الزمن والمكان، وبالقياس إلى التطورات التكنولوجية التي استدعت المراجعة والتقييم.

والواقع أن بروز وشيوع معارف العلوم الاجتماعية والإنسانية حول تأثيرات الإعلام (والإعلام الجماهيري على وجه التحديد) إنما واكبت لدرجة التلازم، التطورات التي طرأت على حقل الإعلام نفسه، على الأقل في سياق الحربين العالميتين لبداية وأواسط القرن الماضي.

فتوظيف الصحافة (الصحافة المكتوبة على وجه الدقة) خلال الحرب العالمية الأولى، واستعمال الإذاعة خلال الحرب الثانية، أفرزتا مقاربات عديدة حول تأثير وسائل الإعلام، مباشرة أو بطريقة غير مباشرة، على السلوكيات، كما على التمثلات والآراء.

ولعل الكتاب الذين تعرضوا بداية لهذه المسألة، قد أوضحوا أن الاتصال الجماهيري من شأنه أن يؤثر بطريقة مباشرة وآنية على آراء الأفراد وعلى الرأي العام. وقد كان عالم الاجتماع الألماني سيرج تشاكهوتين في كتابه "اغتصاب الجماهير بالدعاية السياسية"[20]، قد آمن بقوة وقدرة وسائل الإعلام الجماهيري في التأثير بطريقة مباشرة وآنية، في الآراء وفي سلوكيات الأفراد، على اعتبار أن هؤلاء إنما يتجاوبون تلقائياً مع كل جرعة معلوماتية، كائن ما يكن صبيبها. إذ يكفي، في نظره، أن تقدم جرعة من المعلومات أو الاتصال أو الدعاية، حتى يحصل باعث الرسالة على التأثير المنشود.

في ذات السياق، عمد هارولد لاسويل إلى استعادة التحاليل الرائجة وتطويرها بالولايات المتحدة الأمريكية، حيث لم يكن من الصدفة في شيء أن يتطور هذا الحقل بهذا البلد، على اعتبار أنه هو الذي عرف تطوراً هائلاً في مجال الصناعات الإعلامية، لا سيما تلك المرتبطة بالإشهار وما يدره من مداخيل وأرباح.

ولعل لاسويل هو صاحب مقولة إن دراسة الاتصال تستوجب تحليل: من الذي يقول، ماذا يقول، بأي قناة، لمن، وبأي تأثير[21].

إلا أن هذه المقاربات السلوكية، التي تعتبر الآدميين عبارة عن فئران تجارب، سرعان ما تم انتقادها والطعن في مضامينها. وقد حمل لواء هذه الانتقادات كل من الأمريكي بول لزارسفيلد والفرنسي جون كازنوف، حيث بينا الطبيعة "البدائية" للمقاربات السلوكية التي قدمها لاسويل.

بالتالي يقول الكاتبان، وإن بسياقين مختلفين، بأن الطبقة الاجتماعية والانتماء الجغرافي والدين، كلها جوانب تمثل عناصر مهيكلة للطريقة إلي يتم بها استقبال رسالة إعلامية ما. بالتالي، فإن تأثير وسائل الإعلام لا يمكن أن يكون أمراً واقعياً وحقيقياً، إلا إذا كان خطاب وسائل الإعلام مصوغاً ومعتمداً من لدن صانعي الرأي.

بصيغة أخرى، فإنه "ليس ما نسمعه بالإذاعة أو نراه بالتلفزة، هو الذي يؤثر فينا. إن الرسالة لا تؤثر فينا إلا إذا تم اعتمادها وتقديمها من لدن أناس نثق فيهم"[22].

يقول كازنوف، مختزلاً هذه الإشكاليات: "إنه نتيجة للنجاحات الباهرة التي لقيتها دعاية الدكتور غوبلز في ألمانيا النازية، نتيجة لذلك تطورت الأطروحة التي مفادها أن وسائل البث الجماعي يمكنها أن تفعل في المعتقدات والرأي العام، ومن ثمة يمكن أن تكون لها آثار مباشرة كبيرة"[23].

ويتابع: "في إطار المجتمع الليبرالي، حيث وسائل الإعلام غير موجهة ولا مراقبة من لدن الدولة، وعندما تكون قراءة جريدة كافية لتعويض تأثير التلفزة، نلاحظ بأنه نادراً ما يتم تغيير الآراء تبعاً للدعاية. إن الذي ينتج عن ذلك هي تأثيرات تقوي الآراء القائمة. إن أي برنامج يريد تغيير رأي الجمهور من خلال تعرضه المباشر لمعتقداته، غالباً ما يؤدي إلى الفشل الذريع، لا بل لربما لعداء متزايد بإزاء الأفكار التي تمت المراهنة على فرضها"[24].

بامتداد لذلك، حاولت الدراسات التي قام بها جوزيف كلابير إلى توضيح قدرات الصمود والمواجهة التي يبديها المتلقي للرسائل المقدمة من لدن وسائل الإعلام الجماهيرية. فقد بين أن ثمة رابطاً وعلاقة ثابتين بين التلقي الاختياري أو القسري للرسائل الإعلامية. وتبعاً لطبيعة هذا الاختيار يتأتى، في نظره، التمثل ثم الأثر والتأثير[25].

وهو ما خلص إليه إيريك ميغري أيضاً حين يقول، لاختزال معظم الإشكالات المطروحة بخصوص التأثير: "إن أطروحة هيمنة وسائل الإعلام تبدو خاطئة، والفكرة أن المجتمع مجزأ هي فكرة غير عقلانية. إن تأثيرات الإعلام غير مباشرة، بل ومحدودة، لأنه يتم تصفيتها بالقدرات الإدراكية للأفراد، ثم لأن الرسائل تبث أفقياً، من بين ظهراني الشبكات، وليس عمودياً من باعث للرسالة إلى متلق لها"[26].

في صلب كل هذه التموجات النظرية حول إشكالية تأثير وسائل الإعلام على الآراء الفردية وعلى الرأي العام، لا بد من الإشارة إلى الأطروحة التي تبناها مارشال ماكلوهان والتي أثارت، منذ طرحها من لدن صاحبها بستينات وسبعينات القرن الماضي، أثارت نقاشات ومزايدات كبرى، بحكم قوة إشعاعها، لا سيما أطروحاته حول التحولات الثقافية والاجتماعية التي تترتب عن وسائل الإعلام السمعية والبصرية، وكذلك قوله ب"القرية الكونية"، ثم تمييزه بين "وسائل الإعلام الباردة ووسائل الإعلام الساخنة"، و"الأداة هي الرسالة"، وما سواها من أطروحات.

ولعل أول شيء يستوقف المرء بهذا الصدد، إنما قول ماكلوهان بأن "الوسيلة هي الرسالة"، وهو تعبير يوحي بأن تقنيات الاتصال هي الأساس في تفسير تطورات المجتمع. بما معناه أنه يجب ألا نعير كبير اهتمام للمضمون، إذا أردنا فهم انخراط أو اندراج وسائل الإعلام في المجتمع بكل المراحل التاريخية. أي أن ثمة حتمية تكنولوجية هي التي من شأنها تفسير تطور المجتمعات، في علاقتها بوسائل الإعلام والاتصال.

بالتالي، فعلى شاكلة أطروحة كارل ماركس، التي يرى فيها أن تطورات قوى الإنتاج وتضادها ودخولها في تناقض مع العلاقات الاجتماعية، هي التي تحدد الانتقال من شكل اجتماعي إلى آخر، فإن ماكلوهان يعتقد بأن تطورات وسائل ووسائط الاتصال هي العنصر المفسر والمحدد بنهاية المطاف، للتحولات الاجتماعية والثقافية.

أما ثاني مسألة تستوقف القارئ، فهي تمييز ماكلوهان بين وسائل الإعلام الساخنة ووسائل الإعلام الباردة. أما الأولى فهي كذلك، عندما تمنح الجمهور المعلومات الكافية، ولا تترك له إلا قليلاً من "البياض لملئه". في حين أن الثانية لا تقدم إلا معلومات قليلة، وتشجع الجمهور على المشاركة برأيه.

وبناء على هذا التمييز، يلاحظ ماكلوهان أن فترة المطبعة إنما تعبر عن وسائل الإعلام الساخنة، في حين أن عصر الإذاعة والتلفزة يعبر عن مرحلة وسائل الإعلام الباردة بامتياز.

معنى هذا، من باب التوضيح، أن ماكلوهان يضع ضمن وسائل الإعلام الساخنة كلاً من المطبوع والإذاعة والسينما وفن التصوير، في حين أن الكلمة والهاتف والتلفزة، فإنه يضعها ضمن وسائل الإعلام الباردة[27].

وإذا لم يكن من مجالنا هنا الحديث في محدودية هذه الأطروحة[28]، أو في بعض نقاط الخلاف معها أو حولها، فإن الذي يجب الإشارة إليه إنما أن ماكلوهان يموضع الإعلام في المجتمع، ليلامس طبيعة التأثير المترتب عن ذلك.

يقول ماكلوهان بهذه النقطة: إن الفرق "كل الفرق في تأثير وسيلة إعلام ساخنة، يقاس باستخدامه داخل ثقافة ساخنة وداخل ثقافة باردة. فوسيلة الإعلام الساخنة كالإذاعة مثلاً، لو استخدمناها في ثقافة باردة أو أمية، تنتج عنها ردود فعل عنيفة، مختلفة كل الاختلاف عن ردود الفعل التي قد تنتج بإنجلترا أو أمريكا، حيث نستخدمها كأداة ترفيه"[29].

وهو رأي غير بعيد عما دافعت عنه مدرسة فرانكفورت الماركسية، والتي آمنت ولا يزال البعض يؤمن في خضم تموجاتها، بأن تأثير وسائل الإعلام قوي للغاية، لكن بجهة إشاعة الانضباط والتطابق الاجتماعي ليس إلا.

بالمقابل، ظهرت بالعقدين الأخيرين، دراسات عديدة ليس فقط بزاوية تأثير وسائل الإعلام على الرأي العام، ولكن بغرض فهم النتائج حول جانب المراقبة الاجتماعية التي تثوي خلفها هذه الوسائل. وهو بعد قام بعض الباحثين فيما بعد، بتخفيفه والتليين من قوته.

يقول دانيال شارون بهذا الخصوص: "إن وسائل الإعلام لا تمارس المراقبة الاجتماعية. إنها أدوات تساعد على توضيح الرؤية بالنسبة للذين بيدهم السلطة، من خلال التعبير عن مواقفهم وتبريراتهم للأحداث...إنها تسهل عليهم الأمر"[30].

من جهة أخرى، فقد برزت بالسنين الأخيرة، أبحاث ودراسات تركز على جانب الاستعمال، الذي يقوم به الأفراد بوسائل الإعلام، على اعتبار، تقول هذه الدراسات، إن المهم ليس التساؤل فيما تقوم به وسائل الإعلام، بل بالطريقة التي يتم بها استعمال هذه الوسائل.

يقول كاتز: "إن البحث في الاستعمال ينطلق من مسألة الاختيار. لكن هذا الاختيار ليس مرتبطاً بدراسة دفاعية متجذرة في الآراء والعادات القائمة. إنه يتحول إلى اختيار رصدي، يأخذ بعين الاعتبار الحاجات والتطلعات. ووسائل الإعلام تظهر هنا كمرافق عمومية، يقوم الجمهور بداخلها باختيار الاستخدام"[31].

على النقيض من ذلك، يعتبر عالم الاجتماع بيير بابان بأنه لفهم العلاقات بين وسائل الإعلام والمجتمع، فإنه يجب استحضار عناصر أخرى لها تأثير أكبر من نوايا المتلقين للرسالة: العناصر السيكولوجية والسوسيولوجية والثقافية، ناهيك عن الوضعية العامة التي يكون عليها هؤلاء المتلقون[32].

أما علماء السياسة، فقد اهتموا هم الآخرون، بمسألة تأثير وسائل الإعلام على الآراء الفردية وعلى الرأي العام، فأكدوا على وجود العلاقة، لكنهم لم يقبلوا بالأطروحات التي تدافع عن التأثير المباشر.

إلا أن العنصر الذي أثار اهتمام علماء السياسة إنما ظواهر من قبيل سبر أغوار الرأي العام عبر الاستبانات المنتظمة، ودور وسائل الإعلام في حركية الفعل السياسي، وكذا تأثير كل هذا على الحياة الديموقراطية أو الانتخابات أو التدافع السياسي أو ما سوى ذلك[33].

أما وجهة نظر الفلاسفة، أو المشتغلين بالحقل الفلسفي، فإنها لا تبدو مختلفة كثيراً عن وجهة نظر علماء الاجتماع. صحيح، يقول جيل ليبوفتسكي، "إن لوسائل الإعلام تأثيراً كبيراً على مسلسل التنميط الجماهيري، بزاوية تنميط الحياة والأذواق والممارسات الاجتماعية"، إلا أن الأمر لا يذهب، بنظره، لحد القول بأن هذه الوسائل تحولنا إلى مواطنين منمطين، مبهورين بالشعارات والصور ومهرجانات الفرجة المبرمجة.

ويتابع القول: "إن وسائل الإعلام تعمل على تخليص الأذهان من سيطرة التقاليد وثقافات المجموعات والطبقات. إنها تساهم وإن بطريقة غير متساوية، في شخصنة الأحكام، وتنويع قيم المرجعيات، فتقوض التزام الأفراد إزاء الأحزاب السياسية وإزاء الكنيسة، وتخلصهم من الإيديولوجيات الشمولية. لكن هذا وإن كان يحول دون استمرار النمطية والصور المسبقة، فإن هذه الأخيرة تصبح أقل عصياً وتشدداً، وقابلة بسرعة لإعادة النظر"[34].

إلا أنه لو تجاوزنا على هذه النظريات "القطاعية"، فإننا سنجد أن ثمة أطروحات تحاول ملامسة الإشكالية المطروحة من زاوية شمولية، أي من زاوية التكريس التدريجي لبراديغم جديد، "أي مجموعة تقنوثقافية ترتكز ليس فقط على وسائل الإعلام في حد ذاتها، ولكن على قطاع وصناعات الاتصال في شموليتها".

إنها نظريات تستحضر في فرضياتها، تراجع الأطر المؤسساتية التقليدية كالقانون مثلاً، لكنها تلاحظ من وجهة النظر الإعلامية الصرفة، الأثر المباشر الضعيف على الأفراد.

يقول دعاة هذا الطرح: "إن الفردانية المعاصرة، والتشظي الاجتماعي، وانصرام بنيات التأطير وشبكات المشاركة، كل هذا دفع كل مواطن إلى الانزواء والملل. هذا الملل هو الذي يجب استبعاده، إذ ظهرت وظيفة جديدة للإعلام تعوض الوظيفة التقليدية المعتادة: وظيفة الترفيه عوض الإخبار، ووظيفة الإمتاع عوض الإشراك"[35].

بامتداد لذلك، يلاحظ هؤلاء أن التأثير الاجتماعي، على مستوى المضمون والرسالة الإعلامية، يبقى ضعيفاً. إذ إن تكرار وتكثيف المعلومة لا يؤدي بالضرورة إلى الادعاء بحقيقتها. على العكس من ذلك، فهم يلاحظون أن الوفرة الكبيرة للمعلومات قد تكون نتيجتها سلبية بمقياس الأثر والتأثير. إذ الوفرة إياها، والمترتبة عن تعدد قنوات الإعلام والاتصال وحيرة الاختيار، تجعل الأذن لا تسمع شيئا محددا، وتجعل العين لا ترى شيئاً معيناً. بالتالي، فإن "الانتصار التكنولوجي الواضح لوسائل الإعلام، إنما تقابله هزيمة بسيكولوجية مؤكدة"[36]، لا بل ثابتة.

بالمحصلة نقول التالي: إن معظم المدارس والتيارات الفكرية التي اشتغلت على وسائل الإعلام من زاوية التأثير والتغيير، إنما تسلم جدلاً بأن ثمة احتمالاً كبيراً للتأثير، لكنهم اختلفوا في طبيعة هذا التأثير، في مداه، في مسالكه وفي مسلسله. وهو ما يجعل التساؤل عن دور الإعلام في الآراء الفردية والرأي العام بصورة محددة، مجال تفكير ونظر مستمرين.

 

مستوى اندماج الوسيلة الإعلامية بالاحتكام إلى المقاييس الموضوعية المعتمدة

العبرة، بهذه النقطة، ليست بمستوى الاندماج، لا سيما لو اعتبرنا أن هذا الأخير ليس غاية في حد ذاته. إن العبرة تكمن في النظر في تكوين الجمهور المتلقي والذي توجه إليه الرسالة، والنظر بعد ذلك، في مدى التأثير من عدمه، على الأفراد وعلى الرأي العام بصورة شاملة.

إلا أن المفارقة، بالقياس إلى ما قدمته دراسات العلوم الاجتماعية والإنسانية، أن هذا التساؤل قد يصبح غير ذي قيمة كبرى، مادامت هذه الدراسات قد أوضحت غياب التأثير المباشر لوسائل الإعلام في تكوين الآراء الفردية والرأي العام. وهو لربما ما يجب التدقيق فيه، ليس من زاوية تشكل وتركيبة الجمهور المتلقي (وهو ما يخرج عن نطاق هذه الورقة)، بل من زاوية السياق الاجتماعي الذي تفعل فيه وسائل الإعلام وتتفاعل.

 

السياق الاجتماعي الذي تفعل فيه وسائل الإعلام

بهذه النقطة، يجب استحضار عنصرين اثنين:

  1. الأول ويتعلق بمدى اندماج الوسيلة الإعلامية المراد دراستها، في بنية المجتمع الذي يتلقاها.
  2. العنصر الثاني ويرتبط بتقييم الاستقبال الاجتماعي لوسيلة إعلامية محددة قياساً إلى باقي وسائل الإعلام.

بالنقطة الأولى، يبدو بالتجربة وبالمعطيات الميدانية أيضاً، أن الإذاعة لم يعد لها الدور المركزي الذي كان لها بثلاثينات القرن الماضي، وإلى حين ظهور التلفزة. فالإذاعة إلى حين الستينات من ذات القرن، كان لها تأثير معتبر، لا سيما بالجانب الإخباري والثقافي، حتى أن البعض تحدث بإزاء ذلك عن "العصر الذهبي للإذاعة".

إلا أن وصول التلفزة وتزايد مستوى الارتباط بشبكتها، ثم ظهور الفيديو والكابل، وتكنولوجيا الإعلام والاتصال فيما بعد، كل هذه العناصر ركنت الإذاعة إلى الجانب لفائدة هذه المستجدات، وثوت خلف إعادة النظر في طرق وأنماط استهلاك الكلمة والصوت والصورة والمعطى، وإن بمستويات متباينة بين هذا المجتمع أو ذاك.

ومع ذلك، فإن الثابت حقاً أن الإذاعة أثثت ولعقود طويلة، أنماط الاستهلاك ونماذج الحصول على المعلومات والبيانات والأخبار والثقافة أيضاً. فبالجانب الثقافي، أسهمت الإذاعة في تغيير العلاقة الاجتماعية بالثقافة، على الأقل من زاوية أنها مكنت شرائح واسعة من السكان من إدراك مضامين لم يكن النفاذ إليها هيناً ولا متاحاً من ذي قبل.

صحيح أن وصول الوسائل الإعلامية الجديدة لم يستطع تقويض الوسائل التقليدية نهائياً، ولا نفي بعضا من أدوارها، لكنه اضطرها لإعادة النظر في دورها ومكانتها ونموذجها الاقتصادي والاجتماعي، لا بل ونمط انخراطها في الفضاء العام[37].

نفس الشيء يمكن أن يقال عن التلفزة، ونفس الاستنتاجات يمكن أن نخلص إليها. فالتلفزة، ببداياتها الأولى، كان لها تأثير كبير على الأقل بزاوية الإخبار والترويج الثقافي، إلا أن مدها بدأ بالانحسار مع ظهور الشبكات الرقمية، وفي مقدمتها شبكة الإنترنت بأجيالها المختلفة.

إن دورها ووظيفتها ومكانتها لم تقوض نهائيا، لكنها باتت مطالبة كما الشأن مع الإذاعة، بإعادة النظر في ذوات الدور والوظيفة والمكانة لتستطيع المسايرة والمواكبة[38].

أما بالنقطة الثانية (المكانة الخاصة للوسيلة الإعلامية داخل الفضاء الاتصالي والاجتماعي)، فيبدو بالوقائع الثابتة، أن وسائل الإعلام التقليدية، وفي مقدمتها الإذاعة، قد عرفت تهميشاً كبيراً في الحقل الإعلامي والاتصالي العام. إذ تثبت المعطيات الإحصائية أن المتلقي قد تبرم كثيراً عن الإذاعة في استقاء معلوماته وأخباره ومصادر ترفيهه وتثقيفه، لفائدة وسائل الإعلام والاتصال اللاحقة على الإذاعة.

ففي دراسة عن مجتمع الكيبيك بكندا، يظهر أن "النساء والأشخاص ما فوق ال 65 عاماً، والفرنكفونيين والكيبيكيين، والأشخاص الذين لا تتعدى مداخيلهم 40 ألف دولار، والمتقاعدين، والخواص ذوي المستوى الابتدائي والثانوي، هم الغالبية التي تفضل التلفزة كوسيلة إعلام واتصال"[39].

وهو ما يفيد أن الطبقات المهمشة أو ذات التكوين المتواضع، هي التي غالبا ما تلجأ للتلفزة عوض الإذاعة، لبلوغ المضامين الإعلامية، لا سيما الثقافية منها، أو ذات الخاصية التكوينية.

بكل الأحوال، فإن تحليل التأثير المحتمل لكل وسيلة إعلام على الآراء الفردية والرأي العام، يجب أن يأخذ بعين الاعتبار وبطريقة متلازمة، مدى اندماج هذه الوسيلة في المجتمع، ومكانتها داخل الحقل الاجتماعي، وأهميتها النسبية في النسق التواصلي العام.

ويبدو، باستحضار هذه العوامل، أنه لم يثبت تاريخياً أن وسيلة إعلامية قد فرضت هيمنتها بصورة مطلقة، لا الصحافة المكتوبة ولا الإذاعة ولا التلفزة. إن تأثيرها في المجتمع يبقى نسبياً وإلى حد بعيد. فحتى وسائل الإعلام الجديدة، المقتنية للشبكات الرقمية، لم تستطع لحد الساعة، أن تحقق هذه السيطرة، بل أخذت لها مكاناً إلى جانب وسائل الإعلام التقليدية بهذا الشكل أو ذاك. وهو ما يستوجب لضبطه، مساءلة عنصر الاستعمال الاجتماعي لوسائل الإعلام، داخل المجتمع ومن بين ظهراني شرائحه المختلفة.

 

الاستخدام الاجتماعي لوسائل الإعلام

بهذه النقطة، يبدو أن المطلوب التطرق إليه، إنما الاستخدام الذي يقوم به المجتمع لوسائل الإعلام، بغض النظر عن الاستهلاك الصرف للمضامين والمحتويات. ومبرر ذلك هو الاعتقاد (اعتقادنا الخاص على الأقل) بأن التساؤل عن طرق توظيف المجتمع لوسائل الإعلام، يبدو أكثر أهمية من التساؤل عما تقوم به وسائل الإعلام بالمجتمع. أي أن المسألة المطروحة في هذا الباب، تكمن في التقييم الكمي والنوعي لأنماط استهلاك المضامين من لدن الجمهور، لا الاستهلاك في حد ذاته.

يقول إيسيان نوازو: "لو تأملنا عن قرب، حالة الإذاعة، وبكل دول العالم، فإن متابعتها هي متابعة فردية في غالب الأحيان. فبأماكن التجمع حيث تبث (معامل، مكاتب، أسواق ممتازة...الخ)، فنحن لا ننصت لها، بقدر ما نكتفي بالاستماع. ثم إن التوجه المطرد للإذاعة باتجاه الإنترنت، يعبر أيضا عن فردانية الإنصات، لأننا نلتقط الإذاعة على حاسوبنا الخاص.

باستثناء هذه الحالة، فقليلون هم المستمعون الذين يصرفون كثيراً من الوقت للاستماع للإذاعة، أو يجلسون أمام جهاز الإذاعة وينصتون بتركيز واهتمام، كما الحال مثلاً عندما يكونون بإزاء القراءة، أو متابعة حفل مسرحي أو سينمائي أو مهرجان فني. الإذاعة لا تهيمن علناً كما يبدو الأمر مع التلفزة. إذ حتى بالأماكن التي يكون جهاز الإذاعة مشغلاً باستمرار، فإنها تتماهى مع وضعية ضجيج قائم، فيما يشبه وضعية حضور وغياب في الآن معاً، من المتعذر معها قياس وتوصيف الأثر على المستمع"[40].

بالإضافة إلى ذلك، فإن سهولة الانتقال من محطة إذاعية لمحطة أخرى، يعطي الانطباع بأن المستمع يعير أهمية متباينة لما يريد الاستماع إليه، وقد لا يلقى الرضا والتجاوب مع الذي يبحث عنه في هذه المحطة أو تلك، وهكذا.

هذا المعطى أساسي بنظرنا، لأنه لا يشي فقط بتراجع مد ومكانة الإذاعة، بل يشي أيضاً بعدم فاعليتها ونجاعتها في تكوين رأي الأفراد والرأي العام عموماً. بمعنى أن الإذاعة حتى وإن كانت لا تزال وسيلة إعلام قرب بامتياز، بحكم سهولة النفاذ إليها، فإن ذلك لا يفسر أنه بمقدورها التأثير في آراء الناس، أو في تشكيل وإعادة تشكيل الرأي العام.

لسائل أن يتساءل: وما السر في نسب التجهيز المرتفعة للأفراد والعائلات بأجهزة الإذاعة؟ أليس هذا مؤشراً على مركزية هذه الوسيلة وأهميتها، ومن ثمة احتمالية قوة تأثيرها؟

هو تساؤل وجيه، إلا أنه غير كاف للتدليل على وجود علاقة تأثير بين الوسيلة ومالكها أو مستخدمها. بالتالي، "فليس معيار تملك مستجد تكنولوجي، كافيا وحده لتحديد الاستخدام، أو تبرير التقنين، أو الارتكاز عليه للخلوص إلى وجود تأثير محتمل"[41].

إن دراسة وسيلة ذات وضع خاص كالإذاعة مثلاً، تستوجب بالقطع دراسات معمقة عن الاستخدامات التي يثوي المجتمع خلفها بإزاء هذه الوسيلة. والمعطيات الإحصائية تبين بجلاء أن الاستماع للإذاعة لا يتم وفق طرق اهتمام كبيرة، إذ إن حجم الاستماع هذا، والذي متوسطه ساعتان باليوم تزيد أو تقل من بلد لبلد، هذا الحجم يبين أن الاهتمام بما يبث "ثانوي"، على الأقل بالقياس إلى النشاطات الأخرى.

يلاحظ جاك دوران، الذي اشتغل على الحالة الفرنسية بخصوص الإذاعة، أنه "ضمن ال 125 دقيقة المخصصة للاستماع المتوسط اليومي للإذاعة، فإن 6.6 دقيقة هي التي تخصص للاستماع الصرف، 24 دقيقة للاستماع بموازاة القيام بعمل مهني، 21 دقيقة بموازاة العمل المنزلي، 16 دقيقة مع الأكل و 10 دقائق بالمرحاض"[42].

وتؤكد الدراسات والإحصاءات بالدول المتقدمة تحديداً، أن العرض الإعلامي بهذه الدول قد أدى إلى حالة من الإشباع، لدرجة أن أي وسيلة إعلامية لا تستطيع استقطاب إلا جزء بسيط من السكان، باستثناء التلفزة التي لا تزال تكابر. وهي الوضعية التي لا يمكن ملاحظتها ببلدان الجنوب، حيث الندرة النسبية لوسائل الإعلام تدفع معظم السكان للاكتفاء بالإذاعة[43].

أما بخصوص وسائل الإعلام الجديدة، لا سيما الإنترنت، فقد بشر العديد من الدارسين بأن من شأن هذه الوسيلة أن تطال الروابط الاجتماعية، وتحتجز الأفراد فيما يشبه "غيتوهات افتراضية"، لا يستطيع المرء الإفلات منها[44].

بالمقابل، فثمة العديد من الدراسات أيضاً أكدت ولا تزال تؤكد، على حقيقة التأثير المحدود لهذه الوسيلة الإعلامية والاتصالية على الفرد وعلى المجتمع[45].

 

مستوى مصداقية الصحافة ووسائل الإعلام والقائمين عليها

ليس ثمة من شك في أن وسائل الإعلام والقائمين عليها، قد حصلوا على اعتراف كبير من لدن المجتمع، وتمتعوا بمستوى من المصداقية والاحترام معتبرين. إلا أن ذلك قد عرف تموجات عميقة عبر الزمن.

فبفترة الستينات والسبعينات من القرن الماضي مثلاً بأوروبا وأمريكا، عرف القطاع حالات من المصداقية متقدمة، على الرغم من تواضع مداخيل الصحفيين، وغياب الإطار المؤسساتي السليم لممارسة المهنة. وقد زاد من قوة هذه المصداقية سن قوانين في الإعلام والاتصال متقدمة، وخضوع المهنة لمواثيق في الشرف والأخلاق جعلتها "تكبر" بعين الجمهور، والمجتمع بوجه عام.

إلا أنه، وابتداءً من الثمانينات، عرفت وسائل الإعلام بكل تلاوينها، تدهوراً حقيقياً في إشعاعها، وتراجعاً ملحوظاً على مستوى مصداقية المهنة الصحفية.

فتزايد التحالفات داخل قطاع الإعلام، وازدياد منسوب الطابع المحافظ للمجموعات المهنية الفاعلة بالقطاع إياه، ثم التجاوزات المتكررة والمتعددة التي عرفها مجال إنتاج ونشر المعلومات، ناهيك عن عدم قدرة الفاعلين في المجال إياه على تحديد معايير مهنية ومعايير للانتماء الإعلامي، بالإضافة إلى مسلسلات إعادة الهيكلة التي عرفها ذات المجال...الخ، كلها عناصر أسهمت وبقوة، في تقويض وتراجع صورة الإعلام وفاعليه في رأي الجمهور.

هذه الوضعية، ومع تراجع مصداقية الإعلام والإعلاميين، كانت ولا تزال خلف العديد من الدراسات الهامة، لا سيما من لدن علماء اجتماع الإعلام والاتصال. وقد أثبتت، في الغالبية العظمى منها، أن الجمهور لا يثق كثيراً في المعلومات التي تقدمها وسائل الإعلام، ولا يعتبر العديد من ذات المعلومات حقيقية أو صادقة، بالصحافة المكتوبة كما بالإذاعة كما بالتلفزة[46]. وهو ما نلحظه بمعظم دول العالم المتقدم، لا سيما في فرنسا وفي الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لا يثق جزء كبير من المجتمع الأمريكي فيما يقدمه الإعلام والإعلاميون، ويبدون نفورهم منهم جراء التجاوزات التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى[47].

بالإضافة إلى ذلك، فإن العديد من الأشخاص الذين لا علاقة لهم بالإعلام، لكنهم يقومون بتنشيط برامج بالإذاعة وبالتلفزة، باتوا نتيجة ذلك مكمن شهرة وقبول فائقين. إنهم يدعون لا سيما بالدول المتقدمة، القدرة على إعطاء الكلمة لمن لا كلمة لهم، وجعل هذه الأخيرة مقبولة من لدن صاحب القرار.

قوة هؤلاء "المنشطين" لا تكمن في مكانة اعتبارية مسبقة لديهم، بل تكمن في قدرتهم على ضمان الالتفاف من حولهم، بحكم طبيعة القضايا التي يطرحونها وطبيعة الجمهور الذي يستهدفونه.

ولما كانوا كذلك، فإن ترويجهم لصورة سلبية ما عن شخص ما، وغالباً ما يكون شخصية عمومية، من شأنها أن تكرس لذات الصورة، لدى الجمهور المتلقي[48].

 

أهمية وسائل الإعلام قياساً إلى بعضها البعض

التساؤل هنا من زاوية أهمية وسائل الإعلام قياساً إلى بعضها البعض، من شأنه أن ينبئنا عن التأثير المحتمل لهذه الوسائل على الآراء الفردية وعلى الرأي العام. ومن شأنه أيضاً أن ينبئنا عن الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيراً في هذه الآراء فرادى أو مجتمعة.

"فكون الإذاعة وسيلة إعلام قرب...هل يعطيها ذلك قدرة كبيرة على التأثير في الأفراد؟ وكونها متاحة أكثر من الصحافة المكتوبة، هل يعطيها ذلك قدرة أكبر من هذه الأخيرة؟ وبحكم أن الصحافة المكتوبة تعطينا معلومات وتحاليل أدق ...هل بالإمكان الارتكاز على ذلك للقول بأنها أكثر تأثيراً؟ وكون التلفزة تطال شرائح واسعة من المجتمع، هل يعني ذلك أن لها تأثيراً كبيراً عليه؟ وهل كون الإنترنت بات الوسيلة المفضلة لدى الشباب، يعني أن له تأثيراً ما على ثقافة هؤلاء؟"[49].

هي تساؤلات عامة لمحنا إلى بعض عناصرها فيما سبق من حديث، لكن دراسة كل وسيلة على حدة قد يعطي صورة أوضح عن الإشكالية.

لقد قلنا، بخصوص الإذاعة، إن مستوى تتبع هذه الوسيلة الإعلامية ثانوي وإلى حدٍ بعيد. إنها لا تستوجب تركيزاً كبيراً، وبذلك فإن مدى تأثيرها يبدو ضعيفاً هنا ومتواضعاً هناك، حسب السياق الاجتماعي والاقتصادي والثقافي القائم.

ليس هذا فحسب، بل إن العديد من الدراسات النظرية والميدانية تؤكد أن مستوى مصداقيتها هو المتدني ضمن باقي وسائل الإعلام والاتصال. وهو ما يمكن ملاحظته أيضاً بالنسبة للصحافة المكتوبة، حيث تراجع مداها وأهميتها ومصداقيتها، بات منذ مدة هو القاعدة عوض أن يكون الاستثناء.

أما بالنسبة للتلفزة، فإن الواضح أن ثمة شبه إجماع في العلوم الاجتماعية والإنسانية، على أنها تتوفر على سلطة التأثير الأكبر، ناهيك عن نسبة متابعتها ومصداقيتها، قياساً إلى باقي الوسائل.

يقول كازنوف بهذا الخصوص: "على الرغم من أننا نبقى مندهشين أمام الشاشة الصغيرة، فإن التلفزة بوجه عام، تشد الانتباه أكثر من الإذاعة، والتي (أي الإذاعة) تبني الخلفية الصوتية لنشاطنا عندما نكون بإزاء نشاطات أخرى. الذاكرة ذاتها تخضع لتأثير الصورة أكثر من الصوت. والتجارب تؤكد أن الذي نستوعبه من التلفزة يدوم أكثر مما نستوعبه من الإذاعة. على النقيض من ذلك، فإن التلفزة غالباً ما تحد من الخيال، لأن الصورة المرئية أو المشاهدة، لها حضور أكثر من الآخرين"[50].

لهذا السبب، فإن الوسيلتين معاً تخلقان وضعيات نفسية مختلفة. "الإذاعة تتوجه لحميمية الفرد، أما عالم اللوغوسفير، عالم الكلمة، فإنه يطال لاوعي الشخص، حيث الهدوء المطلق، وحيث الخيال محرر إلى حد بعيد. التلفزة تختطفنا من ذواتنا. إن لها هيمنة خارقة، تفرض على شخصيتنا فرضاً. أما الإذاعة، من وجهة النظر الفكرية، فهي أقرب إلينا، تماماً كما الحال مع الكتاب، لأنها تبقى من مجال الخيال، تنقل الرسالة عبر موسطة المفاهيم، في حين أن التلفزة تبقى ضمن مجال الواقع"[51].

لكن هذا القول لا يجب، بأي حال من الأحوال، أن يفيد بأن في الأمر حتمية تكنولوجية. إنه يفيد فقط بأن التلفزة هي الأكثر تأثيراً ضمن باقي وسائل الإعلام.

يقول ريجيس دبري: "ليست الكلمة هي الطاغي، بل المرئي. إن هذا الأخير يركز على الذين نراهم بكثافة، أي يركز على سلطة من بيده السلطة"[52]، بهذا الشكل أو ذاك.

ويقول بيير بورديو: "إن الأخطار السياسية اللصيقة بالاستعمال العادي للتلفزة، تأتي من كون الصورة لها خاصياتها. إنها تنتج ما يسميه نقاد الأدب بأثر الواقع. إنها تسهم في تمظهر الأمور، وتدفع لأن نثق بذلك. إنها قادرة على أن تعطي الأفكار والتمثلات وجوداً أكبر"[53].

هذا الواقع عبر عنه البعض بكونه ترجمة لحضارة الصورة، على اعتبار مركزية الصورة، وقوة التأثير الاستثنائية التي تضمرها. ومع ذلك، فإن هذه القوة تبدو لبعض الباحثين نسبية، وليست بالمدى الذي تقدم به في الزمن والمكان.

يقول دومنيك فولتون: "التلفزة أداة عرفت نجاحاً استثنائياً منذ نصف قرن، لكنها لم تتحصل أبداً على المشروعية الفكرية التي تستحق. الكل يشاهدها، يتكلم عنها، ينتقدها، يحذر منها، لكن دونما قدرة على الاستغناء عنها. إن الفكرة المهيمنة هي التي تدفع إلى الحذر من سلطتها المزعومة. ومع ذلك، فإن التجربة والدراسات المتوفرة أثبتت أن نفس الرسالة، عندما تبعث للكل، لا تستقبل بنفس الطريقة. وهذا لسبب بسيط، وهو أن المتلقي عرف كيف يترك مسافة، إذا لم يكن صموداً إزاء الرسالة إياها، بواسطة اختياراته السياسية والدينية والثقافية. بصيغة أخرى، وعكس التخوفات التي أثارتها الإذاعة، فإن التلفزة لا تتلاعب بعقول الجماهير. إن الاستقلالية النسبية للمتلقي هي الدرس الكبير للقرن الماضي. الكل يلاحظ ذلك في تجربته الخاصة، لكنه يتصور أن الآخر بجانبه، لا يملك نفس الملكة النقدية، ولا نفس القدرة على الحفاظ على المسافة"[54].

هذا لا يعني أنه ليس للتلفزة من تأثير. على العكس من ذلك، يؤكد فولتون. إلا أنه تأثير يخضع لمسلسل معقد، تفاعلي، وليس خطياً ولا أحادي التوجه.

ويتابع الكاتب بالقول بأنه حتى في الحملات الانتخابية، فإن الدراسات الأخيرة تبين أن التلفزة والنقاشات السياسية المتمحورة حولها، لا تأثير لها كبير على اختيارات الناخبين، لا بل إنها تقوي المواقف التي تكون لدى الناخبين قبل هذه "الحملات المتلفزة".

وعليه، فإن نظرة علم الاجتماع تؤمن أشد ما يكون الإيمان، بأنه ليس بمقدور التلفزة أن تتلاعب بالجمهور أو برأيه العام، إلا أنها تنتج تبعات من الصعب تحديد طبيعتها، أو إيجاد جواب واحد لتفكيكها كمياً أو من حيث النوع.

ولهذا السبب، نرى أن بيير بورديو يلح على أن التلفزة هي التي تحدد ما هو موجود اجتماعياً من عدمه، عبر اختيارها للذي يجب بثه وتمريره، من الذي "لا يستحق ذلك". لهذا، "فهي عندما تركز مثلاً على أخبار عامة عادية، فإنها تعمل على إبعاد عناصر المعلومات المهمة والإيجابية للممارسة الديموقراطية"[55].

من زاوية التبعات أيضاً، فإن للتلفزة أثراً على الجانب الثقافي، حيث تسهم في ازدياد منسوب اللحمة الاجتماعية، وتجذر الجوانب الهوياتية، لا سيما في ظل عولمة الثقافات والرموز الثقافية، من سينما وموسيقى ومسرح وما سواها.

بالآن ذاته، فإن حضارة الصورة لها آثار معينة على السلسلات الإدراكية للأشخاص الذين يخضعون لها. إذ "إن مسلسل التمثلات الذهنية يخضع للتغيير في فضاء ثقافي، حيث هيمنة وطغيان الصورة، والذاكرة البصرية تغدو هي الأكثر أهمية، في تخزين الأحداث والمعطيات التي تثير انتباهنا أو وعينا"[56].

وعليه، فإن التلفزة، ودون منازع كبير، هي الوسيلة المهيمنة في معظم الفضاءات الإعلامية. إنها تفرض على باقي وسائل الإعلام، تفرض عليها التوجه، وزاوية النظر، والطريقة التي تبدو لها مناسبة أو ناجعة لنقل الحدث. ولعل انتشار التلفزيونات ذات البث المستمر والمباشر و"الواقعي"، قد قوى من هذا الاعتقاد، وجعل باقي الوسائل الإعلامية مرتهنة من لدن التلفزة بهذا الشكل أو ذاك.

يقول ريجيس دوبري: "إن أولوية العفوي على المفكر فيه، الفردي على الجماعي، وانهيار الأساطير والكتابات الكبرى، والدفع بالحاضر الصرف، والتقوقع حول الخاص وتمجيد الجسد...الخ، كلها خصائص لعصر الصورة، وليس ثمة من خصائص مروجة أو مبشر بها في هذه العقلية الجماعية الجديدة، لا تفسر وتؤول كأثر بصري عادي"[57].

بامتداد لذلك، يقول بورديو: "إن الظاهرة الأهم والتي لم يتم التنبؤ بها، هي التوسع الخارق للعادة، لقبضة التلفزة على مجموع أنشطة الإنتاج الثقافي، بما فيها أنشطة الإنتاج الفني والعلمي"[58].

ويلاحظ عالم الاجتماع، في تحليله لأدوار وسائل الإعلام، قياساً إلى بعضها البعض: "ثمة معطيات أساس تبين التراجع التدريجي لصحافة الإعلام المكتوب، مقارنة بالتلفزة. فمكانة الملحقات المخصصة للتلفزة بالصحافة المكتوبة في تزايد، وكون صحفيي المكتوب يعطون أهمية كبرى لحضورهم بالتلفزة، أو استحضارها فيما يكتبون، كلها عناصر تبين وزن التلفزة الكبير. وإذا تسنى للصحافة المكتوبة أن تثير قضية أو نقاشاً عاماً، فإن ذلك لا يتمتع بقيمة كبرى، إذا لم يلتقط من لدن التلفزة، ويتم الاشتغال عليه، واستثماره مرئياً لهذا الغرض أو ذاك"[59].

الأمر هنا محسوم لدى بورديو، من زاوية الدراسات الكمية، كما بجانب ما يمكن ملاحظته بالعين المجردة.

من جهة أخرى، فإن التساؤل في نسبة دور كل وسيلة إعلامية في تغطية الأحداث الكبرى أو ذات الاهتمام العام، يبقى متعذراً، ليس فقط بحكم تماهي هذه الوسيلة مع ما تقدمه تلك، ولكن أيضاً لأن العادات المهنية وعوامل أخرى، تحول دون التحديد الدقيق لمسؤولية كل وسيلة على حدة. وهو ما قد يوحي بأن اعتماد هذه الوسيلة على وسيلة أخرى، يدخل ضمن إطار "التنسيق" بين الوسيلتين، لكن ذلك لا يثبت أنه من شأن هذا استقطاب الجمهور.

يقول غيوم سوليز: "لا يجب أن نستنتج أن التنسيق الإعلامي من شأنه أن يخلق مماهاة بين الجمهور والوسيلة الإعلامية، أو تماهياً أخلاقياً داخل الجمهور، وذلك لأسباب عدة، مرتبطة بالتاريخ الشخصي والجماعي، حيث القارئ أو المستمع أو المشاهد، قد يعتمد موقفاً مختلفاً قياساً إلى ما تقدمه الوسيلة الإعلامية"[60].

وهو أمر نلحظه في تغطية وسائل الإعلام لحالات محددة (قتل أو اغتصاب أو ما سواه) والتي لا يمكن ليس فقط تحديد نصيب كل منها في التغطية، بل وتحديد الجهة الإعلامية المحرضة، أو التي قد توظف ذلك لتصفية حساب ما مع هذا الطرف أو ذاك.

 

مستخلصات: أي دور لوسائل الإعلام في إصلاح الواقع المعاصر؟

أولاً: بالبناء على ما سبق، هل يجوز الخلوص إلى القول بأنه لا تأثير لوسائل الإعلام على المجتمع؟ لا، بطبيعة الحال. تماماً كما لا يجوز الخلوص إلى القول بأن كل من ينصت لمحطة إذاعية، أو يشاهد قناة تلفزيونية، أو يقرأ مقالاً، أو يبحر بموقع في الإنترنت، سيتأثر بهم جميعاً، أو ببعض منهم على الأقل.

بالمقابل، فإذا كان من الوارد أن شخصاً ما، بناء على آرائه المسبقة، أو ثقافته، أو ظروفه النفسية، أو طريقة تتبعه لوسائل الإعلام، قد يتأثر بشكل من الأشكال، فإن ذلك هو إلى الاستثناء أقرب منه للقاعدة والحقيقة. القاعدة هي عكس ذلك تماماً، حتى بتوفر دراسات لقياس المتابعة أو توفر سوق هذه الوسيلة أو تلك، ناهيك عن دراسات المحتوى، التي تبين بجلاء أن استراتيجيات الباثين لا تتطابق دائما مع طلبات الجمهور المتلقي.

ولعل المثال الصارخ الأوضح في ذلك، هو عندما تتعرض وسيلة إعلامية لهذا الشخص العمومي أو ذاك، وتعرض مقامه للتشويه أو المزايدة، فإن حجم التأثير لا يمكن قياسه، فما بالك إثباته بالمعطيات المادية الخالصة.

ثانياً: إن الوسيلة الإعلامية ليست غولاً في حد ذاتها كما يصفها البعض، أي أنها تطال متلقياً سلبياً، دونما قدرة من لدنه على رد الفعل أو المبادرة. ومع ذلك، فإن القناعة القائمة لدينا، كما لدى العديد غيرنا ربما، إنما السلطة المعتبرة التي تتمتع بها التلفزة. وحتى في هذه الحالة، فإنه ليس ثمة معطيات مدققة تبين قدرتها على التأثير المباشر في الآراء الفردية، ثم في الرأي العام. أو لنقل، بلغة القانون، إنه في غياب الحجة الدامغة، فإن القاضي لا يستطيع أن يقرر في الحكم الضامن للعدل والإنصاف، والمحيل على الحقيقة.

ثالثاً: إذا كانت العبرة في وسائل الإعلام والاتصال بالاستخدام والاستعمال، فإن معنى هذا أن ثمة فعلاً ثابتاً. والفعل لا يحيل بالضرورة على التأثير، إذ استعمال الوسيلة الإعلامية لا يعني تلقائياً أن لها تأثيراً ما بمنطوق التلقي. وهذا المنطوق يستوجب توفر القابلية لذلك، أي أن تتوفر لدى الفرد أو المجتمع، الاستعداد ليكون مادة المضمون الإعلامي بزاوية التأثير.

بالتالي، فإن دور وسائل الإعلام هنا تبقى رهينة لهذه القابلية، اللهم إلا بالحالات القصوى، حالات الإذاعة زمن ألمانيا النازية، أو الإعلام الرسمي بدول العالم الثالث، في الفترات اللاحقة على الاستقلالات السياسية بستينات القرن الماضي.

رابعاً: لو كان لنا أن نركب ناصية المقاربة المعيارية لدور وسائل الإعلام والاتصال في إصلاح الواقع المعاصر، لقلنا التالي:

  • لقلنا بأن لهذه الوسائل دوراً في استنبات قيم العدل والتسامح بين الدول والشعوب، وبين الأفراد والجماعات.
  • ولقلنا بأن لها دوراً في الدفع بقيم الحوار المبنية على الحق في الاختلاف، وفي احترام الخصوصيات والرموز والثقافات.
  • ولقلنا بأن لها دوراً في الرفع من منسوب الوعي لدى المتلقي، حتى يكون بمستطاعه الفعل والتفاعل، دون خوف أو إحساس بالنقص.
  • ولقلنا بأن لها دوراً في الدفع بضرورة احترام الناس لبعضها البعض، فيما يتعلق برموزها ومعتقداتها ومقدساتها ولغاتها، وتمثلاتها لذواتها وللآخرين من حولها.

لو كان لنا أن نتحدث هذه اللغة لقلنا ذلك بالتأكيد، وفصلنا فيه. إلا أننا لم نختر ركوب هذه الناصية، وهي الأهون بكل المقاييس. إنها تبدو لنا معيارية، وذاتية وغير ذات إيجابيات معتبرة، اللهم إلا إعادة اجترار خطابات وإيديولوجيات لا تقدم المسألة المثارة كثيراً، بقدر ما تحتكم إلى تصور انطباعي لا يقدم الطرح قيد أنملة.

إن الذي يصلح الواقع المعاصر إنما يتمحور حول سلطان السياسة والمال والسلعة، وليس وسائل الإعلام أياً ما يكن دورها ونجاعة فعلها في النفوس والأذهان.

إن مشاكل الكون، بداية هذا القرن، كبيرة ومتشعبة، تبدأ بالاستهداف المستمر للملك الإنساني المشترك (من ماء وهواء وتميز طبيعي وما سواها). وكبيرة ومتشعبة أيضاً جراء ظهور حروب لم تعهدها البشرية من قبل، تبدأ بالإرهاب الكوني متزايد المد، ولا تنتهي إلا بالحروب المعلوماتية التي باتت سمة العصر.

كيف لوسائل الإعلام، المرتهنة والمراقبة، أن تلعب دوراً في إصلاح واقع من هذا القبيل، وهي التي لا تستطيع إلا فيما ندر التأثير في سلوك الأفراد وتمثلاتهم؟

ملحوظة لا بد منها: ثمة زوايا عدة لمقاربة القضية مادة هذه الدراسة. ويبدو لنا أن المعالجة غالباً ما تتم وفق الزاوية المعتمدة. وقد آثرنا هنا أن نتناول دور وسائل الإعلام في إصلاح العالم المعاصر من زاوية الأثر والتأثير. وآيتنا في ذلك إنما التدليل على أن لا أهمية كبرى للحديث في أو عن دور الإعلام في هذا الإصلاح، إلا إذا كان لوسائله أثر وتأثير في الجمهور المتلقي، أي في الآراء الفردية والرأي العام الجمعي. بالتالي، فإذا لم يتسن لهذه الفرضية أن تتحقق، فإن الحديث عن الدور إياه يبقى ضمن مجال "الذي يجب أن يكون" عوض مجال "الكائن".

إن الحديث في الذي يجب أن يكون هو حديث معياري، ذاتي ومبطن لأحكام في القيمة قد لا تكون مبنية دائماً. لذلك، بدا لنا أن زاوية التأثير هي الأنجع، قياساً إلى زوايا من قبيل "ينبغي" و"يجب" و"يفترض"...الخ، والتي تبدو لنا مضمرة في السؤال عن الدور.

 

*الدكتور يحيى اليحياوي أستاذ الإعلام بجامعة محمد الخامس، الرباط، المغرب. قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والإعلام التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق في 2-4 نوفمبر 2013 بالدوحة.

 

 


 

الهوامش

[1] راجع بهذا الخصوص: اليحياوي، يحيى. الرأسمالية في محك التكنولوجيا، أو في النظام التكنولوجي للعولمة. دمشق: دار الأوائل، يناير 2008م. ثم، اليحياوي، يحيى. العرب والتكنولوجيا والتوزيع العالمي للمعرفة. طرابلس: المركز العالمي لدراسات وأبحاث الكتاب الأخضر، يوليو 2007م.

[2] راجع: مندل، توني (معد)."حرية المعلومات: جرد قانوني مقارن". منشورات اليونسكو، باريس. 1996م، ص 168.

[3] راجع في تفاصيل هذه النقطة: اليحياوي، يحيى. في العولمة والثقافة والتكنولوجيا: مدخل إلى شبكات المعرفة. بيروت: دار الطليعة، 2002م.

[4] راجع للمزيد من التفاصيل:

Ribault, Thierry. Formes et limites de la marchandisation de l’information. Thèse de doctorat en sciences économiques, Université Lille 1, 1991.

[5] راجع:

Boutin, Christine et Alii. “De la mondialisation à l’universalisation: Une ambition sociale”. Rapport, La Documentation Française, Paris, Décembre 2010, p. 356.

[6] راجع في تفاصيل هذه العناصر:

اليحياوي، يحيى."في القابلية للتواصل: التواصل في محك الإنترنت وعولمة المعلومات". منشورات عكاظ، الرباط، 2012م. ص 272.

[7] Marc Abélès, M. Anthropologie de la mondialisation, Ed. Payot, Paris, Février 2008, p. 157 et suivantes.

[8] راجع:

El Yahyaoui, Yahya. De la gouvernance des réseaux numériques: cas de l’internet au Maroc, Ed. Okad, Rabat, Novembre 2011, p. 452.

[9] راجع في تفاصيل هذه النقطة:

Grognet, Gaelle. Médias: faut-il un cinquième pouvoir ?. Mémoire de Maitrise, Faculté des Etudes Supérieures, Université Laval, Québec, Juin 2004, p. 155.

[10] هناك من يدفع بطرح حيادية التكنولوجيا، ويعتبر أن مجرد الإرسال لا يجب أن يطاول مسؤولية المتدخلين، أو مخزني المضامين تقنيا أو ما سواهم، على اعتبار أن التقنية برأيهم، إنما هي أداة للبث والإرسال، لا دخل لها بالمرة في طبيعة المضامين. راجع الطرح النقيض لذلك في:

Ellul, Jacques. Le Système technician. Calmann-Lévy, Paris, 1977.

[11] Jacob, Réal and Lucile Pariat. Gérer les connaissances, un défi de la nouvelle compétitivité du 21 ème siècle: Information, interaction, innovation. Cefrio, Paris, 2000.

[12] انظر: فهيم، فوزية. تأهيل الكوادر الإعلامية. القاهرة: مركز صالح للاقتصاد الإسلامي، مؤسسة إقرأ الخيرية، 1992م.

[13] فهيم، فوزية. تأهيل الكوادر الإعلامية. مرجع سابق.

[14]راجع: محمد، محمد سيد. الإعلام والتنمية. القاهرة: دار الفكر العربي، 1998م.

[15] راجع ضمن الأدبيات الكثيفة الرائجة بخصوص هذه النقطة:

Plantard, Pascal. La fracture numérique, Ed. FYP, Coll. Innovation, Paris, Mars 2011, p. 256.

- علي، نبيل، ونادية حجازي. الفجوة الرقمية: رؤية عربية لمجتمع المعرفة. عالم المعرفة، العدد 318، غشت 2005م، ص 470.

[16] راجع بخصوص هذه النقطة:

Rouet, Gilles (Dir). Usages politiques des nouveaux medias. Coll. Local/Global, Paris, Décembre 2012, p. 246.

[17] انظر لمزيد من التفاصيل:

Le Bon. Gustave. Psychologie des foules. Coll. Quadrige, Presses Universitaires de France, Paris, 1981, p.132.

[18] راجع:

Pingaud, Dans and Bernard Poulet. Du pouvoir des médias à l’éclatement de la scène publique. La Découverte, L’Expansion, Paris, 2003.

[19] Pingaud, Dans and Bernard Poulet. Du pouvoir des médias à l’éclatement de la scène publique . Ouv. Précité.

[20] Tchakhotine, Serge . Le viol des foules par la propagande politique. Gallimard, Paris, 1968, p.704.

[21] Lasswell, Harold Dwight. Structure et fonction de la communication dans la société. In Balle. F, Padioleau. J.G, (Dir). Sociologie de l’information, textes fondamentaux. Larousse, Paris, 1971, pp. 31-41.

[22] Cazeneuve, Jean. La société de l’ubiquité : communication et diffusion, Ed. Denoel, Paris, 1972, pp. 38-39.

Cazeneuve. Jean. L’homme téléspectateur. Coll. Médiations, Ed. Gonthier, Paris, 1974, [23]          p. 224.

[24] Cazeneuve, Jean. L’homme téléspectateur. Ouv. Précité.

[25] راجع بخصوص هذه النقطة:

Lazarsfeld, Paul et Alii. Personal Influence. The Part Played by People in the Flow of Mass Communications. The Free Press, Glencoe,1955.

[26] انظر:

Maigret, Eric. Sociologie de la communication et des medias. Armand Colin, Paris, 2003, p. 288.

[27] Mc Luhan, Marshall. Pour comprendre les medias. Bibliothèque Québécoise, Montréal, 1993, p. 59-73.

[28] راجع في نقد أطروحات ماكلوهان:

Mattelart, Armand. La communication-monde. Ed. La Découverte, Paris, 1992, p. 358.

[29] Mc Luhan, Marshall. Pour comprendre les medias. Ouv. Précité, p. 71.

[30] Charron, Danielle. Une introduction à la communication. Les Presses de l’Université du Québec, Montréal, 1991, p. 44.

[31] Katz, Elihu. “A propos des médias et de leurs effets”. In Sfez, Lucien and Coutlée, Gilles (Dir), Technologies et symboliques de la communication, Presses Universitaires de Grenoble, 1990, p. 142.

[32] Babin, Pierre. Langage et culture des medias. Coll. Communication, Presses Universitaires de France, Paris, 1991, p. 18-19.

[33] راجع:

- Max, Alfred. La république des sondages. Coll. Idées, Gallimard, 1981, p.189.

- Champagne, Patrick. Faire l’opinion: le nouveau jeu politique. Coll. Le Sens Commun, Les Editions de Minuit, 1990, p. 303

[34] Lipovetsky, Gilles. Métamorphoses de la culture libérale: éthique, médias, entreprise. Liber, Montréal, 2002, p. 96.

[35] Guillebaud, Jean-Claude. Les médias contre la démocratie. Revue Esprit, n° 190, Mars-Avril 1993, pp. 99-100.

[36] انظر:

Huisman, Denis. “La communication pléthorique”. In Balle. Francis (Dir), Le pouvoir des médias : mélanges offerts à Jean Cazeneuve. Coll. Sociologies, PUF, Paris, 1987, p.183.

[37] راجع:

Flichy, Patrice. Une histoire de la communication modern. Coll. Sciences Humaines et Sociales, La Découverte, Paris, 1991.

[38] انظر في التفاصيل: اليحياوي، يحيى. حدود الإعلام في ظل ثورة الشبكات الرقمية. الرياض:جامعة الملك سعود، 15 و 17 مارس 2009م.

[39] راجع:

Marketing, Léger. La perception des canadiens à l’égard des medias. Rapport, Montréal, 20 Août 2005.

[40]  Noiseau, Étienne. Le documentaire radiophonique : une approche du réel par le son.  Mémoire de fin d’études, Bruxelles, Juin 2003, p. 32.

[41] Wolton, Dominique. Internet et après? Coll. Champs, Ed. Flammarion, Paris, 2000. p. 11.

[42] راجع:

Durand, Jacques.  Les audiences de la radio. Revue Réseaux, Mars-Avril, Paris, 1992.

[43] Tudesq, André-Jean. L’Afrique parle, l’Afrique écoute. Ed. Karthala, Paris, 2000, p. 141 et suivantes.

[44] انظر:

Breton, Philippe. Le culte d’internet: une menace pour le lien social. Coll. Sur le Vif, La Découverte, Paris, 2000, p.125.

[45] راجع:

Castells, Manuel. La galaxie internet. Ed. Fayard, Paris, 2001, p. 365.

[46] راجع حول مسألة المصداقية الإعلامية:

- Bernier, Marc-François. Ethique et déontologie du journalism. Les Presses de l’Université du Québec, Montréal, 2004, p. 408.

- Reporters Sans Frontières. Les journalistes sont ils crédibles?. RSF, Paris, 1991, p. 169.

- Ramonet, Ignacio. Médias en danger. Le Monde Diplomatique, Février 1996.

[47] Bernier, Marc-François. Ethique et déontologie du journalism. Art Sans référence.

[48] Bilger, Philippe. Plaidoyer pour une presse décriée. Ed. Filipacchi, Paris, 2001, pp. 103-115.

[49] Ramonet, Ignacio. Médias en danger. Art. Précité.

[50] Cazeneuve, Jean. Sociologie de la radiotélévision. PUF, Paris, 1996, p. 31-32.

[51] Cazeneuve, Jean. Sociologie de la radiotélévision. Art. Précité, pp. 31-32.

[52] Debray, Régis. Vie et mort de l’image: une histoire du regard en Occident. Ed. Gallimard, Paris, 1994, p. 92.

[53] Bourdieu, Pierre. Sur la television. Raisons d’agir, Paris, 2002, pp. 20-21.

[54] Wolton, Dominique. La télévision au pouvoir. Universalis, Paris, 2004, p. 7.

[55] Bourdieu, Pierre. Sur la television. Ouv. Précité.

- Popper. Karl. La télévision: un danger pour la démocratie. Union Générale d’Edition, Paris, 1998, p. 93.

[56] Fulchignoni, Enrico. La civilisation de l’image. Payot, 1975, p. 25 et suivantes.

[57] Debray, Régis. Vie et mort de l’image. Ouv. Précité, p. 349.

[58] Bourdieu, Pierre. Sur la television. Ouv. Précité, p. 40.

[59] Bourdieu, Pierre. Sur la television. Ouv. Précité, p. 57.

[60]Soulez, Guillaume. La scène morale. Panoramiques, n° 35, 1998, p. 48 et suivantes.

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق