مراجعة الدكتور: عبد الله بن يوسف الجديع، العصر الجينومي: استراتيجيات المستقبل البشري

بسم الله الرحمن الرحيم 

كتاب "العصر الجينومي"[1]

استعراض ومراجعة: د. عبدالله بن يوسف الجديع

 

تأتي هذه المراجعة في سياق برنامج "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية"، ومحل المراجعة كتاب "العصر الجينومي: استراتيجيات المستقبل البشري"، تأليف: د. موسى الخلف، أستاذ علم الحياة الجزيئي والوراثة الطبية في كلية الطب بجامعة الكويت، والذي نشر عام 2003 ضمن: سلسلة "عالم المعرفة" التي يصدرها المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بدولة الكويت، برقم: 294. ويقع في 232 صفحة من القطع المتوسط.

وقد اشتمل الكتاب على اثني عشر فصلًا. وقدم له شخصيتان أكاديميتان، أثنيا على الكتاب في سياق ما أبداه من أهمية لاستثارة المختصين في علوم الشريعة والقانون والاجتماع لإيجاد الصيغ المناسبة للتعامل مع هذا الإنجاز الكبير، مع ثنائهما على الخلفية العلمية التخصصية للمؤلف. كما ذكر المؤلف في تقدمته أنه عرض كتابه على بعض المختصين من علماء الطب والشريعة للإفادة من آرائهم.

ومع أن كتابه طبع عام 2003، فإنه نبه على أن المئات إن لم تكن الآلاف من الكتب والدراسات تحدثت عن نفس موضوع الكتاب، وكان ذلك قريب العهد من تاريخ الإعلان عن التمكن من قراءة الشفرة الوراثية، مما يعطي انطباعًا على أن هذا الرقم التقديري من البحوث، حتى يومنا هذا، مع سرعة التقدم العلمي في هذا المجال الكبير والخطير قد يكون بلغ مئات الألوف من الدراسات، بل والنتائج التي لم تقف عند مجرد الاكتشاف.

 

ومما يمتاز به هذا الكتاب أمور، من أبرزها:

أولًا: سهولة عرض مادته، ووضوح عبارته، وإكثاره من الأمثلة التقريبية والتفاصيل العلمية غير المعقدة، بحيث لا يجد القارئ من عموم المثقفين ومن غير أهل الاختصاص عنتًا في فهمه وتقريب موضوعه، وجاء ترتيب فصول الكتاب منطقيًا سلسًا، تناول فيه تاريخ علم الوراثة حتى حل الشفرة الوراثية وما يتبع ذلك من توقعات مستقبلية إيجابية وسلبية، أبرز ذلك المؤلف من خلال تخصصه، دون أن يُعْنَى بالرأي الفقهي أو القانوني، تاركًا ذلك لأهله (ص: 13). وبالجملة، فإن القارئ سينتهي منه إلى اكتساب مهارة معرفية جيدة لفهم الأبعاد التي تهمه مما يتعلق بعلم الجينوم.

 

ثانيًا: صرح المؤلف في أول الكتاب باعتنائه بفرز التساؤلات أمام صناع القرار من قانونيين وفقهاء ومفكرين لإيجاد الأجوبة المناسبة لهذا الإبداع العلمي، وقد وضع في السياق عددًا كبيرًا من الأسئلة المباشرة وغير المباشرة، تتطلب تفعيل الاجتهاد الفقهي في سياقها، وسن القوانين الملائمة حيالها، ومن أمثلتها:

1 - ما يتعلق بأسرار القراءة الجينية، وهل هي حق شخصي أم عام؟

2 - التعامل مع نوع من خلايا المنشأ والتي سماها المؤلف "خلايا البداءة الأصل المتعددة القدرات" والتي تنتج معظم الخلايا التي يتكون منها الجنين، وفوائدها للإنسان كبيرة جدًّا وهائلة، نالت مشروعية زراعتها عند الدول الغربية نصيبًا وافرًا من المناقشات حتى أقر استعمالها في عدد من دول العالم بعد وضع ضوابط لها.

3 - هل مجرد اكتشاف المرض الوراثي في المرحلة الجنينية والذي لا تبدو آثاره إلا بعد سن متقدمة كأن يعيش الشخص معافى حتى يبلغ الأربعين مثلًا كمرض هنتنغتون (Huntington)، مما يُسَوِّغ عملية الإجهاض، وبخاصة مع إمكان اكتشاف علاج لذلك المرض في يوم ما؟

4 - وحول الاستنساخ، يأمل المؤلف بأن يكون لعلماء المسلمين موقف واضح من عملية استنساخ جسم كامل من غير رأس بقصد توفير قطع الغيار من الأعضاء البشرية (ص: 174).

كما أشار بضرورة الإجابة عن أحكام أخرى تتعلق بحالات ممكنة في موضوع الاستنساخ، كإجرائه للشخص المريض تحاشيًا لانتقال مرضه إلى ذريته، مما يتطلب أحكامًا شرعية في سياق علاقات القربى والنسب (ص: 175-176).

إلى قضايا أخرى، بعضها قد نال نصيبًا وافرًا من الدراسة وتقرير الأحكام، وبخاصة من جهة الأحكام الشرعية، حسب علمي، مثل نفس مسألة الإجهاض، والاستنساخ، والتشخيص الجيني للجنين قبل الولادة.

وأحسب أنه يمكن لمشروع "توطين علم الجينوم في الخليج العربي" أن يقترح صيغة تشريعية دقيقة تجيب عن مجموع الأسئلة المتعلقة بقضايا الجينوم، تجمع بين الجانبين الفقهي والقانوني لتتخطى القضية مرحلة الدراسة إلى تقرير الأحكام، وبخاصة مع وضوح الكثير من القضايا المتعلقة بهذا العلم.

ثالثًا: في سياق ذكر بعض الجوانب المهمة التي تعرض لها الكتاب، فقد نبه المؤلف في مقدمته عن ولادة فرع جديد في الطب هو "العلاج الجينومي"، و"الجراحة الجينومية" غايته الاعتناء بمعالجة معظم الأمراض الوراثية. وتحدث عن خلايا المنشأ الجنينية وما يمكن أن تقدمه من منافع هائلة لمصلحة الإنسان (ص: 141). وأبان عن إمكانية التوصل إلى معالجة مشاكل الشيخوخة وإطالة متوسط عمر الإنسان، وإجراء التحسين الوراثي عليه (ص: 157، 180)، وترقية القدرات البدنية كالشأن في الرياضيين (ص: 78)، والزيادة في مستويات الذكاء والقدرات العقلية (ص: 80، 180).

 

رابعًا: من الإيجابيات المرجوة من هذا الاكتشاف: فهم أسباب معظم الأمراض التي تصيب الإنسان، والعمل على معالجتها وإيجاد العلاج المناسب لكل مريض على حدة (ص: 99)، ويذكر المؤلف اتفاق الجميع على تسخير المعرفة بهذا العلم لاستئصال الصفات المتعلقة بالأمراض (ص: 81). وما هو أبعد من ذلك أن يتهيأ مستقبلًا تزويد كل إنسان ببطاقة شخصية عن حياته وما سيعتريها من العوارض الصحية، بحيث يمكن توقيها والاستعداد لمعالجتها (ص: 198).

ويفصح المؤلف عن التردد الوارد بشأن التغيير الوراثي بهدف تحسين الأداء لدى البشر، ففريق متحفظ يتخوف من أن يسوق ذلك إلى الخروج بالإنسان عن إنسانيته، وإفساد العلاقة التطاوعية بين الروح والجسد، وإبطال التوازن اللازم بين العقل والروح، وكفى به اعتداء على كرامة الإنسان، وخروجًا به عن سنن الله. يقابل هؤلاء من يرى أن استغلال هذا الاكتشاف لتطوير الأداء الإنساني للأفضل أمر سائغ، والتوجه نحوه قادم لا مفر منه، ونقل (ص: 83) عن بعض أصحاب هذا الرأي عبارات جريئة مغرورة على أن الله تعالى خلق الإنسان ناقصًا، وعلينا نحن البشر أن ننفذ إرادة الله لإكمال خلق الكون! سبحان الله القائل: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7].

والمؤلف يتصور أن الفقه الإسلامي سيميل إلى رأي المتحفظين، وأرى أنه أمر في سياق الاجتهاد، وليس من القطعيات، والأصل أن رعاية المقاصد حاكمة على كل تصرف يتعلق بأحوال الإنسان، ولست عند ظن المؤلف، بل في الفقه مرونة كبيرة لاستيعاب هذه القضية بالأحكام الشرعية المناسبة، دون تعطيل استثمار هذه المعرفة لمصلحة الإنسان.

 

خامسًا: ذكر المؤلف جوانب من المحاذير ربما تتولد عن هذا الاكتشاف، من أبرزها:

- استغلال الدول والشركات لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية وتجارية دون اعتبار للجوانب الأخلاقية (ص: 58 - 60).

- استعمال السلاح البيولوجي للقضاء على مجموعة بشرية معينة، فمعرفة خصائص الجينوم لأي عرق يسهل إيجاد العقاقير التي يمكن أن تقضي عليه (ص: 59).

ومما تبع ذلك حديثه (ص: 180) عن التحسين الوراثي الذي أدى بهتلر إلى تعقيم مئات الألوف وما فكر به غيره كتشرشل من الاصطفاء للعنصر النقي وأجاويد الرجال لتكون ثلة من البشر هم المصطفين الأخيار، ما أبان عن العبث في استثمار العلم للتحكم بالبشر، واستعادة عفن الجاهلية في إجهاض الجنين الأنثى، أو وأده بعد الولادة، كالشأن فيما يقع في الهند والصين وسواها، وصدق الله: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 71].

هذا مع أن فكرة التحسين الوراثي ليست منكرة في الإسلام، بل لها اعتبار، وهي مقصد، ولكن مع البقاء في إطار مجاراة السنن الطبيعية واحترام الإنسان.

- أورد المؤلف (ص: 191-192) بعد حديثه عن التعديل الوراثي على مصادر الأغذية من النبات والحيوان، أسئلة تثير الشك في كل ما تم تعديله وراثيًا بالنظر إلى صلاحيته للحياة، وبخاصة مع ما يلازم ذلك من جشع الشركات التجارية، وهي أسئلة مخيفة بمنزلة دق جرس إنذار، توجب الحذر والتحوط، وتحمِّل جهات اتخاذ القرار مسؤولية عواقب مخاطر ذلك.

 

سادسًا: في سياق حديث المؤلف عن التحسين الوراثي (ص: 184) فإنه استحث علماء الشريعة والقانون للمسارعة إلى مواكبة سرعة التطور في هذا العلم، وأن يكون دورهم حاضرًا في توجيه مساره والنئي به عن العبث ، وبخاصة والشأن كما قال (ص: 186): "إن التجارب الحقيقية في مجال التحسين الوراثي للإنسان لما تبدأ بعد؛ لأن ذلك غير ممكن حاليًّا، وذلك لعدم توافر التقنيات الملائمة للتجريب على الإنسان، ولا تزال التكهنات التي تتحدث عن التحسين الوراثي للإنسان تراوح مكانها ولا تخرج عن نطاق الآمال، إن لم نقل: إنها لا تزال مجرد أفكار خيالية". بل إنه أبان (ص: 193-194) عن صعوبة وصول الإنسان إلى هذه الغاية بنجاح، بما يشبه الاستحالة.

 

سابعًا: وجَّه المؤلف بضرورة إعادة النظر في بعض الأوضاع الاجتماعية التي اعتادت عليها بخاصة المجتمعات العربية في ظل التقنيات الحديثة، وأن لا تكون العادات والتقاليد حائلة دون المضي في البحث وتفعيل الاجتهاد في إطار الشريعة والقانون وفي سياق الأخلاق؛ لاستثمار الكشف العلمي على أحسن وجه لصناعة مستقبل أفضل.

وفي هذا السياق نصح بالاستشارة الوراثية، وأن تقدم النصيحة بشكل واضح للعائلة من قبل مختصين، وأن ينصح جميع الأفراد المتصلين بالشخص موضوع الاستشارة بإجراء الفحص، وأخذ التدابير لتلافي أي آثار تابعة لمشكلة وراثية، كما نصح باتقاء الزواج في إطار الأقارب إذا تبين وجود أي مرض وراثي في العائلة (ص: 100-101).

 

ملاحظات نقدية على الكتاب، أجملها فيما يلي:

أولًا: يصرح المؤلف وآخرون نقل عنهم وغيرهم ممن تحدث عن هذا الإنجاز، أن الكشف الجينومي له خطورته الكبيرة على مستقبل الجنس البشري في حال إطلاق العنان لاستعماله دون قيود، حتى وصفه بعضهم بالقنبلة، وأنه ربما انتهى إلى إفناء البشرية (ص: 12).

ولا ريب أن ذلك يعتبر إنذارًا مبكرًا من قبل المختصين الذي أدركوا ما يمكن أن ينتهي إليه هذا العلم من المخاطر التي قد تنقض على القيم والأخلاق والسلوكيات حتى تزيل عن الإنسان صفة الإنسانية، الأمر الذي يوجب الاعتراف بأن العلم التجريبي لا يقي بمجرده من المخاطر، بل يصبح بيد صاحبه وسيلة تتحكم فيها المقاصد والإرادات ذاتها، وحيث إن الخير مركوز في الإنسان، فكذلك الشر، وهو في الحالين قد يستعمل الوسائل المشروعة بأصلها لتحقيق ما هو مركوز فيه، وعليه فإنه لا يتصور لهذا الكشف العلمي أن يكون وسيلة محققة لخير الإنسان فقط، وهنا يأتي دور القوانين والشرائع التي جاءت بالحكمة والعدل لتضبط مسار استثمار هذا العلم.

 

ثانيًا: وضع المؤلف تصورًا لما يربط العرب ببعضهم، فجعل سكان بلاد الشام جميعًا ينتمون إلى مجتمع واحد، ومثله سكان الخليج وشمال إفريقيا، وأن مصر هي المنطقة الخليطة بالوشائج، ويقول (ص: 58): "أرى أن ما حصلنا عليه من معلومات حديثة سيؤكد علميًا أن هذه الأمة أمة واحدة"، ثم يردف (ص: 59) قائلًا: "هناك دلائل كثيرة تشير إلى أن هذه الصفات الجينية التي تميز كل عرق أو عشيرة على حدة قد تستخدمها بعض الدول العدوانية، وفي مقدمتها إسرائيل، للقضاء على بعض المجموعات البشرية بشكل اصطفائي".

في رأيي، أن مثل هذه التصورات لا تليق بالعلم القطعي الذي يقوم على البرهان، بل إن المؤلف بمثل هذه الأفكار يورد الشكوك في مصداقية هذا العلم، ولا أحب أن أجد ذلك في نفسي، وأنا أدرك أنه علم يقوم على البحث الدقيق، واستخلص منه الباحثون النتائج المذهلة، ويبنى على التقدم فيه الكثير من الآمال.

فما ذكره عن الأمة العربية، لا يستقيم مع التاريخ الذي يخبرنا بما لا يدع مجالًا للشك أن العرب بمسماهم اليوم وتوزيعهم على البقعة الجغرافية العربية ينتمون إلى أعراق مختلفة وقبائل شتى وشعوب متنوعة، وإن صح أن ينضبط ما ذكره المؤلف في حق قبيلة معينة - على شك كبير في تفاصيل هذا - فإنه لا يمكن انضباطه على مستوى الأمة المسماة جغرافيًا بالعربية.

وما ذكره عن سهولة تمكن العدو من استعمال السلاح البيولوجي لإفناء عنصر بشري، فهو وإن كان له سابقة هتلرية، ولكن التمثيل له بإسرائيل بما تفعله بالعرب تمثيل بارد، وبغض النظر عما في هذا من المبالغة، فإن فيه تعريضًا لهذا الاكتشاف للهشاشة، فإن العالم محتاج أولًا أن يستعمله في العلن ليخفف من آلام شعوب الأمم الغنية والمتقدمة قبل أن تجعل منه إسرائيل سلاحًا تفني به الشعوب العربية، إنها فكرة المؤامرة التي أرهقت العقل العربي.

 

ثالثًا: يقترن بالحديث عن إنجاز الكشف الجينومي الأمل بإيجاد مجتمع خال من الأمراض (ص: 83). والمؤلف نفسه (ص: 107) وهو يتحدث عن تأثير البيئة في الجينات وتفاعلها معها يذكر ما يقدح تمامًا في هذا التصور، حيث ذكر ما عبر عنه بتوالد الجينات، وهو ما يسبب ظهور أمراض جديدة. كما قال (ص: 128): "إن أحدًا لا يستطيع أن يضمن أو يؤكد حتى لو استطاع الإنسان استئصال جميع الأمراض الوراثية التي نعرفها حاليًّا، أنه لن تظهر أمراض جديدة لم يعرفها التاريخ البشري".

هذا يجعل من ذلك الأمل مظنة، وهي وإن كانت مرجوة، ولكنها مثالية مشكوك فيها، علمًا بأن استمرار السعي في هذا المجال لتحقيق العافية المطلقة لبني البشر، ليس ثمة ما يمنعه لا واقعًا ولا دينًا، بل ينبغي أن يكون مقصودًا، لكن لا نحتاج أن نطير بالآمال فوق الغمام، فما تلك بواقعية مناسبة للعلم.

ويزيد في إضعاف الأمل بهذه المثالية أن سنة الابتلاء بالعلل التي تصيب البشر لا تتعطل قدرًا، ولكنها يمكن أن تقل بفضل ما يفتح الله عز وجل به على الإنسان من الكشوف العلمية ما يمكنه أن يعالج به كل الأسقام حتى ينقرض معظمها أو يكاد، وصح أن بعض الناس سألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أَنَتَدَاوَى يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَإِنَّ اللهَ لَمْ يَضَعْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَاءً إِلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً غَيْرَ دَاءٍ وَاحِدٍ‏»". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا هُوَ؟ قَالَ: "الْهَرَمُ‏".

 

رابعًا: تحدث المؤلف (ص: 61) عن دور المورثات في التكوين الشخصي، ونقل عن بعض المختصين أن المورثات ليس لها أثر مهم على الصفات الشخصية والجانب النفسي، كالإبداع والحكمة والجدية والإخلاص والعدوانية، وعن فريق آخر يعتقد أن لها أثرًا مهمًا في ذلك، ومال إلى الرأي الثاني واستدل له بمثال لأخوين توأم، ولم يبد لي أن المثال المضروب دقيق وكاف للتدليل به.

وأتساءل: إلى تاريخ كتابة هذا الكتاب لم تتضح ملامح هذا الجانب، فهل تُرَى انتهت دراسات وبحوث الجينوم إلى تأكيد أي من التوجهين؟

على أن المؤلف ذكر (ص: 63) ما يفيد أن المورثات تتمتع بالمرونة بحيث يكون للبيئة الخارجية التأثير فيها، أي حسب رأيي: لا تعني الجبرية القدرية، وهذا يتفق مع دلائل الشريعة بهذا الخصوص في إثبات الاختيار والابتلاء بالتكليف، والمؤلف اعتنى لاحقًا في الكتاب بتقرير تأثير البيئة في فصل كامل، وهو مهم جدًّا (ص: 105).

وإذا اتضح هذا، أجاب عن تساؤل ذكره المؤلف (ص: 102، 119) في حق أولئك الذكور الذين يحملون صبغيًّا إضافيًّا من (Y) يجعلهم ميالين للجريمة، واستدل له بمثل ضربه لاختبار أجري للسجناء في أكثر من بلد، ومن ثم تساءل: لو نظرنا إلى أن دافع الجريمة هو وجود هذا الصبغي، فهل نعد هذا الشخص مريضًا، وعليه فتخفف عنه الأحكام قضاءً؟ أم يعامل كسواه من الأسوياء إذا واقعوا جريمة؟

 

خامسًا: يؤخذ على المؤلف أنه استرسل (ص: 187- 188) وهو يتحدث عن التحسين الوراثي بسرد أحاديث تنسب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لبيان اعتناء الإسلام بهذه القضية، وهي أحاديث بعضها يصح وبعضها لا يصح بل هو كذب موضوع، وهو معذور فليس هذا من فنه، ولكن ما قصده في تأييد الفكرة لا تردد في صحته من حيث الجملة.

 

سادسًا: خلا الكتاب من أي اعتناء بالحديث عن الجانب الروحي والنفسي وعلاقة ذلك بعلم الجينوم، واقتصر على الجانب المادي الحسي فيه وما يتصل به، وهذه نقطة حرجة في هذا السياق، وعلى المختصين أن يبينوا الحد الفاصل بين الروح والجسد في قراءة لغة الجينوم، وهل حل الشفرة يقتصر على الجسد الحي دون الروح، أم يشملهما جميعًا؟

وفي سياق ما قرأته من دراسات في سياق هذا العلم، بدا لي أن هناك ضرورة شديدة إلى تحديد ما يعود من الصفات مجردًا إلى البدن، وما يعود منها إلى الروح، وما يمكن أن يمتزج منهما، كذلك ما يكون منها كونيًّا مَحْضًا ثابتًا أو مَرِنًا، وما يكون منها كسبيًّا، ثم بيان دور قراءة لغة الجينوم في مسار ذلك.

وإذا كان التشابه بين جينوم الإنسان والشمبانزي قد يفوق نسبة 99.8% على ما ذكره المؤلف (ص: 78)، ومع ذلك فالتميز بين الجنسين قطعي، فالجانب الذي فضل الله عز وجل به الإنسان عن الحيوان قد ينحصر في تلك الجزئية المتبقية من النسبة، وقد يكون خارجًا تمامًا عن تلك النسبة، وعندئذ يكون الجينوم لا علاقة له إلا بالجسد، وينحصر دوره خارج الجسد في استعداده لقبول الصفات غير الحسية مما يتعلق بشخصية الإنسان، وبخاصة تلك المكتسبة المتعلقة بالإرادة، كالعلم والإيمان والسلوك والأخلاق.

ومما قد يساعد في هذا السياق أن المؤلف ذكر (ص: 86) أن التشخيص الجيني يمكن أن يتم في أي مرحلة من مراحل الحياة أثناء الحمل وبعده، وهذا قد يعطي تصورًا فاصلًا في قضية تعلق الجينوم بالروح من عدمه، فإن قراءة الخريطة الجينية للحمل قبل مدة نفخ الروح، أي بلوغه (120 يومًا) والتي هي قضية خبرية في الإسلام لا مجال فيها للاجتهاد، فهذا يعني أن تلك الخريطة متعلقة بالجسد واستعداده للروح وتوابعها.

سابعًا: من المآخذ العلمية، أن المؤلف وهو يتحدث عن الاستنساخ مَثَّل بشخصية المهدي المنتظر، ونسب الاعتقاد في طول مكثه لكل المسلمين، وأشار إلى خلاف بين السنة والشيعة في شخصيته، ولكن يتفق الجميع على أن بشرًا هو المهدي تستمر حياته آلاف السنين، وسنراه عند قيام الساعة (ص: 173).

كم تمنيت لو أن المؤلف لم يتقحم مثل هذا، فيقع في الخطأ القاطع، فإنه لا يوجد في أهل السنة من يؤمن بمهدي غائب وهو حي تمر عليه ألوف السنين ثم يخرج، بل من ذكر موضوع المهدي من متأخري أهل السنة فإنهم ذكروا رجلًا مصلحًا يولد كما يولد الناس، وإنما الغيبة وطول المكث اعتقاد الشيعة الاثني عشرية.

 

ثامنًا: قرر المؤلف خطورة استعمال بعض التقنيات الحديثة للتكاثر البشري، كالاستنساخ (وعقد له فصلًا مستقلًّا جميلًا، ص: 167)، وأنه يمثل مخاطرة لا تُدرى آثارها على أصل التنوع البشري، فالله تعالى خلق كل إنسان مستقلًا بذاته فريدًا لا يتطابق مع سواه في تركيبه الوراثي (ص: 105). كما تحدث عن ذلك أيضًا أثناء بيان أهمية خلايا المنشأ، وأن زرع ما سماه "خلايا البداءة الأصل الكاملة القدرات" هو في سياق الإمكان، ولكنه محذور في حق الإنسان لما سيخلفه من مخاطر على مستقبل البشر (ص: 146)، وشكَّك المؤلف في جدوى الاستنساخ (ص: 169)، ثم في هذا السياق أقحم (ص: 172) إنكار الإسلام فكرة الخلود في الدنيا، مع ما أبداه بوضوح أن الاستنساخ ليس إعادة ذات الشخص المستنسخ من كل وجهٍ.

وأقول: إذاً لا معنى لهذه المسألة من أصلها، فالخلود في الدنيا لا يكون لبشر البتة وإن طمع فيها الإنسان، فذلك مستحيل، وسعيه فيه وراء سراب، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ. كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [الأنبياء: 34-35].

 

وأخيرًا:

فإن المؤلف تحدث كثيرًا عن فكرة التعديل الوراثي، وفي سياق الكتاب مواضع يشير بها إلى شدة المخاطرة بالمستقبل البشري في حال تُرِكَ الأمر لطموحات الباحثين لتنتهي إلى التصرف بالجينات البشرية، فحين يكون ما تم اكتشاف وظيفته من الجينات البشرية بحدود 25% حتى تاريخ مايو 2003، وأن 75% لم تزل وظيفته مجهولة (ص: 53). وأن DNA الإنسان يحتوي على نسبة عالية من المناطق الصامتة تبلغ نسبتها 97% وهذه المناطق تحتوي على نسبة 46% من مساحة الجينوم لا يعرف لها حتى تاريخ الكتاب وظيفة واضحة. وإذا كان تغيير حرف واحد من حروف اللغة الجينومية عن مكانه ربما سبَّبَ هلاك الإنسان، وأن فهم عمل المورثات بشكل كامل ربما يستمر عشرات أو مئات السنين (ص: 63-64). وأننا كنا أميين لم نكن نعرف اللغة الجينومية قبل عام 2001، وعندها فقط تعلمنا قراءتها دون فهمها، وذلك لما تمتاز به من التعقيد، وعجز التقنيات التي توصل إليها الإنسان عن فهمها. كما يصرح بذلك المؤلف (ص: 74)، أتساءل: كم تُرَى يجعل وجود هذا القدر الهائل من الغموض والمجهول من المخاطرة للإقدام على التصرف بالجينات؟ إن غاية علم الإنسان في هذا المجال هو التجربة، والتي لم يزل معظمها على الحيوان، أفلا يُخشى أن ينقلب أي تطبيق على الإنسان بنتائج عكسية لما يقصده؟ وتعظم المخاطرة حين يُستحضر أن أي تعديل وراثي فإنه سيتم توارثه من قبل الأجيال المقبلة من نسل ذلك الإنسان المعدَّل!

وإنصافًا لمن يتحدث عن علم الجينوم وما يمكن أن يقدمه للبشرية من الخير، كالمؤلف، فإن هؤلاء ومن منطلقات أخلاقية تحدثوا عن خطورة استغلال هذا العلم في سياقات قد تأتي على تغيير مستقبل البشر نحو الأسوأ.

وزَعْمُ أن ينتهي علم الجينوم إلى وضع أفضل للإنسان مما كان عليه فيما مضى من تاريخ البشرية، هو في رأيي ضرب من الغرور، ولو أن هذا الاكتشاف استعمل لكشف ما اعترى البشر من الخلل، وما يقع لهم من الأمراض والعلل، وعمل على إعادة الأمور إلى نصابها، فربما كان عندئذ استعمالًا للعلم في سياقه، فأصحاب الديانات السماوية يؤمنون بمسلمات عقدية لا يحيط بمعظمها علم الإنسان إلا عن طريق خبر السماء، أن الإنسان القديم كان أقوى في القدرات البدنية والعقلية من إنسان اليوم، وإذا كان علمنا لم يحط بتفاصيل حياة ذلك الإنسان، فلا يسوغ أن ننكر الممكن بمجرد الاغترار بما توصلنا إليه، فعمر نبي الله نوح، وقصة أصحاب الكهف، وما أوتيه سليمان، وصاحب عرش بلقيس، ومولد المسيح، وقوة قوم عاد، وأمثلة كثيرة تنبئ عن سَبْقِنا بحقائق كانت فوق الخيال.

وأحسب أنه يجدر بالمعتنين بالدراسات في هذا الشأن أن يَدَعُوا المبالغات في الحديث عن إمكانية ما قد تنتهي إليه بحوث الجينوم، كالحديث المثالي والذي يشبه خيال الأساطير في قضية الاستنساخ، والإنسان الخارق والمدمر، وغير ذلك مما يشبهه، فالتهويل يضعف المصداقية، والحقائق العلمية التي انتهى إليها هذا العلم جديرة بالاحترام، هذا مع إطلاق العنان للبحث العلمي، فكل ما هو ممكن وتنجح فيه التجارب ليكون حقيقة وفي سياق نفع متحقق متيقن للبشرية، فلن تحول دونه شريعة.

 

[1] تمت كتابة هذ البحث في إطار المشروع البحثي "توطين علم الجينوم في الخليج العربي: سؤال الأخلاق الطبية الإسلامية (Indigenizing Genomics in the Gulf Region (IGGR): The Missing Islamic Bioethical Discourse)" بتمويل من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي والمسجل برقم NPRP8-1620-6-057. علما بأن المسؤولية عن البيانات الواردة هنا تقع بالكامل على عاتق من قام بتأليف البحث.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق