مقاربة أخلاقية ثقافية للتعامل مع الأزمة البيئية

الدكتور عبد المجيد النجار*

[ تم تقديم هذا البحث كمحاضرة رئيسية في مؤتمر مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق المنعقد بالدوحة في 23 مارس 2019]

 

بسم الله الرحمن الرحيم

تمهيد

تعاني الإنسانية من أزمة بيئية هي أمّ الأزمات جميعا؛ ذلك لأنها لو تمادت في التفاقم على النسق الذي هي عليه فإنها تنذر بمصير محتوم هو نهاية الحياة على وجه الأرض، إذ سيختلّ توازنها البيئي بانقراض أنواع كثيرة من الحيوان والنبات، وستغمر اليابسة منها البحار نتيجة الاحترار الذي يذيب القطبين المتجمدين، وستتوالى المصائب تباعا حتى تنقرض الحياة.

وحينما نتأمّل في الأسباب الحقيقيّة التي أفضت إلى الخلل البيئي الذي أحدثته بالأساس الثّورة الصّناعيّة، فإنّنا نُلفي تلك الأسباب لا تتعلّق بذات تلك الثّورة من حيث هي نشاط إنسانيّ من أنشطة التّعمير، ولا هي متعلّقة بذات أيّ نشاط آخر من أنشطة التّعمير في الأرض التي يمارسها الإنسان في البيئة، فما وُجدت هذه البيئة إلاّ ليمارس عليها الإنسان أنشطة التّعمير، وإنّما نُلفي تلك الأسباب تضرب بجذور عميقة في البنية الثّقافيّة الأخلاقية للإنسان من حيث التصّور الثقافي للبيئة والتعامل الأخلاقي معها، فذلك التّصوّر الثّقافي هو الذي يكيّف التّصرّف الإنساني في البيئة، ويوجّه ذلك التّصرّف سواء كان متمثّلا في ثورة صناعيّة أو في غيرها من الأنشطة الوجهةَ التي يكون فيها مُخلاّ بالبيئة أو غير مخلّ، وإذن فإنّ الفكر البيئي حينما تصدّى للبحث في قضايا البيئة لمّا استشعر الإنسان أخطار الدّمار كان من حقّه أن يجعل أساس تلك القضايا القضيّة الأمّ التي هي قضيّة التّصوّر الثّقافي الأخلاقي للبيئة، ولكنّنا وجدناه في الغالب يعدل عن القضيّة الأصل إلى قضايا الفروع.

إنّ كلّ تصرّف إنسانيّ في البيئة إنّما تكون آثاره فيها صلاحا وفسادا محكومة بتصوّره الثّقافي الأخلاقي في عنصرين أساسيين: أوّلهما التّصوّر الثّقافي دينيّا أو فلسفيّا لحقيقة البيئة في ذاتها مـن حيث وضعها الوجودي ضمن منظومة الوجود العامّ وعلاقتها بأطراف تلك المنظومة في مأتاها ومصيرها وسيرتها بين المأتى والمصير. وثانيهما، التّصوّر الثّقافي الأخلاقي لعلاقة الإنسان بالبيئة من حيث الائتلاف والاختلاف بينهما، ومن حيث تبادل الأثر والتّأثير فيما هو كائن وفيما ينبغي أن يكون، فهذان التّصوّران الثّقافي والأخلاقي لحقيقة البيئة ولعلاقة الإنسان بها هما الموجّهان الأساسيان لكلّ أثر إنسانيّ في البيئة من جرّاء ما يمكن أن يكون لمساعيه فيها من صلاح أو فساد.

وعلى صعيد الواقع فإنّ الآثار المُخلّة بالبيئة التي أحدثتها الثّورة الصّناعية لم تكن في مجملها إلاّ بسبب التّصوّر الثّقافي الأخلاقي المتعلّق بذينك العنصرين، وهو الذي كان تصوّرا لصانعي تلك الثّورة منذ بدايتها إلى مبلغ ذروتها، وذلك ضمن التّصوّر الثّقافي العامّ المنطبع بالطّابع المادّي الذي قامت عليه الحضارة الغربية الرّاهنة، فالمنزع المادّي لذلك التصوّر في عمومه هو الذي وجّه التصرّف الإنساني الوجهة التي أحدثت بها هذه الآثار الضاّرّة بالبيئة. وتبعا لذلك فإنّ البحث عن الحلول لتعديل مسيرة الدّمار البيئي كان حقّه أن يتّجه بالأساس إلى تعديل ذلك التّصوّر الذي أفضى إلى المشكلة في اتّجاه المجال الثقافي الأخلاقي، وبذلك تكتمل القضايا ‎‎التي انشغل بها الفكر البيئي وتتكامل عوض أن تقتصر على وجه واحد هو الوجه الإجرائي المادّي المنصبّ على الآثار لا على الأسباب.

 

أولا ـ  مشكلة البيئة

سجّل التاريخ في السّجلّ البيئي مشاكل بيئيّة عديدة بعضها أخذ حجم الكوارث كتلك التي انقرضت من جرّائها أنواع كثيرة من مظاهر الحياة المتقدّمة مثلما وقع للدّينصورات، وهي مشاكل حدثت بأسباب طبيعية ناشئة من داخل الكرة الأرضية أو من خارجها. ولكنّ مشكلة البيئة التي نعنيها في هذا الصّدد هي المشكلة الـتي كان للإنسان نفسه دور في نشوئها جرّاء تصرّفاته المختلفة على المسرح البيئي، من حيث إنّ البيئة مُعَدَّة أساسا لإنماء حيا.ته ولإقامة العمارة عليها.

وقد بدأ الإحساس بتلك المشكلة بصفة واضحة أفزعت الإنسان ودقّت له ناقوس الخطر منذ ما يقارب خمسة عقود، فدخلت إذن في تفكيره البيئي بشكل عميق، بل أصبحت مركز ذلك التّفكير وموجّها له، وتبعا لذلك فإنّ تشخيص هذه المشكلة في مظاهرها وخاصّة في أسبابها سيكون له الأثر البالغ في توجيه الفكر البيئي عامّة، إذ ذلك التّوجيه سوف ينحو منحى المعالجة لتلك المشكلة وآثارها، وهو ما يتوقّف إلى حدّ كبير على تشخيص أسبابها. وفي هذا الصّدد نقف في الفكر البيئي على قصور بيّن من حيث تقدير الأسباب المفضية إلى مشكلة البيئة، وهو ما انعكس أيضا قصورا في مسالك العلاج التي توجّه الفكر البيئي في تقريرها. وذلك ما يدعونا تاليا إلى وصف مشكلة البيئة في مظهرها وأسبابها تمهيدا لمراجعة جدية لتلك الأسباب في اتجاه المقاربة الثقافية الأخلاقية لعلاجها.

 

1 ـ  مظاهر المشكلة البيئيّة

تتفرّع المشكلة البيئيّة إلى فروع عديدة قد لا يتأتّى في هذا المقام الإتيان على بيانها كلّها، ولكنّ هذه الفروع تلتقي كلّها عند مفاصل مشتركة يمكن بالوقوف عليها بيانا وشرحا الوقوف على مجمل المشكلة في فروعها. ويمكن القول في سبيل ذلك البيان إنّ مشكلة البيئة في عمومها تتمثّل فيما أحدثه الإنسان في البيئة من خلل يعطّل أداءها الطّبيعي في حفظ الحياة وتنميتها، وذلك بما يمارسه فيها من نشاط متعدّد الوجوه يفضي إلى ذلك الخلل المعطِّل.

وحينما نتأمّل علاقة الإنسان بالبيئة باعتباره فردا من أفرادها، فإنّنا نجده مثل أيّ كائن آخر ترتبط علاقته بها ضمن محورين أساسيين هما: الانتفاع بمقدّرات البيئة، وطرح ما ينتج عن ذلك الانتفاع من فضلات، فمن خلال هذين المحورين يتمّ لكلّ كائن بيئيّ حيّ انخراطه في الدّورة البيئيّة العظمى، ولكنّ سائر الكائنات الحيّة الأخرى تنخرط في تلك الدّورة على هذين المحورين بتلقائيّة لا تغيّر من نظامها شيئا، وأمّا الإنسان فإنّه بما مُكّن منه من إرادة حرّة استطاع أن يتصرّف على ذينك المحورين بما تجاوز الحدود العادية التي تتصرّف بها سائر الكائنات، فأحدث تجاوزه ذلك خللا في النّظام البيئي هو المعبّر عنه بالمشكلة البيئيّة أو الأزمة البيئية. ويمكن إذن أن تكون المفاصل الكبرى لتلك المشكلة متمثّلة في ثلاثة عناصر أساسية تتعلّق بتعامل الإنسان مع موارد البيئة، وما نتج عن ذلك من فضلات، وما نتج عن هذا وذاك من خلل في التّوازن البيئي، وذلك ما نبيّنه في العناوين التالية مع الإشارة إلى أنّ هذه العناصر متداخلة فيما بينها، والفصل بينها إنّما هو فصل منهجي لا يعكس الحقيقة الواقعيّة.

 

أ ـ  استنزاف الموارد البيئية

يُقصد بالموارد البيئيّة " كلّ موجود في البيئة الطّبيعيّة ويعتمد عليه الإنسان في حياته ولسدّ حاجاته ومتطلّباته" [1]، ويُقصد باستنزاف الموارد العمل على استنفاد تلك الموارد حتى اختفائها أو تقليل قيمتها في أداء دورها العادي في شبكة الحياة بأيّ طريقة كان ذلك الاستنفاد أو التّقليل من قيمة الأداء، فكلّ كائن حيّ يستهلك من موارد البيئة ما يقيم به حياته، ومجمل الكائنات الحيّة غير الإنسان لا تأخذ من تلك الموارد إلاّ مقدار ا يناسب ذلك الغرض فلا يصيب موارد البيئة بالاستنزاف ممّا يربك الدّورة البيئيّة، ولكنّ الإنسان هو الكائن الحيّ الوحيد الذي يستهلك من الموارد البيئيّة ما يفوق حاجته الحقيقيّة في حفظ حياته وتنميتها، فيصيب بذلك تلك الموارد باستنزاف يُخلّ بالتّوازن المتحقّق بين مكوّنات البيئة، ممّا يسبّب اضطرابا في النّظام البيئي، وهذا هو الوضع القائم في علاقة الإنسان بالبيئة منذ بعض الزّمن، فهو في سبيل تحقيق رغباته من الغذاء والكساء والسّكن والتّرفيه يستهلك من موارد البيئة أكثر بكثير من حاجته الحقيقيّة التي في نطاقها يُحفظ التّوازن البيئي، وهو ما أصاب ذلك التّوازن بالفعل بالاضطراب، وكان مظهرا من مظاهر المشكلة البيئيّة الراهنة.

ويبدو استنزاف الإنسان لموارد البيئة في مظاهر متعدّدة بتعدّد شـهواته التي يسعى إلى إشباعها، ويستفحل الاستنزاف في تلك المظاهر بقدر ما يستشري الشّره إلى إشباع تلك الشّهوات، إذ كلّ إشباع لشهوة بما هو زائد على الحدّ لا يتحقّق إلاّ باستهلاك لمورد بيئيّ بما هو زائد على الحدّ أيضا، وينتهي الأمر إلى إرهاقٍ لذلك المورد يفضي بالتّالي إلى الاضطراب البيئي.

ومن مظاهر الاستنزاف لموارد البيئة الاستهلاك المفرط في المعادن على اختلافها لإقامة صناعات استهلاكية تفوق في كثير من الأحيان حاجة الإنسان لترضي شرهه في إبدال الموضة القديمة من الأدوات المنزلية والآلات التّرفيهية وغيرها بموضة جديدة على نحو ما يشهد به كلّ صباح ما يطرحه في الشّوارع سكّان كثير من المدن الغربية من تلك الأدوات والآلات التي ما تزال صالحة للاستعمال ولكن استهجنت لشكلها أو لونها أو نمطها، فطُرحت في القمامة لتُستبدل بأخرى أحدث منها موضة وأجمل ملمحا، وليُرهق بذلك إرهاقا المخزون البيئي من معادن الطّبيعة  .[2]

وكلّ إفراط في استهلاك المعادن يؤدّي حتما إلى إفراط في استهلاك موارد الطّاقة سواء كانت أحفورية مثل البترول والفحم أو ظاهرية مثل الخشب، فالمعادن تحتاج إلى الصّهر والتّصنيع، وإذا ما صُنعت أدواتٍ وآلاتٍ فإنّها تتطلّب تشغيلا وإدارة، وكلّ ذلك لا يتمّ إلاّ باستهلاكٍ ومزيدٍ من الاستهلاك لموارد الطّاقة. ويُضاف إلى ذلك ما يتمّ من استهلاك لتلك الموارد ممّا تتطلّبه مرافق الحياة الأخرى الضّرورية والتّرفيهية الجارية هي أيضا في كثير من الأحيان على نسق من الإفراط، لينتهي الأمر إلى وضع تقترب فيه موارد الطّبيعة من الطّاقة غير المتجدّدة على النّفاذ، حيث أصبح المتبقّي منها يقدّر بالقليل من السّنوات.

واستنزاف المورد الحيوي من موارد الحياة متمثّلا في المياه أمر مشهود، فهذا المورد سواء كان في باطن الأرض أو على ظاهرها يتعرّض لإتلاف خطير، وذلك بالاستهلاك الصّناعي المفرط الذي يسحب الماء من مورده فراتا ليلقي به نفاية مسمومة في المجاري والأنهار والبحار، وبالاستهلاك الزراعي الذي يتجاوز أضعافا الحاجة الزّراعية الحقيقيّة بإهدار المياه في زراعات غير مفيدة للإنسان أو باستعمال أساليب مستهترة في الرّيّ تضيع بسببها كمّيات كبيرة من مياه الرّيّ هباء، وبالاستهلاك المنزلي الذي تُتلف فيه الكمّيات الكبيرة من المياه على الأغراض التي تكفيها الكمّيات الصّغيرة بل على الأغراض التّافهة في كثير من الأحيان، وبهذا الاستهلاك المفرط كلّه لمورد المياه آل هذا المورد إلى الشّحّة بل أوشك على النّضوب، وأصبحت الحروب المقبلة بين بني الإنسان مرشّحة لأن تكون متمحّضة لسبب التّدافع على ما تبقّى من مورد مائيّ شحيح  .[3]

وكما يتمّ استنزاف المكوّنات الجامدة للبيئة على النّحو الذي وصفنا يتمّ أيضا استنزاف المكوّنات الحيّة التي هي مورد الغذاء وكثير من مرافق الحياة الإنسانيّة الأخرى. فالغطاء النّباتي الذي يكسو وجه الأرض وخاصّة الغطاء الغابيّ منه يتعرّض لإبادة متواصلة  تُقدّر بما يعادل مساحة ملعب لكرة القدم كلّ ثانية ، حتّى انقرضت بذلك غابات كثيرة من وجه الكرة الأرضية وتسير غابات أخرى في طريق الانقراض[4]، وتتعرّض في نفس السّياق الكثير من الفصائل النّباتية إلى الانقراض، إمّا بسبب الاستهلاك المفرط، وإمّا بسبب التّدخّل الإنساني بالهندسة الوراثية لتلك الفصائل بدعوى تحسين إنتاجها، ممّا يفقدها نظام المناعة الطّبيبعي الذي اكتسبته عبر ملايين السّنين، فتعصف بها إذن الآفات المختلفة فتؤول إلى الانقراض، علما بإنّ تلك النّباتات التي تُستنزف يؤول كـثير منها بعدما يُصنَّع إلى أكوام  من الأوراق تشبـه  الجبال لا تحمل إلاّ ضروبا من توافه الصّور والكتابات التّرفيهيّة، ويذهب كثير آخر منها في صناعة سلالٍ لوضع القمامة وضروب من الأثاث الرّخيص كما عبّر عن ذلك وزير البيئة البرازيلي معلّقا على ما تتعرّض له غابة الأمازون من استنزاف هائل  .[5]

ولا يقلّ الاستنزاف الذي تتعرّض له الكائنات الحيوانيّة عن الاستنزاف  الذي تتعرّض له الكائنات النّباتية، بل لعلّه أكثر استفحالا وسوءا، فالمخزون البروتيني الحيواني يتعرّض لتقلّص كبير من جرّاء إهماله والاستعاضة عنه بالبروتين النّباتي الأيسر إنتاجا من جهة، ومن جرّاء الاستنزاف الاستهلاكي من جهة أخرى، فقد فُقدت حيوانات كثيرة أهليّة وبرّيّة بفقدان مكالئها التي حُوّلت إلى مزارع نباتية أو آلت إلى التّصحّر، كما انقرضت أنواع كثيرة من الحيوانات البرّية والبحريّة الهامّة  قُدّرت أعدادها على مدى قرنين من الزّمن بالمئات، وذلك في الغالب نتيجة لتدخّل الإنسان إماّ بالتّلويث البيئي، أو بالاستهلاك المفرط، أو بلهو الصّيد، أو بترف التّزيّن بالفرو والعاج وما شابهها من ضروب التّصرّف .

 

ب ـ  التّلوّث البيئي

كلّ استهلاك لمورد بيئيّ من قِبل كائن من كائنات البيئة ينشأ عنه فضلة تُطرح فيها، ذلك قانون من قوانين البيئة تبدو به في معرض ما رُكّبت عليه كلّ الكائنات الحيّة من طبيعة استهلاكية كأنّما هي في وجه من وجوهها دورة متكاملة من الاستهلاك وطرح الفضلات. وحينما يكون استهلاك الأحياء في حدود حاجاتها الحقيقيّة لإقامة حياتها، فإنّ فضلاتها التي تطرحها تكون بمقدار ما تستطيع البيئة أن تستوعبها بآليات تحليل وتصفية طُبعت عليها، فتستمرّ الدّورة البيئيّة طبيعيّة لا يشوبها تلوّث، وتلك كانت سنّة البيئة طيلة تاريخها.

ولكنّ الإنسان بما أصبح منذ بعض الزّمن يستهلك من الموارد الطّبيعيّة أكثر من مقدار حاجته أو ما هو ليس في حاجة إليه أصلا كما بيّنّا آنفا أصبح أيضا يطرح من فضلات استهلاكه مقدارا أعلى ممّا تستطيع آليات البيئة الطّبيعيّة للتّحليل والتّصفية أن تستوعبه في دورتها البيئيّة، فإذا ذلك المقدار الزّائد من الفضلات يصبح عناصر ملوّثة للبيئة بذاتها أو بتفاعلاتها تلويثا متغلغلا في  مكوّناتها وساريا في أوصالها ومؤثّرا بالتّالي على نظامها وحركة الحياة فيها، فإلى هذا السّبب يرجع مجمل ما تعاني منه البيئة اليوم من مشكلة هي أشهر مشاكلها وأظهرها للعيان، ولعلّها أخطرها خطرا ناجزا على الحياة، وهي المعروفة بمشكلة التّلوّث البيئي التي قيل في تعريفه: " هو كلّ تغيّر كمّي أو كيفي في مكوّنات البيئة الحيّة وغير الحيّة لا تقدر الأنظمة البيئيّة على استيعابه دون أن يختلّ توازنها "[6]،  ويصيب التّلوّث البيئي ثلاثة من المكوّنات الأساسية للحياة هي: الهواء والماء والتربة.

فتلوّث الهواء يتمثّل فيما يُطرح من كمّيات هائلة من الأدخنة والأغبرة والغازات من جرّاء مداخن المعامل وعوادم السّيّارات ومقالب القمامة وغيرها ممّا ينـفث فضلاته في الهواء، ونتيجة لذلك النّفث تنتشر في الغـلاف الجوّي بشكل يكاد يعمّه جميعا جزيئيّات صلبة من الأغبرة المختلفـة ومن الرّصاص وغازات ثاني أكسيد الكربون وأوّل أكسيد الكربون وأكسيد النتروجين والفلور وغيرها من الغازات والمركّبات المختلفة. وتُعتبر هذه الملوّثات كلّها عناصر ضارّة بالحياة عامّة والحياة الإنسانيّة خاصّة سواء بصفة مباشرة بما تحدثه من أمراض مختلفة تبلغ أحيانا درجة الكوارث الجماعية، أو بصفة غير مباشرة بما تحدثه من آثار في اضطراب المناخ والتّوازن البيئي، ولذلك قال آل قور في مشكلة تلوّث الهواء: " إنّ هذه المشكلة ـ تلوّث هواء كوكب الأرض ـ هي التي تمثّل الخطر الاستراتيجي الحقيقي الذي علينا الآن مواجهته "[7] إشارة منه إلى خطر هذه المشكلة على استمرارية الحياة، فضلا عن خطرها النّاجز على الأحياء من الحيوان والنّبات.

وتلوّث الماء يُعدّ من أخطر أنواع التّلوّث عامّة، وذلك باعتبار أنّ الماء جُعل منه كلّ شيء حيّ، فهو يؤثّر إذا ما لُوّث في كلّ أشكال الحياة. وقد تعرّض الماء بالفعل إلى تلوّث كبير في كلّ الأوضاع التي هو عليها وكلّ المواقع التي هو فيها، سواء في صورته جاريا أو راكدا أو جليدا على وجه الأرض، أو مخزونا في باطنها، أو بخارا في الفضاء. ويمكن تصوّر المدى الخطير من التّلوّث الذي أصاب الماء تغلغلا وسعة انتشار ممّا وُجد من كمّيات كبيرة من المبيدات الكلورية في ثلوج القطب الشمالي، فتلك المياه تبدو قصيّة عن التّلوّث في مكانها ووضعها الجليدي ولكنّه وصل إليها وتغلغل فيها على بعدها.

وتلوّث التّربة هو التّلوّث الذي تشهده العين بأكثر وضوح ممّا تشهد من تلوّث الهواء والماء، فالإنسان يشاهد ما على الأرض من الملوّثات أكثر ممّا يشاهد ما في غيرها، وإذا كـانت أكثر الملوّثات التي تصيب الهواء والماء ـ إن لم تكن كلّها ـ تصيب التربة أيضا لأنّهما يُعتبران من ضمن مكوّناتها، فإنّ ثمّة ملوّثات أخرى تؤثّر فيها بصفة مباشرة تأثيرا سلبيا بالغا فتعيق أداءها في احتضان الحياة وحفظها وتنميتها، سواء بالنّسبة للإنسان أو بالنّسبة للحيوان والنّبات.

ومن أهمّ تلك الملوّثات التي تصيب التربة النّفاياتُ الصّلبة التي ترمي بها المنازل والمصانع كلّ يوم على وجه الأرض إمّا في مقالب مخصوصة أو بصفة عشوائيّة في كلّ مكان، وبعض هذه القمامة يكون موادّ ملوّثة في الأصل كبعض تلك التي تلفظها المصانع، وبعضها يصبح موادّ ملوّثة بعد طرحها في مقالبها لما يصيبها من التّعفّن الذي تنطلق منه غازات وأبخرة ضارّة بالإنسان والحيوان بل بالغلاف الجوّي للأرض أيضا، وما لا يقبل التّحلّل مثل المخلّفات البلاستيكيّة يبقى ملوّثا دائما للتّربة. إنّ النّفايات الصّلبة تشكّل اليوم مشكلة تلوّث عويصة الحلّ، فالكمّيات الهائلة التي يطرحها الإنسان على تربة الأرض كلّ يوم تُقدّر في الولايات المتّحدة بالنّسبة لكلّ فرد ضعف وزنه، فماذا يُفعل بهذه الكمّية الهائلة؟ إن هي تُركت في العراء ملأت عفونتها الفضاء، وإن أُحرقت تلوّث الهواء بدخانها دون أن يأتي إحراقها على كلّ ما فيها، وإن دُفنت في الأرض كلّف دفنها التّكاليف البالغة وتسرّبت سمومها إلى المياه الجوفيّة ، وفي كلّ الأحوال تبقى النّفايات الصّلبة مشكلة تلوّث حادّة تعاني منها تربة الأرض.

ومن ملوّثات التربة ما يصيب الأرض الزراعية خاصّة من أملاح نتيجة أساليب خاطئة  للرّيّ، فتلك الأملاح تنتشر في التّربة وتعطّل أداءها الزّراعي، ومنها ما يترسّب في التّربة من بقايا المبيدات النّباتية والحشرية وما يتبقّى أيضا من الأسمدة المستعملة للتّخصيب حينما يُساء استعمالها، فهذه كلّها تختلط بالتّربة وتبقى فيها لمدّة طويلة، ومن مضارّها أنّها تقتل بعض الأحياء التي تستوطن التربة والتي يكون لها دور إيجابي في إخصابها، فتتعطّل إذن خصوبتها بقتلها  .[8]

 

ج ـ  اختلال التّوازن البيئي

إنّ ما يقع للبيئة من استنزاف لمواردها من جهة ومن تلويث لهوائها ومائها وتربتها من جهة أخرى لا يسبّب مشكلة بيئيّة تبقى عند حدود الاستنزاف والتّلويث، وإنّما يتعدّاه إلى ما هو أخطر ممّا يُلحقانه من الضّرر المباشر بالبيئة، وذلك لأنّ كلاّ منهما يؤدّي إلى إحداث اضطراب في التّوازن الذي رُكّبت عليه البيئة، والذي على أساسه تقوم بدورها منتظما في إعالة الحياة، وكلّ اضطراب يحصل في ذلك التّوازن بالاستنزاف أو بالتّلوّث أو بكليهما يفضي إلى قصور في ذلك الدّور، وهو قصور قد لا تُلحظ آثاره ناجزة كما تُلحظ الآثار النّاجزة للاستنزاف والتّلويث، ولكنّه ينذر على المستوى الاستراتيجي للحياة بدمار قد يأتي عليها كلّها بالفناء، وذلك هو الخطر المحدق الذي بدأ الفكر البيئي ينتبه  إليه وإلى حجم خطورته منذ بعض الزّمن، فجعله المحور الأساسي للمشكلة البيئيّة في تشخيصها وفي محاولة علاجها.

ويبدو الخلل في التّوازن البيئي الذي سبّبه بصفة أساسية الاستنزاف والتّلوّث في مظاهر متعدّدة، لعلّ من أبرزها للعيان وألفتها للاهتمام اليوم مظهرين واضحين ينال كلّ منهما من قاعدة أساسية من قواعد التّوازن البيئي هما: ظاهرة الاحترار العالمي التي تصيب قاعدة الاتّزان المناخي، وظاهرة تهتّك الأوزون التي تصيب قاعدة المناعة البيئيّة.

فالاحترار العالمي من العلوم أنّ البيئة تقوم على معادلة حرارية دقيقة تضمن متوسّطا مستقرّا من درجات الحرارة، وتشترك في هذه المعادلة الأشعّة الشّمسية مع الغازات المنتشرة في الفضاء مع الغطاء النّباتي مع المحيطات مع الكتل الجليدية الضّخمة في القطبين، وباستقرار تلك المعادلة مشتركةً فيه كلّ تلك العناصر تتحقّق صلاحية البيئة لاحتضان الحياة وحفظها ونموّها، وأيّما اضطراب يطرأ عليها يفضي إلى عطالة في تلك الصّلاحية ممّا يعود على الحياة بكوارث مدمّرة يبدو أنّ بعضا منها حدث في التاريخ القديم للبيئة فأودى بمظاهر كثيرة من مظاهر الحياة النباتية والحيوانية لم يبق منها اليوم إلاّ آثارها في باطن الأرض.

وقد بدأ يظهر منذ عقود من الزمن اختلال في المعادلة الحرارية للبيئة في اتّجاه ارتفاع في درجة الحرارة العادية، والسّبب الرّئيسي في ذلك أنّ الغلاف الجوّي الذي تخترقه كمّية من الأشعّة الشّمسية لتمتصّها الأرض وما عليها، ثمّ يرتدّ عبره إلى الفضاء الأعلى جزء كبير من الحرارة التي تحدثها الأشعّة أصبح غلافا أكثر سمكا وثخانة بفعل الغازات الكثيرة المتصاعدة إليه من الأرض من المصادر التي ذكرناها آنفا وخاصّة غاز ثاني أكسيد الكربون الذي ضاعف وجوده أيضا انقراض كثير من الغابات التي كانت تمتصّه، فلم يعد هذا الغلاف لسمكه وثخانته يسمح بالحرارة المرتدّة أن تخترقه إلى الفضاء فاحتُبست دونه على الأرض وتسبّبت في ارتفاع درجات الحرارة عليها.

ومهما يكن من ضآلة هذا الاحترار الواقع إلى حدّ الآن، إلاّ أنّ تزايده باستمرار نتيجة لتزايد الغازات في الفضاء ولو بمقادير صغيرة ينذر بوقوع وشيك لكوارث بيئيّة على الحياة قد لا تبقي منها شيئا؛ ذلك لأنّ هذه الكوارث التي وقعت نظائر لها في الماضي بأسباب مشابهة لا تتوقّف إلاّ على مقدار ضئيل من ارتفاع الحرارة، إذ الكوارث البيئيّة النّاتجة عن تغيّر درجات الحرارة في البيئة صعودا ونزولا لا تستلزم إلاّ تغيّرا طفيفا فيها، ولكي ندرك ذلك لنعلمْ أنّ المكان الذي توجد عليه الآن مدينة نيوورك كان في زمن مضى تغطّيه طبقة جليدية سمكها كيلومتر، ولم تكن درجة الحرارة آنذاك أقلّ ممّا هي عليه الآن إلاّ بمقدار ستّ درجات مائوية  .[9]

وبناء على هذا فإنّ ارتفاعا قليلا في درجة الحرارة البيئيّة سيسفر عن دمار بيئيّ كبير تنبّأ علماء البيئة ببعض من مظاهره وأكثره يبقى مجهول التّقدير حتّى قد يفاجئ الإنسان من حيث لا يعلم. وممّا قُدّر من ذلك أنّ الجبال الجليدية في القطبين ستذوب بفعل الحرارة فيرتفع بذلك ماء المحيطات ويفيض على اليابسة فيغمر أجزاء كبيرة منها وخاصّة تلك السّواحل الواطئة مدمّرا ما عليها من الحياة، وذلك الارتفاع الطّفيف في حرارة الأرض  "يمكن أن يحدث تأثيرات هائلة في الأنماط المناخية، وأيّ اختلال يحدث في تلك الأنماط المناخية يمكن أن يؤثّر بضراوة في توزيع سقوط الأمطار، وشدّة العواصف ونوبات الجفاف، واتّجاهات كلّ من الرّياح السّاندة والتّيّارات المائيّة في المحيطات ... [ وهكذا ] فإنّ التّغيّر في متوسّط درجة حرارة الكوكب [ الأرضي ] حتى لو بلغ درجة واحدة يمكنه ـ إذا حدث بسرعة ـ أن تكون له آثار مدمّرة للحضارة الحديثة لا يمكن تخيّلها [10]".   

وأما تهتّك الأوزون فمن المعلوم أنّ البيئة تتوفّر على نظام مناعي ذاتي يقوم بمعالجة المشاكل التي تحدث فيها، فللغلاف الجوّي آلية لتنظيف نفسه ممّا يعلق به من الغازات المتصاعدة إليه من الأرض وذلك فيما يُعرف بعملية التّأكسد الجوّي، وللكيانات المائيّة آليات أيضا لتنظيف نفسها ممّا يخالطها من الملوّثات المختلفة، وللغلاف الجوّي آلية في حفظ الأرض من سواقط محرقة ومدمّرة تأتي من الفضاء الخارجي، وتؤلّف كلّ هذه الأنظمة ما يشبه جهاز مناعة للبيئة يدفع عنها ما يطرأ عليها من عوامل تصيب كفاءتها في إعالة الحياة، ويؤلّف مظهرا مهمّا من مظاهر الاتّزان البيئي. ولكنّ ما يقوم به الإنسان من إرهاق للبيئة بالاستنزاف والتّلويث يصيب ذلك الجهاز المناعي بأعطاب مختلفة، فينخرم اتّزانه، وتضعف كفاءته في دفع العوامل الضّارّة بالبيئة، وذلك ما يقع الآن بفعل التّصرّف الإنساني المرهق متمثّلا في مظاهر عدّة لعلّ من أشهرها ما يُعرف بتهتّك الأوزون.

والأوزون هو غاز يوجد بكثافة في طبقة الإستراتسفير من طبقات الغلاف الجوّي، وعلى الرّغم من أنّه غاز سامّ في ذاته بحيث لو تسرّب مركّزا إلى سطح الأرض فإنّه يكون ضارّا بالحياة، إلاّ أنّه في حال وجوده مركّزا في تلك الطّبقة يقوم بدور فعّال في اتّجاه حفظ الحياة [11] ، إذ هو يصدّ الأشعّة فوق البنفسجية التي ترسلها الشّمس ضمن أشعّتها عن أن تسقط إلى الأرض فتدمّر كلّ الحياة، وذلك بأن يبتلعها فيفنيها ويفنى هو معها، ولكنّه يتجدّد حالاّ بتحليلات كيميائيّة معقّدة، فتبقى كمّيته ثابتة من خلال عمليّة الفناء والولادة، فهو إذن يُعتبر بوجوده في طبقات الجوّ درعا واقيا للحياة من الأشعّة فوق البنفسجية الحارقة بالرّغم من أنّه في ذاته يكون حارقا إذا لامس الحياة في هيئة يكون فيها مركّزا.

إلاّ أنّ طبقة الأوزون تعرّضت وتتعرّض لعوامل من صنع الإنسان تحدث فيها تهتّكا ينذر بشرّ كبير يصيب الحياة على الأرض، إذ يسمح ذلك التّهتّك بتسرّب الأشعّة فوق البنفسجية إلى الأرض فتأتي حينئذ على ما تقع عليه بالفناء. وسبب ذلك التّهتّك هو مجموعة من الغازات التي يستعملها الإنسان في الصّناعة وفي أغراضه الأخرى، فهذه الغازات تنطلق في الفضاء وتقوم بتحطيم الأوزون فيتلاشى، وذلك ما يُحدث ثقوبا في الحزام الواقي الذي يضربه حول الأرض، وقد حدث إلى حدّ الآن ثقب كبير في منطقة القارّة القطبية الجنوبية، وتنذر بعض الإشارات بثقوب في مناطق أخرى   [12]

 

ثانيا ـ  أسباب المشكلة البيئيّة

إذا كان توصيف مشكلة البيئة في مظاهرها أمرا مهمّا لمعرفة  مدى حجمها وأثرها على الحياة عامّة وحياة الإنسان خاصّة، ولاتّخاذ التّدابير للتّوقّي منها ما أمكن التّوقّي، فإنّ تشخيص أسبابها لا يقلّ عن ذلك أهمّية إن لم يكن يفوقه فيها؛ وذلك لأنّ التّوقيّ الحقيقي من آثار هذه المشكلة لا يكون إلاّ بمعالجة مظاهرها معالجة تفضي بالتّدريج إلى اختفائها أو وصولها إلى حدّ ينتفي معه ضررها، وذلك لا يكون إلاّ بمعالجة أسبابها التي أفضت إليها، ومعالجة الأسباب لا تتمّ إلاّ بتشخيصها أوّلا التّشخيص الصّحيح الذي ينتهي من الحلقات المباشرة منها إلى الحلقات الأولى الـتي كانت بذورا أساسية للمشكلة البيئيّة في مظاهرها المختلفة.

ومن الملفت للانتباه أنّ الفكر البيئي ضمن اهتمامه الكبير بمشكلة البيئة كما ذكرنا سابقا كان ينصبّ انشغاله على توصيف مظاهر المشكلة، أمّا أسبابها فلم تُولَ إلاّ القليل من الاهتمام وذلك بصفة عرضية في أكثر الأحيان حتّى إنّنا لا نكاد نقف فيما كُتب عن مشكلة البيئة على عناوين مستقلّة تتعلّق بالأسباب التي نشأت عنها، وذلك ما نعتبره مظهر قصور في هذا الفكر كان له أثره في مجمل قضايا البيئة بصفة عامّة باعتبار أنّ هذه القضايا أصبحت مشكلة البيئة محورا أساسيا من محاورها إن لم تكن هي المحور الموجّه لها كما ذكرنا سابقا.

وبالإضافة إلى تقصير الفكر البيئي في تناول أسباب مشكلة البيئة عموما بالاهتمام اللاّزم فإنّ ما تمّ من تناول تلك الأسباب بالبيان كان تناولا جزئيّا ظاهريّا لم يبلغ من العمق تلك الدّرجة التي تنتهي بتتبّع حلقات الأسباب إلى منتهاهـا لتقف على السّبب الأصلي الذي ولّد بقيّة الأسباب حتّى انتهى الأمر إلى نشوء المشكلة واستفحالها، وهذا ما نحسبه أيضا مظهرَ قصور إضافي في نطاق القصور العامّ في تناول الأسباب. ونظرا إلى ما نرى من أهمّية لتشخيص الأسباب المفضية إلى المشكلة البيئيّة باعتبار أثره في توجيه قضايا البيئة عامّة، فلعلّه يكون من المفيـد أن نعرض فيما يلي تقويما سريعا لما ورد في الفكر البيئي من بيان لهذه الأسباب، ثمّ نعقّب على ذلك بمراجعة لهذه الأسباب في اتّجاه ثقافي أخلاقي نقتبسها من الرؤية الإسلامية لقضية البيئة عامّة ولأسباب الأزمة فيها خاصّة. 

تناول الفكر البيئي بالبحث الأسباب التي منها نشأت المشكلة البيئية، ولكن إلى وقت قريب كانت تلك الأسباب كما انتهى إليه هذا الفكر أسبابا سطحية هي إلى الظواهر أقرب منها إلى الأسباب، إذ تكاد تنتهي عند القصور دون المواكبة التقنية لمعالجة الآثار السلبية المؤثّرة في البيئة للتطوّر الصناعي وانتشاره على الكرة الأرضية، وكذلك التفاقم الاستهلاكي نتيجة الانفجار السكاني على سطحها. وإذا كانت قد ظهرت منذ بعض الزمن بوادر مراجعات لهذه الأسباب فإنّ هذه المراجعات لم تبلغ من الجدية ومن سعة القناعة بها ما يجعلها كفيلة بأن تغيّر الوجهة في التعامل مع البيئة، وتفضي إلى علاج ناجع لأزمتها المتفاقمة.

 

1 ـ التصور التقليدي لأسباب الأزمة البيئية

قيل في ذلك إنّ الإنسان في الحضارة الحديثة بلغ من العلم والتقنية ما استطاع به أن يسخّر من مرافق الكون بطريق الاستثمار التّصنيعي ما لم تبلغه أيّة حضارة سابقة، فكان ذلك سببا طبيعيا في حدوث مشاكل بيئيّة من شأنها أن تحدث تبعا لكلّ استثمار لمقدّرات الطّبيعة إذا ما بلغ هذا الحجم الذي بلغه الإنسان في الحضارة الحديثة، فكأنّ هذه المشاكل إذن أمر حتمي يفرضه التّطوّر فيكون لازمة من لوازم التّقدّم في استثمار الكون، ويُعرف هذا الاتّجاه في التّفسير الحتمي لأسباب المشكلة البيئيّة بالحتمية الحضارية  . [13]

وقيل إنّ من أكبر أسباب المشكلة البيئيّة هو الوضع السّكّاني على وجه الأرض، فقد شهد هذا الوضع تكاثرا متصاعدا في أعداد السّكّان من بني الإنسان،  كما شهد تكدّسا شديدا للنّاس في مناطق من الأرض دون أخرى هي في الغالب المناطق الحضرية في المدن وحولها، وهذه الكثرة المتصاعدة من النّاس أفضت إلى استنزاف متصاعد لموارد البيئة، كما أنّها مع ظاهرة التّكدّس أفضت إلى تراكم الفضلات المختلفة التي سبّبت التّلوّث البيئي على مستويات متعدّدة، ويحظى هذا السّبب بتأييد كبير في الفكر البيئي  . [14]

ومن التّفسيرات الواردة في أسباب هذه الأزمة خطأ الإنسان في تقدير القانون الاقتصادي الذي أصبح منذ زمن هو الموجّه الأكبر لمسيرة الحياة الإنسانية، ويتمثّل ذلك الخطأ في إهمال المقدّرات البيئيّة من حسابات التّكلفة الاقتصادية، فهذه المقدّرات لم تكن في الفكر الاقتصادي يتمّ استنزالها من قيمة التّكلفة ليكون لها اعتبار اقتصادي، وذلك باعتبارها عطاء مجانيا غير محسوب، وقد أدّى هذا الخلل في القانون الاقتصادي إلى استنزاف موارد البيئة بغير حساب إذ هي خارج نطاق التّكلفة، وهو ما أدّى بالتّالي إلى تفاقم المشكلة البيئيّة في وجوهها المختلفة  . [15]

وممّا قيل من تلك التّفسيرات أنّ الإنسان وجّه جهده التّكنولوجي إلى ما فيه استثمار للبيئة في مرافقها المختلفة، فبرع في ذلك براعة فائقة، ولكنّه غفل عن أن يوجّه جهدا تكنولوجيا موازيا لمعالجة الآثار السّلبية التي يفضي إليها ذلك الاستثمار والمتمثّلة بالأخصّ في التّلوّث البيئي، ونتيجة للتّقدّم التكنولوجي بالنّسبة للاستثمار والتّخلّف فيه بالنّسبة لتلافي آثاره السّلبية تفاقمت تلك الآثار دون أن تستطيع التّكنولوجيا مجاراتها حتّى عندما أراد الإنسان ذلك، وانتهى الأمر إلى استفحال المشكلة البيئيّة، ولو قُدّر أنّ الإنسان وازى منذ البداية بين تكنولوجيا الاستثمار وتكنولوجيا التّوقّي من آثاره السّلبية ما كانت لتحدث الأزمة البيئيّة الرّاهنة، أو على الأقلّ ما كانت لتصل إلى الحجم الذي وصلت إليه  .

إلاّ أنّ هذه الأسباب كلّها وغيرها ممّا هو مشابه لها يبدو أنّها بالرّغم ممّا ينطوي عليه بعضها من الوجاهة لم تعد في الفكر البيئي أسبابـا كافية للإقناع منذ بعض الزّمن، وتحت إلحاح التّفاقم الهائل للأزمة البيئيّة فوقع التّوجه للبحث عن أسباب أخرى أكثر عمقا من تلك التي ظلّت تُردّد زمنا طويلا؛ ولذلك فقد ظهر اتّجاه جديد في البحث عن أسباب المشكلة البيئيّة يعمد إلى البحث عنها في المجال الأخلاقي الثقافي، وقد ظهرت بذور هذا الاتّجاه عند نقّاد الحضارة الغربية من فلاسفة الحضارة أمثال اشفيتسر ولكونت دي نوي وألكسيس كارل ورني دبو وأمثالهم، ثمّ تأثّر به بعد ذلك الفكر البيئي، وجعلت مقولة السّبب الثّقافي الأخلاقي لأزمة البيئة تتردّ عند الكثير من الباحثين والمؤلّفين فيه، ولعلّها قد بلغت أوجها عند آل قور في كتابه " الأرض في الميزان " حينما وجّه مجمل فكره في هذا الكتاب إلى اعتبار أنّ السّبب الأصلي في الأزمة البيئيّة هو التّصوّر الفكري الثّقافي الذي حمله إنسان الحضارة الحديثة عن البيئة، وأنّ معالجة هذه الأزمة معالجة حقيقيّة لا تتحقّق إلاّ بتغيير فكري ثقافي عميق لهذا التّصوّر الثّقافي، ومن بين ما عبّر به عن فكرته تلك قوله: " إنّ نوعنا الحيّ تعوّد على النّموّ والازدهار داخل رحم الحياة المحكم القائم على مفهوم الاعتماد المشترك، ولكنّتا اخترنا أن نخرج من الجنّة - بتصوّر أنفسنا منفصلين عن كوكب الأرض -  وما لم نعثر على طريقة نغيّر بها على نحو جذري حضارتنا وطريقتنا في التّفكير فيما يتعلّق بالعلاقة بين الجنس البشري وكوكب الأرض فإنّ أولادنا سيرثون أرضا خرابا " [16] .

إلاّ أنّ الفكر البيئي الذي بدأت بوادر توجّهه إلى هذا النّوع من الأسبـاب لم تنضج فيه الآراء بعد، ولم يتجاوز أمره حدّ التّوجّه العامّ إلى تفصيل الأفكار وتوضيحها، وأغلب من تناول هذا النّوع من الأسباب بالبيان إنّما وقف عند حدّ النّداء بتغيير الوجهة في البحث عن الأسباب وبالتالي في البحث عن الحلول دون شروع حقيقي في تفصيل الخطوط التي تقتضيها تلك الوجهة، والكلمة التي أوردناها آنفا عن آل قور ـ وهو من أكبر المتحمّسين لهذه الوجهة الجديدة ـ تبين عن هذا المعنى خير بيان.

ونحسب أنّ هذا الفكر البيئي وهو سليل الفكر المادّي في عمومه سوف لن تكون له القدرة على التفصيل في هذا السّبب الثقافي لأزمة البيئة، ولا القدرة بالتّالي على تفصيل الحلول لهذه الأزمة من منظور ثقافي، ففاقد الشّيء لا يعطيه، وهنا يأتي دور الدّين والفلسفة الرّوحية في التّوجيه إلى الكشف عن أسباب الأزمة البيئيّة في الخلل الثقافي الذي أصاب العلاقة بين الإنسان والبيئة، والتّوجيه إلى حلول لتلك الأزمة تقوم على إصلاح الخلل في تلك العلاقة . كما نحسب أيضا أنّ الدّين الإسلامي هو الأكفأ للإسهام في دعم هذا الاتّجاه في تحديد أسباب أزمة البيئة وسبل علاجها لما يتّصف به من شمول.

 

2 ـ نحو مراجعة أخلاقية لأسباب الأزمة البيئية

إنّ الأسباب الحقيقية للأزمة البيئية تتجاوز ما درج الفكر البيئي التقليدي على ترديده لتضرب في عمق التصوّر الأخلاقي الثقافي للبيئة الطبيعية وما نتج عن ذلك التصوّر من تعامل سلوكي معها. فإذا كانت هذه الأزمة إنما هي ناشئة عن الحضارة الراهنة في بعدها الصناعي على وجه الخصوص فإنّ هذه الحضارة تأسّست على تصوّر فلسفي وديني للبيئة لا يمكن إلا أن ينتهي إلى الأزمة الراهنة، وذلك سواء بالنظر إلى الجذور البعيدة لذلك التصوّر أو بالنظر إلى منتهياته في الفلسفة الحديثة، فكلّ من هذه وتلك تحتلّ فيها البيئة الطبيعية في التصوّر الجمعي موقع الجفاء الذي يخلو أو يكاد من الرابطة الروحية التي تربط بينها وبين الإنسان، فانعكس ذلك سلبا على السلوك الإنساني في التعامل مع البيئة.

وبناء على ذلك يجب أن يقع البحث عن الأسباب الحقيقية في المجال الثقافي الأخلاقي، سواء كان ذلك المجال دينيا أو فلسفيا، وهو ما بدأت بعض الأصوات ترتفع منادية به بعدما أدركت أنّ الأسباب المعروضة تقليديا لم تعد تقنع بأنها أسباب حقيقية للأزمة يمكن بناء المساعي العلاجية عليها، وفي هذا الصدد فإننا نعرض طائفة من هذه الأسباب الحقيقية من منظور إسلامي باعتبار أنّ الإسلام دين يهتمّ اهتماما كبيرا بالبيئة الطبيعية، ويدرج توصيفها والتعامل معها ضمن تعاليمه الثقافية الأخلاقية

ليس من شأن القرآن الكريم ولا الحديث الشّريف أن نقف في أيّ منهما على تفصيل لأسباب ما يصيب البيئة من فساد، إذ هما للهداية العامّة والتّوجيه الكلّي، ولكن من جهة أخرى ليس من الممكن وقد أوليا للبيئة من العناية قدرا كبيرا حيث جاء ذكرها في القرآن الكريم في أكثر من سبعمائة آية أن يُهمل فيهما بيانٌ متعلّق بما يمكن أن يصيبها من الخلل وأسبابه على سبيل الإرشاد والهداية، إذ ذلك مخالف لشأن الوحي في تعقيبه على البيان التّقريري الوصفي بالبيان الإرشادي التّوجيهي في خصوص الظّواهر موضوع الوصف والتّقرير.

وفعلا فإنّ المتتبّع لبيانات القرآن والحديث في شأن البيئة يظفر بتوجيه جدّ مفيد فيما يتعلّق بما يطرأ عليها من الخلل وما يكون من أسباب لذلك الخلل. وقد عبّر القرآن الكريم عمّا يصيب البيئة الطبيعية من أزمات تفضي فيها إلى الخلل  بتعبير " الفساد في الأرض "، وهو تعبير استُعمل مرّات كثيرة للدّلالة على هذا المعنى. وإذا كان هذا التّعبير القرآني قد استُعمل للدّلالة على ما يمارسه الإنسان من فساد عقدي وأخلاقي ، فإنّ معنى الفساد المادّي يبقى معنى مستصحبا مع الفساد المعنوي ببروز يوحي بأنّه هو المعنى الأصلي المقصود منها، خلافا لما قد يتبادر إلى الذّهن من القراءة الأوّلية لهذا التّعبير. ولعلّ من أوضح ما يدلّ على ذلك قوله تعالى في شأن الأرض والسّماء: " لَو كَانَ فيهمَا آلهَةٌ إِلاَّ الله لفَسَدَتَا " ( الأنبياء / 22 )، أي " لخربتا وهلك من فيهما " [17]   ، فهو إذن تعبير صريح متمحّض للفساد المادّي.

وقد جاء في القرآن الكريم تنبيه متكرّر إلى ما يمكن أن يصيب البيئة من الفساد المعبّر عن معنى الخلل البيئي الذي هو أزمة تصيب بيئتنا اليوم، كما جاء فيه النّهي المتكرّر عن سلوك ما عسى أن يفضي إلى ذلك الفساد من المسالك. بل إنّ في القرآن الكريم إشارات تنبّه القارئ إلى ما سيؤول إليه أمر البيئة من أزمة شاملة،  وقد رافقت التنبيهات إلى الأزمة البيئيّة في القرآن الكريم معبَّرا عنها بالفساد في الأرض إشارات عديدة ترشد إلى الأسباب التي تفضي إلى تلك الأزمة، وتنبّه إلى تفاديها، وهي إشارات تتراوح بين الإظهار في التّعبير والإضمار في السّياق ولكنّها تلتقي عند كونها أسبابا ثقافية أخلاقية، ومن مجملها يمكن للنّاظر أن يقف على هدي قرآني بيّن فيها يمكن أن يكون أساسا لتأصيل إسلامي في تقدير أسباب المشكلة البيئيّة، وتقدير الوجهة التي ينبغي أن يقع الاتّجاه إليها في البحث عن حلول لها.

وعلى وجه العموم كلّما ورد في القرآن الكريم ذكر للفساد في الأرض سواء على سبيل وصفه واقعا أو على سبيل النّهي عن إيقاعه فإنّه يكون مقترنا تصريحا أو تلميحا بسببٍ لوقوعه يُنهى عنه، أو بسبب لتفاديه يؤمر به، يعود على نحو أو آخر إلى نوع العلاقة التي تربط بين الإنسان والأرض، فيما إذا كانت تلك العلاقة مجرّد علاقة مادّية مباشرة تحكمها وتوجّهها الرّغبة في إشباع الشّهوات وكأنّما الأرض فيها ليست إلاّ متاعا صرفا، فيكون ذلك في الغالب مظنّة ممارسة إفسادية فيها فيُتبع ذلك إذن بالنّهي عنه والتّأنيب فيه بحسبانه سبب فساد، أو ما إذا كانت تلك العلاقة بالأرض تقوم على بعد روحاني معتبر، تحكمها وتوجّهها واسطة من التّجلّي الإلهي فيها بالعلم والإتقان والرّحمة والجمال، فيتعامل الإنسان معها إذن على وحي من تلك المعاني الروحية، فلا يتطرّق إليها الفساد جرّاء ذلك التّعامل، فيُتبع ذلك إذن بالأمر به والمدح عليه بحسبانه سبب تعمير.

ومن الموارد البيّنة في القرآن الكريم التي نقف فيها على هذا المعنى الموجّه للبحث عن سبب الفساد في الأرض في نوع علاقة الإنسان بها متمحّضة للمادّية قوله تعالى: "ادْعُوا ربَّكُم تَضَرُّعًا وخُفْيَةً إِنَّه لا يُحِبُّ المُعْتَدين ولاَ تُفْسِدُوا في الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها" ( الأنبياء / 55 ـ 56 )، فالإفساد في الأرض المـنهيّ عنه في الآية مقصودا به إدخال الخلل على نظامها النّافع بقرينة ما ذُكر من الصّلاح الذي هي عليه في الأصل، إنّما يكون بسبب علاقة تربط النّاس بها تخلو من بعد روحي يتمثّل في مشاهدة آثار الصّنعة الإلهية على الأرض أُشير إليه بالدّعاء فتُعامل إذن باحترام لتلك الصّنعة وشكر لله عليها، وتتمحّض لمنزع مادّي صرف، فتفضي إلى عدوان الناس على الأرض  "بالاسترسال فيما تمليه عليهم شهواتهم من ثوران القوّتين الشّهوية والغضبية، فإنّهما تجنيان فسادا في الغالب .. فإنّهم إن أفسدوا في الأرض أفسدوا مخلوقات كثيرة وأفسدوا أنفسهم في ضمن ذلك الإفساد " [18]   ؛ ولذلك فقد جاءت الآية تنهى عن الفساد في الأرض بالنّهي عن سببه متمثّلا في تلك العلاقة المادّية العدائيّة، والتّوجيه إلى العلاقة الرّوحية متمثّلة في دعاء الله تعالى الذي تُرى آثاره في كلّ ركن من أركان الأرض.

ومن تلك الموارد أيضا قوله تعالى: " وَبَوَّأَكُم في الأَرْضِ تَتَّخِذُون من سُهُولِها قُصورًا وتَنحِتُون الجبَالَ بُيُوتا فاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ ولا تَعْثَوا في الأرْضِ مُفْسِدين" (الأعراف / 74)، ففي هذه الآية نهي عن الفساد في الأرض عن طريق الأمر بالمسلك الصّحيح الذي يجنّب ذلك الفساد، ويتمثّل ذلك المسلك في أن يقيم النّاس علاقة بالأرض تقوم على ركيزة روحية أُشير إليها هنا بذكر نعم الله المتجلّية في الأرض، فهذا الذّكر يجعل العلاقة بالأرض أرفع من أن تكون علاقة استثمار مادّي صرف، إذ هو ينحو بالإنسان إلى أن يجعل من الأرض مشهدا لعبادة الله، وتلك علاقة روحية تجنّبه أن يسلك فيها مسالك الإفساد. ونظائر هذه الآيات في القرآن الكريم كثيرة سنعرض لبعضها في لاحق الفصول.

إنّ هذا الإرشاد القرآني إلى المعرفة الحقيقية بأسباب الفساد في الأرض تعبيرا عمّا نسمّيه اليوم بأزمة البيئة فيما ينزع إليه من توجيه إلى البحث عن تلك الأسباب في نوعية العلاقة بالأرض ليُعتَبَر أمرا بالغَ الأهمّية في التّأصيل الإسلامي لمعالجة مشكلة البيئة المطروحة اليوم على الإنسان، وليست تلك الأهمّية بمقتصرة على هذا التّوجيه الصّحيح إلى البحث عن الأسباب الحقيقية لمشكلة البيئة، وإنّما تتعدّى ذلك لترسم الملامح الكبرى لقضايا البيئة عامّة، باعتبار أنّ هذه القضايا كما أشرنا سابقا توجّهها اليوم مشكلة البيئة، ومشكلة البيئة يوجّهها إلى حدّ كبير التّشخيص الصّائب لأسبابها في سبيل علاج حقيقي لتلك الأسباب يكون هو العلاج الحقيقي لمشكلة البيئة كلّها.

 

ثالثا ـ نحو تصوّر ثقافي أخلاقي لحقيقة البيئة

إذا كان تصوّر حقيقة البيئة وحقيقة علاقة الإنسان بها يحدّد طبيعة السلوك فيها والتعامل معها، فإن هذا التصوّر ينبغي تعديله عمّا كان عليه من وضع تسبّب في الأزمة البيئية إلى وضع آخر ذي وجهة ثقافية أخلاقية في سبيل علاج تلك الأزمة، وذلك سواء فيما يتعلّق بتصوّر الحقيقة المادّية للبيئة أو بتصوّر علاقة الإنسان بها. 

 

 

1ـ الحقيقة المادية للبيئة

إنّ التّصوّر الإنساني للبيئة فيما تتّصف به من السّموّ والرّفعة أو الدّونية والخسّة ، ومن الخيريّة أو الشّرّيّة يكون له دون شكّ الأثر الكبير في التّعامل السّلوكي معها سلبا وإيجابا؛ ولذلك فإنّه يكون من المهمّ أخذ هذا العنصر بعين الاعتبار في تحليل المشكلة البيئيّة والبحث عن أسبابها وطرق علاجها، ويكون بالتّالي من المهمّ بيان هذه القضيّة في التّصوّر الإسلامي للبيئة مقارنة بما في التّصوّر الثّقافي الغربي المسؤول كما بيّنّا سابقا عن الأزمة الرّاهنة للبيئة، فما قيمة المادّة البيئيّة في التّصوّر الإسلامي لمجمل الوجود البيئي؟

إنّ المتأمّل في نصوص القرآن والحديث، وكذلك المتأمّل في التّراث الذي أنتجته الحضارة الإسلامية يتبيّن أنّ البيئة التي يعيش فيها الإنسان تتّصف من بين ما تتّصف برفعة القيمة وعلوّ الشأن سواء في ذات مادّتها أو في تراتيبها وأنظمتها، وذلك مهما يكن من أنّ الإنسان نفسه أرفع منها قيمة وأعلى شأنا باعتبار أنّها بجميع مكوّناتها إنّما وُجدت من أجله في سبيل تحقيق مهمّة وجوده. ومجمل العناصر المكوّنة لهذه الصّورة التي تتّصف فيها البيئة برفعة المقام تعود إلى معنيين أساسيين هما: الخيريّة الذّاتية للبيئة، وكفاية البيئة في تحقيق سعادة الإنسان.

 

أ ـ  خيريّة البيئة

إنّ البيئة في التّصوّر الإسلامي متّصفة في ذاتها بالخيرية مستَبعَد منها أيّ معنى من معاني الشّرّيّة الذّاتية، وذلك سواء باعتبارها وجودا مادّيا في مقابل الوجود العقلي الرّوحي، أو باعتبارها موجودات مفردة من الحيوانات والنّباتات والمعادن، أو باعتبارها نظاما متكاملا من القوانين والعلاقات. وهذه الخيريّة الذّاتية للبيئة هي خيرية متمثّلة في أصل وجودها، كما هي متمثّلة في علاقتها بالإنسان فيما تقدّمه له من منفعة مادّية ومن منفعة روحية، فهي إذن خيريّة وجودية وخيريّة نفعيّة وخيريّة رمزية.

أماّ خيريّة البيئة في أصل وجودها فتتمثّل في أنّها بمكوّناتها المختلفة خلقها الله تعالى ابتداء في مادّتها الأوّلية وفي أحوالها بعد ذلك على سبيل التّفضّل المطلق منه بصفة عامّة، والتّفضّل بها على الإنسان بصفة خاصّة، فهي إذن نعمة إلهية في أصل وجودها، كما يفيده قوله تعالى: " وَمَا خَلَقْنا السَّمَاءَ والأَرْضَ وما بينهما باطلاً ذلك ظَنُّ الّذين كفرُوا " (ص / 27 )، فهذا الخلق إنّما كان لحكمة عامّة تتضمّن خيرا وليس أمرا عبثيّا كما يظنّ المعارضون، وكما يفيده قوله تعالى: " هوَ الّذي خَلَقَ لكُم ما في الأَرْضِ جَميعًا" ( البقرة / 29 )، فهذا الخلق للبيئة الأرضية إنّما هو تفضّل من الله تعالى على الإنسان خاصّة كما يفيده سياق هذه الآية، وقد أصبح هذا المعنى معنى راسخا في الثّقافة الإسلامية عقد لبيانه القاضي عبد الجبّار فصلا في كتابه المغني ترجم له بقوله: " فصل في بيان وجه حسن ابتداء الله تعالى لخلق الخلق وإنشاء الأيّام وما يتّصل بذلك  . [19] "  

وأمّا الخيريّة النّفعيّة فتتمثّل في أنّ الموجودات البيئيّة في تفاصيلها مفرداتٍ وأنظمة هي من أجل تحقيق منفعة الإنسان، فهي خير نافع له، وليس شيء منها قطّ وُجد من أجل الضّرر به ليكون شرّا عليه، وما بدا منها في الظّاهر أنّه كذلك، فهو عند التّحقيق تتبيّن خيريتها في نفع جمليّ عامّ لا يُرى إلاّ بالتّحقيق. وقد أصبح هذا المعنى أيضا عنصرا راسخا في الثّقافة الإسلامية، وذلك ما بيّنه أوفى بيان الرّاغب الأصبهاني في قوله: " .. يجب أن يُنظر هل في العالم شرّ مطلق، فقد ذكر الحكماء أنّا نظرنا وسبرنا فلم نجد فيه شرّا مطلقا بوجه، بل كلّ ما يُعدّ شرّا من وجه فهو يُعدّ خيرا من وجه أو من وجوه ..  [و] ما يُعدّ شرّا من وجه وخيرا من وجوه لم يُحكم بكونه شرّا " [20]   ، وفصّل هذا الإجمال في قوله: " بيّن الحكماء كثيرا من فوائد ما عدّه النّاس شرورا .. وذكروا في الحشرات كالدّيدان والنّمل والحيّة والعقرب والبقّ والبراغيث والذّبّان والضّفادع والسّراطين إنّما خُلقت من عفونات لو بقيت في الماء والأرض والهواء لكانت أسبابا للوباء، فخلقها الله تعالى منها، وجعل غذاءها تلك العفونات التي منها خُلقت ليقلّ بذلك أسباب الوباء، مع ما فيها من المنافع في جملة الأدوية " [21] ، فالبيئة إذن تتّصف في جملتها بالخيريّة النّفعيّة، وتخلو من معاني الشّرّ بالمعنى الحقيقيّ للشّرّ.

وقد أصبح هذا التّعليم القرآني ثقافة بيئيّة قامت عليها الحضارة الإسلامية سواء في السّلوك العملي أو في البيان النّظري، وذلك ما يبدو في قول الإمام الماتريدي: " إنّ الخلق على اختلاف جوهرهم في المضارّ والمنافع جعلهم الله في الدّلالة على مدبّر لهم حكيم وعلى وحدانيته كجوهر واحد في الإتقان من جهة الدّلالة والشّهادة " [22]   ، وهو أيضا ما بيّنه الجاحظ رادّا على ما اتُّهم به من إسفاف لعرضه محقّرات الحيوانات وتوافهها في كتاب الحيوان إذ قال: " .. فإيّاك أن تسيء الظّنّ بشيء من الحيوان لاضطراب الخلق ولتفاوت التّركيب ولأنّه مشنوء في العين أو لأنّه قليل النّفع والرّدّ، فإنّ الذي تظنّ أنّه أقلّها نفعا لعلّه أن يكون أكثرها ردّا فإلاّ يكن ذلك من عاجل أمر الدّنيا كان ذلك في آجل أمر الدّارين .. [ و ] اعلم أنّ مواقع منافعها من جهة الامتحان والبلوى، ومن جهة ما أعدّ الله عزّ وجلّ للصّابرين .. ولتقف حتى تتفكّر في الباب الذي رميت إليك بحميلته، فإنّك ستكثر حمد الله عزّ وجلّ على خلق الهمج والحشرات وذوات السّموم والأنياب كما تحمده على خلق الأغذية من الماء والنّسيم " [23]   ، إنّها إذن ثقافة لا تحقّر من أمر البيئة شيئا، بل تعتبر أنّها  في أصل وجودها تنعّم إلهي على الإنسان، وهي في مجمل أفرادها وأحوالها تحقّق الخير المادّيّ والرّوحيّ له حتّى وإن بدا بعضها في الظّاهر على خلاف ذلك، وعلى تلك الثّقافة قامت الحضارة الإسلامية في مواقفها البيئيّة. 

 

ب ـ  كفاية البيئة

إنّ البيئة التي جُعلت مجالا لحياة الإنسان يطلب فيها استمرارها ونموّها، ويُطلب منه القيام فيها بمهمّة الخلافة لو كانت في تركيبها أو في أنظمتها غير كافية لتلبية طلبه وتحقيق المطلوب منه بوجه من الوجوه لأصبحت في تصوّره قليلة الشّأن عديمة القيمة، بل لأصبحت شيئا ممقوتا كريها في النّفوس، إذ كيف يكون وجود هذه البيئة من أجل حياة الإنسان ثمّ هي لا تكفي مقدَّراتها لقيام تلك الحياة؟ وكيف يُطلب منه أن ينجز عليها مهمّة وجوده وهي لا تفي بمتطلّبات تلك المهمّة؟

ولكنّ التّصوّر الإسلامي يقوم في تقدير البيئة بهذا الخصوص على خلاف ذلك، إذ يستقرّ فيه أنّ البيئة التي وُجدت لأجل الإنسان كي تستمرّ حياته وتنمو، وكي ينجز ما كُلّف به من مهمّة في تلك الحياة إنّما قُدّرت في كمّها وكيفها على هيئة  من الكفاية  الدّائمة لتلبية مطالب الحياة والقيام بمهمّة الوجود مهما يتقدّم الإنسان في طلب تلك المطالب وفي إنجاز تلك المهمّة دون أن يكون لتلك الكفاية نهاية أو لمقدّراتها نفاد، وذلك سواء بما تقدّم من العطاء المباشر، أو بما تنطوي عليه من إمكانات التّثمير والتّنمية، وهو ما من شأنه لا محالة أن يضفي على هذه البيئة في بعدها المادّي قيمة في التّصوّر الثّقافي لها، إذ ستستقرّ صورتها في النّفس على أنّها مورد للحياة لا يفنى، ومُعين على القيام بالدّور في تلك الحياة لا يفتر، وسند للإنسان لا يتخلّى عنه ليلقي به إلى المجهول.

ويتواتر هذا المعنى من كفاية البيئة في القرآن الكريم بما يجعله معنى راسخا في التّصوّر الإسلامي للبيئة، ويأتي التّعبير عن هذه الكفاية في الغالب بديمومة الرّزق الإلهـي لخلقه عامّة وللإنسان خاصّة من البيئة الطّبيعية، حتّى استقرّ هذا المعنى عنصرا إيمانيا في نفس المسلم. ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: " وَمَا من دَابَّةٍ في الأَرْضِ إِلاَّ على اللهِ رِزْقُها " ( هود / 6 )، وفي قوله تعالى في سياق الحديث عن خلق الأرض: " وَجَعَلَ فيها رَوَاسِيَ من فَوْقِها وبَارَكَ فيها وَقَدَّرَ فيها أَقْواتَها في أَرْبَعَة أَيَّامٍ " (فصلت / 10 )، فالبيئة الأرضية قدّر الله تعالى فيها منذ خلقها أقوات من سيوجد عليها من المخلوقات، وليست الأقوات إلاّ تعبيرا عن كفاية البيئة الأرضية بتوفّر كافّة عناصر الحياة فيها في أصل تكوينها.

ويمكن أن نقارن في هذا التصوّر الثقافي الأخلاقي للبيئة بما استقرّ في الثقافة الغربية على وجه العموم من استنقاص للبيئة المادّية عبّر عنه ألبير كامو بقوله:" إنّ ما يتّصف به العالم من تبلّد وغرابة هو العبث بعينه" [24] ، وهو أيضا ما استقرّ في الثقافة الاقتصادية من فكرة الندرة على معنى أنّ الطبيعة مقدّراتها الضرورية للإنسان تتّصف بالندرة، وهي بالتالي آيلة إلى النفاد مهدّدة على الدوام لحياة الإنسان بأنها ستتوقّف يوما ما حينما يحلّ موعد ذلك النفاد.

 

2   ـ أثر التصور الأخلاقي لحقيقة البيئة في السّلوك البيئي

إنّ للتّصوّر المادّي لحقيقة البيئة أثرا بالغا في التّصرّف فيها من وجهي السلب والإيجاب بحسب ما يكون عليه ذلك التّصوّر، إذ التّصرّف البيئي كما أسلفنا يتحدّد بقدر كبير بمجمل الحاصل في الذّهن من الصّورة الثّقافية للبيئة بعنصريها الرّوحي والمادّي. ولمّا كان التصوّر الإسلامي لمادّة البيئة قائما كما بيّنّا على أساس تصوّر تكون فيه متّصفة برفعة القيمة وعلوّ الشأن: خيريّةً في أصل وجودها وفي تفاصيل أفرادها وأنظمتها، وكفايةً غير محدودة لإعالة الحياة، وغائيّة في سيرورتها ذات أنساق موزونة، يكون تعاملا يتوخّى فيها الرّفق في الاستثمار والمحافظة على كينونتها كما هي على غائيّتها ونظامها، والعمل على تنمية مواردها وتوليد طاقاتها الكامنة بما يضمن استمراريتها في العطاء، فحينما يتصوّر الإنسان أنّ في شيء  مّا من الأشياء خيرا دائما له، وحينما يكون ذلك الخير مرتبطا بنظام وغائيّة، فإنّ ذلك من شأنه منطقيا أن يجعل التّصرّف الإنساني إزاءه محافظا رفيقا.

ولكن حينما تكون صورة المادّة البيئيّة تتضمّن معنى الشّرّيّة والخطيئة واللّعنة، وحينما تتضمّن معنى الشحّ والندرة والعبثيّة والفوضى، فإنّ التّعامل السّلوكي معها سيكون موجّها بدافع الاحتقار لها وعدم المبالاة بها بل والنّقمة عليها، وذلك قد ينتهي بموقف انعزاليّ عنها باعتبارها شرّا ينبغي الابتعاد عنه للخلاص من شرّيّته، فلا يكون إذن منها انتفاع، وهو شأن الثّقافات الغنوصية الصّوفية التي كانت تجعل هدفها الأعلى الخلاص من عالم المادّة بالابتعاد عنه وتخليص النّفس منه، وقد ينتهي بموقف  الهجوم عليها لافتكاك منافعها، ومغالبتها للتّوقّي من شرورها، وذلك في غير ما مبالاة بما يصيبها أثناء ذلك من الجروح، وما يلحقها من أضرار.

رابعا ـ نحو تصوّر ثقافي أخلاقي لعلاقة الإنسان بالبيئة

في الثّقافة الإسلامية يقوم تصوّر للعلاقة بين الإنسان والبيئة كوّنته في الأذهان تعاليم القرآن والحديث، وكان من بين الموجّهات المهمّة للسّلوك البيئي في الحضارة الإسلامية. وفي هذا التّصوّر الإسلامي من التّميّز في أسسه وفي بنيته ما يمكّن من طرحه بجدارة في ساحة الحوار الحاصل في قضيّة الأزمة البيئيّة الرّاهنة ليكون بديلا للتّصوّر الفلسفي الذي كان من أسباب نشوء هذه الأزمة؛ وذلك لما يجنّب في التّصرّف البيئي من الآثار الضّارّة التي أفضى إليها التّصوّر الثّقافي الغربي للعلاقة بين الإنسان والبيئة.

 

1 ـ  وحدة الإنسان والبيئة

تتجلّى الوحدة بين الإنسان والبيئة كما يصوّرها القرآن الكريم والحديث الشّريف ويحرصان على إبرازها في مظاهر عديدة ترجع في معرض تعدّدها إلى مظهرين أساسيين: وحدة ذات طبيعة مادّية، ووحدة ذات طبيعة روحية وجدانية.

 

أ ـ  الوحدة المادّية

إنّ الإنسان على ما يبدو عليه من تميّز على سائر الموجودات البيئيّة في الشّكل والمظهر وفي خاصّيّة الإدراك والقدرة على التّصرّف حينما يُنظر إليه من جهة التّكوين المادّي يتبيّن أنّه ينخرط في وحدة مادّية مع تلك الموجودات تظهر فيما يشمل الجميع من وحدة في عناصر تكوينها، سواء بالنظر إلى مكوّنات تلك العناصر أو بالنظر إلى تكاملها مما ينتهي إلى تصوّر للكون على أنّ الإنسان ليس إلا مفردة من مفرداته متآلفة مع سائر المفردات الأخرى في تناسب كلّي ينتهي إلى وحدة الكون بما فيه الإنسان، وذلك مهما يكن من أنّ هذا الإنسان في الميزان القيمي يتّصف بالرفعة على سائر الكائنات.

فبالنظر إلى وحدة العناصر بين الإنسان والبيئة يقرّر القرآن الكريم أنّ الإنسان يوجد من نفس العناصر التي تتكوّن منها الموجودات البيئيّة الجامدة والحيّة، فحينما يُقارن بما على الأرض من جمادات يتبيّن على ما يبدو  في الظّاهر من تغاير بينه وبينها أنّ أصل تكوينه ليس إلاّ ممّا تتكوّن هي منه معَبَّرا عنه في القرآن الكريم بالتّراب الذي يرمز إلى عناصر المعادن التي تتكوّن منها كلّ مفردات البيئة على اختلافها كما في قوله تعالى: " ياأَيُّها النّاسُ إِن كُنتُم في رَيْبٍ من البَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُم من تُرابٍ " ( الحج / 50 )، وحينما يُقارن بما على الأرض من مظاهر الحياة يتبيّن أنّ وحدةً في التّكوين جامعة  بينه وبينها من أهمّ عناصرها   عنصر الماء كما عبّر عنه قوله تعالى: " وَجَعَلْنا من المَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ" (الأنبياء / 30 )، وقوله تعالى:  "واللهُ خَلَقَ كُلَّ دابَّةٍ من ماءٍ " ( النور / 45 )

ويبلغ البيان القرآني أوجه في الدّلالة على الوحدة المادّية بين الإنسان والبيئة في قوله تعالى: " واللهُ أَنبَتَكُم من الأَرْضِ نَبَاتًا " ( نوح / 17 )، فالتّعبير بالإنبات من الأرض هو تعبير يوحي بوحدة العنصر بين الإنسان وكلّ ما ينبت من الأرض متمثّلة في إنشاء الإنسان مثل جميعها من عناصر الأرض، ووحدة الكيفيّة بينها متمثّلة في نشوء بعضها من بعض وفق دورة تشملها جميعا " فالله تعالى أنبت الكلّ من الأرض لأنّه تعالى إنّما يخلقنا من النّطف وهي متولّدة من الأغذية المتولّدة من النّبات المتولّد من الأرض [25] "    

 

ب ـ  الوحدة الروحية

ليست الوحدة التي يثبتها القرآن الكريم بين الإنسان والبيئة بمقتصرة على الوحدة المادّية، بل هو يتعدّى بها إلى وحدة بينهما ذات بعد روحي، وذلك بما يصوّر من رابطة للإنسان بالموجودات البيئيّة تجعله يشعر كأنّما هو من القرب منها وهي من القرب منه من الناحية الوجدانية بحيث تتكوّن منهما وحدة جامعة من الأخوّة والمحبّة والرّأفة والتّوافق النّفسي. فهذه المعاني كلّها يحرص القرآن الكريم على بثّها وإبرازها في صلة الإنسان بالبيئة بأساليب مختلفة وفي مقامات متعدّدة سواء بصفة مباشرة أو غير مباشرة، بحيث يستقرّ في الذّهن من مجملها صورة عن هذه الصّلة تتضمّن معنى من الوحدة الوجدانية الرّوحية تتجاوز تلك الوحدة المادّية الجافّة متمثّلة في وحدة العناصر. ويتكوّن هذا المعنى المتضمّن للوحدة الرّوحية من جملة من العناصر لعلّ من أهمّها الوحدة الوجدانية، والوحدة المعرفية.

فالوحدة الوجدانية تتمثل فيما يصوّر القرآن الكريم والحديث الشّريف من رابطة رابطة وجدانية بين الإنسان والبيئة، وهي وحدة تتمثّل في عواطف مشتركة يتبادلانها بينهما، وتكوّن منطقة مشتركة يمتدّ فيها كلّ منهما إلى الآخر في حركة وجدانية تشبه تلك التي تكون بين بني البشر. وإذا كان هذا التّصوير للوحدة الوجدانية بين الإنسان من جهة والبيئة من جهة أخرى ينحو منحى الحقيقة الواقعية في جهة الإنسان، وينحو منحى الرّمزية في جهة الموجودات البيئيّة، فإنّه على أيّة حال يقصد منه تأكيد تلك الوحدة في التّصوّر الإسلامي كخطّ أساسي من الخطوط المكوّنة لعلاقة الإنسان بالبيئة عموما، وهو خطّ يترتّب عليه أثر تربوي عظيم في السّلوك البيئي.

ومن مظاهر هذه الوحدة الوجدانية كما صُوّرت في القرآن والحديث في طرفي الحقيقة والرّمز ما يربط بين الإنسان والبيئة من عاطفة المحبّة النّاشئة من وشائج القرابة بينهما وما يترتّب عليها من عواطف الرّأفة والرّحمة والاحترام، وقد جاء ذلك المعنى مطّردا في البيانات القرآنية والحديثيّة بصفة مباشرة وغير مباشرة، ممّا يتبيّن معه أنّ المقصود معنى أصليّ في صلة الإنسان بالبيئة وليس مجرّد خواطر عارضة.

ومن ذلك ما جاء في القرآن الكريم من تشبيه للأنواع البيئيّة المختلفة عامّة، ومن الأنواع الحيوانيّة خاصّة بالنّوع الإنساني في انتظامها جميعا أمما كما ينتظم نوع الإنسان أمما، وذلك في قوله تعالى: " وما مِن دَابَّةٍ في الأَرْضِ ولا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم"   ( الأنعام / 38 )، فهذه المثليّة بين الإنسان والحيوان في الأممية تتّسع للعديد من العناصر  المشتركة بينهما التي تلتقي كلّها عند معنى القرابة بين الطّرفين، وهو ما يتيح مجالا من العاطفة الوجدانية تترتّب في العادة على ما بين الموجودات من القرابة.

ولعلّ من أبرز ما يمثّل تلك العاطفة الوجدانية بين الإنسان والكائنات البيئيّة ما جاء في قوله صلّى الله عليه وسلّم في جبل أحد لمّا أشرف عليه وهو راجع إلى المدينة من سفر " هذا جبل نحبّه ويحبّنا " [26]   ، فهو تعبير عن عاطفة وجدانية  هي عاطفة المحبّة بين الإنسان وبين هذا الجبل، ويمكن أن تتعدّى  هذه العاطفة بالقياس إلى سائر مظاهر البيئة من المخلوقات، فإذا عاطفة من المحبّة والودّ تربط بين الإنسان وبين البيئة بأكملها.

ومن حيث الوحدة المعرفية يُقدَّر في الثّقافة الإسلامية أنّ الطّبيعة حقيقة واقعية خارجيّة مستقلّة عن الوعي الإنساني، وأنّ هذه الحقيقة هي حقيقة واقعيّة في تفاصيلها وخصائصها التي تتمايز بها الموجودات في ألوانها وأشكالها وأحجامها وليست مجرّد امتداد كمّي يضفي عليه العقل الإنساني تلك الخصائص كما هو الأمر في بعض الفلسفات. كما أنّ هذه الطّبيعة هي حقيقة واقعية أيضا في سننها وقوانينها التي رُكّبت عليها والتي تنحكم بها في سيرورتها.

ومن جهة أخرى فإنّ وسائل المعرفة الإنسانية عموما والعقل منها خصوصا مهيّأة في طبيعتها بحيث تتمكّن من إدراك حقيقة البيئة الطّبيعيّة على ما هي عليه في وضعها الواقعي، وبذلك تكون عملية المعرفة إنّما هي حصول لصورة الواقع الطّبيعي في الذّهن الإنساني سواء في خصائصة المحسوسة أو في أوضاعه الكيفيّة من القوانين والأنظمة.

إنّ هذا المفهوم المعرفي للطّبيعة كما هو مستقرّ في الثّقافة الإسلامية هو مفهوم يجعل من الإنسان والبيئة وحدة معرفية تنضاف إلى الوحدة المادّية والوجدانية؛ ذلك لأنّ هذا التّوافق بين الوسائل المعرفية للإنسان في طرائقها الإدراكية وبين البيئة في واقعيتها وفي طبيعة تكوينها من شأنه أن يجعل بين الذّات العارفة وبين الموضوع محلّ المعرفة ضربا من التّطابق يخلو من أيّ نشاز أو ترافض أو تعارض، فيبدو الطّرفان إذا وحدة معرفيّة متكاملة كما تبدو الوحدة في التّكامل بين المفتاح وبين القفل الذي صُمّم على مقداره لتتمّ بينهما عمليّة الفتح في غير نشاز.

إنّ هذه الوحدة المعرفية هي التي عبّر عنها القرآن الكريم بصفة ضمنية أو مباشرة كما يتمثّل في الحثّ الدّائب للإنسان كي يوجّه حواسّه وعقله إلى مشاهد البيئة الطّبيعيّة لاستيعاب حقيقتها ما كان منها ظاهرا وما كان خفيّا، وكما يتمثّل في الإشارة إلى أنّ ذلك التّمثّل إنّما هو داعي تقارب وانسجام بين الإنسان والبيئة، وذلك كما جاء في قوله تعالى: " ومن آيَاتِه أَن يُرْسِلَ الرّياحَ مُبَشِّراتٍ وليُذيقَكُم من رَحْمَتِه ولتجْريَ الفُلكُ بأَمْرِه ولتبْتَغُوا من فَضْلِه ولَعَلَّكُم تَشْكُرُون "( الروم / 46 )، ففي الآية دعوة ضمنيّة إلى تمثّل معرفي لظاهرة بيئيّة هي ظاهرة الرّياح، إذ ذلك التّمثّل سيفضي إلى اكتشاف توافق بين هذه الرّياح وبين الإنسان في مصالحه ومطالبه عُبّر عنه بالبشرى وبالرحمة، من حيث قد يُظنّ في الظّاهر حينما لا يتمّ ذلك التّمثّل لحقيقتها أنّها مناقضة له، فالمعرفة بحقائق البيئة كما هي عليه في واقعها هي إذن أمر ممكن، وهي أيضا عامل توافق وانسجام ووحدة بين الإنسان والبيئة، وذلك خلافا لما ينتهي إليه التّصوّر لاستعصاء البيئة عن أن تُعرف حقيقتها من شعور بالتناقض والغربة كما سنبيّنه تاليا.

 

2 ـ الأثر السّلوكي للتصوّر الأخلاقي لعلاقة الإنسان بالبيئة

إنّ الصّورة الثّقافيّة الأخلاقية لعلاقة الإنسان بالبيئة كما شرحناها آنفا صورةً قرآنيّة لا تكمن قيمتها في ذاتها كحقيقة عقدية، وإنّما يتعدّى الأمر ذلك لتظهر قيمتها أيضا في أثرها السّلوكي في التّصرّف البيئيّ، وهو ما يعنينا في هذا السّياق بالدّرجة الأولى، وذلك باعتبار ما نحن بصدده من معالجة قضايا البيئة التي فجّرتها الأزمة الرّاهنة التي تعيشها من منظور إسلامي، ووفقا لما طرحناه في صدر هذا البحث من أنّ هذه الأزمة هي في جوهرها أزمة ثقافيّة أخلاقية، فعلاجها هو بالأساس علاج ثقافي. أخلاقي

إنّ هذا التصوّر الثقافي الأخلاقي لعلاقة الإنسان بالبيئة حينما يحلّ في الأذهان يصبح عنصرا ثقافيّا أصيلا في نطاق الثّقافة البيئيّة خصوصا والثّقافة الحياتية عموما، وحينئذ فإنّه يكون له أثر نفسيّ يظهر بيّنا في السّلوك البيئي، بحيث يكون ذلك السّلوك موجّها بتلك الصّورة الثّقافيّة الأخلاقية كما تبيّنّا الأمر في الأثر السّلوكي للصّورة الثّقافيّة لحقيقة البيئة في ذاتها.

وطبيعة السّلوك البيئيّ الذي يثمره هذا التصوّر إنّما يكون على شاكلته  وذلك باعتبار أنّ كلّ فكرة معيّنة في الذّهن تؤدّي إلى سلوك معيّن في الواقع، فحينما يستقرّ في ذهن الإنسان فردا وجماعة استقرارا ثقافيّا راسخا أنّ البيئة التي يعيش فيها هي بيئة تربطها به في ذات وجوده صلة وحدة مادّيّة وروحية مع تميّز قيميّ له عليها، كما تربطها به وظيفيّا صلة تسخير له ليؤدّي عليها وظيفة مرسومة له في الحياة، فإنّ هذه الثّقافة من شأنها أن تفضي إلى سلوك بيئيّ يكون متّصفا بصفات تقتضيها طبيعة تلك الصّلة في وجهي الوحدة والتّسخير. ولعلّ من أهمّ تلك الصّفات صفتين أساسيتين هما: الأخلاقية في التّعامل، والقواميّة على البيئة.

 

أ ـ  أخلاقيّة التّصرّف البيئيّ

المقصود بأخلاقيّة التّصرّف البيئيّ في هذا السّياق هو التّعامل مع البيئة تعاملا يحدّده الشّعور بالواجب إزاءها، ويكون فيه للقيم الخلقية نصيب وفير في التّوجيه، بحيث تنتفي منه معاني الاستهتار واللاّمبالاة، كما تنتفي معاني الأنانية والأثرة، ومعاني الحقد والتّسلّط والاحتقار، بحيث يصبح الإنسان وهو يتعامل مع البيئة ينطلق من منطلق يشبه منطلقه وهو يتعامل مع أخيه من بني جنسه حسب القواعد التي يمليها الضّمير الأخلاقي الذي يحفظ للآخرين حقوقهم أيضا حينما يمارس الإنسان حقوقه مع اعتبار للاختلاف بين الإنسان والبيئة في التّميّز القيمي وفي طبيعة الوظيفة المطلوبة منهما.

ولعلّ أوّل ما يرتكز عليه هذا التّصرّف الأخلاقي إزاء البيئة هو الإحساس الرّوحي بها، وذلك على معنى أن تكون البيئة الطّبيعيّة واقعة في النّفس الإنسانيّة موقعا بحيث لا يشعر بها فيه بمجرّد حواسّه المادّية، فتكون إذن مجرّد كتلة مادّية نقلها إلى شعوره البصر والسّمع واللّمس، وإنّما تكون واقعة في نفسه موقعا يحسّها فيه أيضا بحواسّه الرّوحية من العواطف المختلفة، فتكون إذن في ذلك الموقع كائنا ذا روح ومشاعر وأحاسيس، ينتفع ويتضرّر، ويُسرّ ويألم، ويُعافى ويمرض، وشأنه في ذلك لا يختلف كثيرا عن شأن الإنسان في تعرّضه لهذه المتقابلات الشّعوريّة باعتباره كائنا حيّا.

    وحينما يقع التّصوّر الثّقافي للإنسان في الذّهن أنّه تربطه بالبيئة صلة وحدة وجوديّة مادّية وروحيّة كما شرحناه، فإنّ ذلك من شأنه أن يشعره بأنّ هذا الكائن المتوحّد معه هو كائن حيّ ذو شعور، إذ الوحدة بين طرفين حينما تكون حقيقة ثابتة في التّصوّر فإنّ من مقتضياتها أن تُعدّي ما في أحدهما من المعاني إلى الآخر، فيكون الإنسان إذن بتصوّر وحدته مع البيئة  مُعدّيا إليها ما يجد في نفسه أنّه هو يتّصف به من صفات الحياة لتكون هي أيضا متّصفة به في تصوّره بقطع النّظر عمّا يكون عليه شأنها في واقع الأمر.

ولمّا يقع في التّصوّر الإنساني بعامل الشّعور بالوحدة مع البيئة أنّ هذه البيئة كائن يشبهه في صفات الحياة، فإنّ من ذلك ينفسح مجال واسع لروابط شعوريّة ذات بعد أخلاقيّ، إذ ستنشأ في الإنسان مشاعر إزاء البيئة تمتلئ بمعاني الأخوّة والقربى وما يتبعها من معاني الرّأفة والرّحمة والحدب واللّين، وكيف بصورة ثقافيّة تتنزّل فيها البيئة من الإنسان منزلة الوحدة معه في المأتى والمصير، وفي العناصر والأنظمة، وفي التّوافق المعرفي بين الطّرفين لا تثمر في نفس الإنسان هذا الإحساس بالأخوّة والرّحمة والرّأفة تجاه هذه البيئة المتوحّد معها؟

وهذه المشاعر الأخلاقيّة التي تحدث في الإنسان إزاء البيئة لمن شأنها أن توجّه سلوكه البيئيّ توجيها أخلاقيّا، بحيث يكون هذا السّلوك عاملا على حفظ الحياة البيئيّة في عناصرها وأنظمتها، وتنميتها في سبيل البقاء والعطاء، وصيانتها من الدّمار بجميع مظاهره، وبالإضافة إلى أنّ هذا التّصرّف الأخلاقي تقتضيه الوحدة الوجدانيّة، فإنّها تقتضيه أيضا وحدة المصير، إذ أليس في الرّحمة بالبيئة والحفاظ عليها من الهلاك رحمة بالإنسان نفسه وحفظا له من الهلاك باعتبار وحدة المصير بين الطّرفين، فيكون إذا التّصرّف الأخلاقي بالرّأفة إزاء البيئة إنّما هو في ذات الوقت من باب التصرّف الأخلاقيّ إزاء الإنسان؟

إنّ هذا المعنى الذي فيه اقتضاءُ الوحدة بين الإنسان والبيئة التّصرّفَ الأخلاقيّ إزاءها هو من بين ما يشير إليه قوله تعالى: " مَن قَتَلَ نَفسًا بغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ في الأرضِ فَكَأَنّمَا قَتَلَ النّاسَ جميعًا ومَن أَحْيَاها فَكَأنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَميعًا" ( المائدة / 32) فالفساد في الأرض الذي جُعل أحد أسباب قتل النّفس الإنسانيّة بغير حقّ يشمل من بين ما يشمل الفساد الذي يحدثه الإنسان في البيئة فيؤدّي إلى هلاك النّفوس، ويكون بذلك من أفسد البيئة فكأنّما قتل النّاس جميعا، ويتداخل إذن المصير بين الإنسان والبيئة   بحيث يؤدّي هلاكها إلى هلاكه؛ ولذلك اعتُبر في الآية الإفساد البيئيّ عملا غير أخلاقيّ وشدّد عليه النّكير، واعتُبر في المقابل بمفهوم الخلف عملا أخلاقيّا إحياءُ النّفوس بالمحافظة على البيئة صالحة للحياة وتنميتها في سبيل ذلك  . [27]

وفي نفس هذا المعنى الذي فيه اقتضاء الوحدة بين الإنسان والبيئة التّصرّفَ الأخلاقيّ إزاءها جاء قوله صلّى الله عليه وسلّم: " أَكْرمُوا بني عمّاتكم النّخلَ " [28] ، فالتّصرّف الأخلاقي المأمور به في الحديث متمثّلا في إكرام البيئة بالحفاظ عليها مشارا إليه بإكرام عنصر من عناصرها وهو النّخل، إنّما هو إكرام اقتضاه كما يفيده السّياق وشائج القربى بين الإنسان والبيئة التي عُبّر عنها بـ " بني عمّاتكم "، وإذا كانت البيئة كلّها أختا للإنسان كما تفيده معاني الوحدة، فإنّ تلك القربى تقتضي إكرامها بالتّصرّف الأخلاقي.

لقد كان هذا الأثر السّلوكي البيئي لصورة الوحدة بين الإنسان والكون في التّحضّر الإسلامي نسيجا عامّا لهذا التّحضّر لا تنحصر مظاهره، ولكن لعلّ من الأمثلة البارزة ذات الدّلالة في شأنه ما اشتهر عند المسلمين من تخصيص أوقاف من الأموال والعروض   لأصناف معيّنة من الحيوانات في سبيل رعايتها وصيانتها   وإذا عُلم أنّ هذه الأوقاف هي عمل شعبيّ على سبيل التعبّد وليس حكوميّا تبيّن العمق الحضاري لهذا السّلوك البيئي.

وقد عُرف في الحضارة الإسلامية تحريم الإتلاف للمكوّنات البيئيّة في كلّ الأحوال بما في ذلك ظروف الحرب وقد كان أمرا جاريا في سائر الحضارات، وشاهده قول أبي بكر الصّدّيق لأحد قوّاد جيشه وهو يودّعه في فتح إلى الشّام: " لا تقطع شجرا مثمرا، ولا تخرّبنّ عامرا، ولا تعقرنّ شاة ولا بعيرا إلاّ لمأكلة، ولا تغرّقنّ نخلا ولا تحرّقنّه" [29]

حينما عوتب الجاحظ عن بحثه في شؤون الكلب والدّيك لقلّة الغناء المادّي فيما يتوصّل إليه من الحقائق فيهما أجاب قائلا: " لسنا نقف على أثمانهما من الفضّة والذّهب، ولا إلى أقدارهما عند النّاس، وإنّما نتنظّر [ أي نطيل التّأمّل ] فيما وضع الله عزّ وجلّ فيهما من الدّلالة عليه، وعلى إتقان صنعه، وعلى عجيب تدبيره"   [30] .

إنّها مشاهد ثلاثة من السّلوك البيئي في الواقع الحضاري الإسلامي تبيّن أثر الشّعور بعلاقة الوحدة مع البيئة وجوديّا وروحيّاكما صوّرها القرآن الكريم في التصرّف السّلوكيّ إزاءها وفق قيم أخلاقيّة في الرأفة بها، وصيانتها من أن تنالها يد الدّمار، والبحث في حقيقتها عمّا يتجاوز العائد النّفعي المادّي إلى العائد الرّوحي.

وفي مقابل هذا الأثر السّلوكيّ المتّصف بالأخلاقيّة الذي يثمره التصوّر الثّقافي القائم على الوحدة بين الإنسان والبيئة كما تبيّن منطقيّا وواقعيّا، فإنّ التّصوّر الثّقافي للانفصال بينهما ينتهي إلى سلوك مخالف لذلك السّلوك، فإذا كان الإنسان وهو يقبل على البيئة ليمارس فيها الحياة يقع في نفسه أنّه كائن منفصل مادّيّا وروحيّا عن هذه البيئة، فإنّ هذا التّصوّر سيفضي به حتما إلى شعور نفسيّ من الغربة إزاءها، وهو شعور يفضي بالإنسان إمّا إلى موقف سلوكي ينعزل فيه عن هذا الكائن الغريب، فإذا هو زاهد فيها مستقيل منها، أو هو خائف منها يتّخذ من عناصرها آلهة يهدر قواه في تقديم القرابين إليها، وهو في الحالين لا ينشئ حضارة ذات بال، وإمّا إلى موقف سلوكيّ يكون فيه معاديا لهذا الكائن الغريب، فإذا هو مصارع لها في سبيل إقامة حياته صراعا نفعيّا مادّيّا، فتختفي إذن القيم الأخلاقيّة في التّعامل البيئيّ، وقد ينتهي ذلك الصّراع إلى إقامة تحضّر مشهود، ولكنّه ينتهي أيضا إلى جراحات مثخنة يلحقها الإنسان بالبيئة قد تؤول بها إلى الدّمار.

وإذا كانت ثقافات قديمة كالثّقافات الطّوطميّة والثّقافات الغنوصيّة الصّوفيّة قد انتهى بها الشّعور بالغربة إزاء البيئة إلى الموقف الأوّل الذي لم يثمر حضارة ذات شأن، فإنّ الثّقافة الغربيّة فيما قامت عليه من تصوّر يفصل بين الإنسان والبيئة انتهى بها الأمر إلى موقف الصّراع معها، وانتهى ذلك الصّراع إلى الأزمة البيئيّة الرّاهنة.

وحينما استقرّ في هذه الفلسفة تصوّر الانفصال بين الإنسان والبيئة، وجُعل الإنسان وحدة بذاته مقابلا للبيئة كوحدة في ذاتها، فإنّ المقياس الأخلاقي في التّعامل انحصر إذن في الحضارة الغربيّة في مجال التّعامل بين الإنسان والإنسان، وانحسر عن مجال التّعامل بين الإنسان والبيئة، وذلك ما عبّر عنه توقانيروف أحد مفكّري هذه الفلسفة في قوله: "تطبيق المفاهيم الأخلاقيّة على العلاقة بالطّبيعة يدعو للشّكّ جدّا، فقطع الغابات، وقتل الحيوانات ليسا عملين لا أخلاقيين، إنّ مجال العلاقة الأخلاقيّة أو اللاّأخلاقيّة محصور بالإنسان والمجتمع فقط " [31] ، ولمّا انسحبت الأخلاق من التّعامل مع البيئة، وحكّم في ذلك قانون الغاب انتهى الأمر إلى الدّمار البيئيّ.

إنّ هذه الثّقافة الصّراعيّة مع البيئة التي أسّستها الفلسفة الغربيّة بما قرّرت من صورة انفصال الإنسان عن البيئة وتباعده عنها هي التي وجّهت الحضارة الرّاهنة إلى مسلك في التّعامل البيئيّ اتّصف بالعدائيّة والعنف، وأدّى إلى التّدمير البيئي، وقد فطن الكثير من مفكّري هذه الحضارة أنفسهم إلى أنّ علاج هذا المسلك التّدميري إنّما يكون بإصلاح ثقافيّ لعلاقة الإنسان بالبيئة، وذلك ما لاحظة رينيه دوبو ( Rene Dubos ) في قوله: " إنّ غزو البيئة أو السّيطرة عليها ليست الطّريقة الوحيدة للتّخطيط، ولا هي على كلّ حال الطّريقة الفُضلى، وعلى الإنسان عوضا عنها أن يحاول التّعاون مع قوى الطّبيعة، يجب أن يجعل نفسه جزءا من البيئة بحيث يصبح هو ونشاطاته في وحدة عضويّة مع البيئة " [32]   ، وإذن فإنّه مهما تصوّر الإنسان نفسه ثقافيّا موصولا بالبيئة تصرّف فيها بالصّلاح، ومهما تصوّر نفسه ثقافيّا مفصولا عنها تصرّف فيها بالفساد، وفي مقارنة الحضارة الإسلامية بالحضارة الغربية تصوّرا ثقافيّا وسلوكا بيئيّا عمليّا مصداق على ذلك.

 

أ ـ  القوامة على البيئة

إذا ما أقبل الإنسان على البيئة ليحقّق فيها الحياة وهو يحمل تصوّرا عنها يكون فيه موحّدا معها، وتكون هي مسخّرة له في سبيل إنجاز مهمّة التّعمير المكلّف بها في حياته، فإنّ هذا التّصوّر من شأنه أن يجعل تصرّفه في البيئة تصرّف قوامة عليها، وذلك على معنى أن يكون راعيا لها، مشرفا عليها كما يكون صاحب المزرعة مشرفا على مزرعته، يستفيد من خيرها ولكنّه يحافظ على مقدّراتها بالصّيانة والتّنمية ليكون ذلك الخير موصولا، ولا ينتكس يوما ما بسبب إفساده فيها.

إنّ ثمّة فرقا كبيرا في الأثر النّفسي والسّلوكي بين رجل يحلّ في بستانه الذي يرتبط به برابطة روحيّة، ويجده مهيّأ له في زروعه وأشجاره وأنظمته بما يحقّق مصالحه وأهدافه، وبين رجل يحلّ ببرّية لا يشعر أنّ له بها علاقة سوى صدفة الحلول فيها، ولا يجد فيها من الخصوصية إلاّ ما يجد سائر من يحلّ بها من الكائنات، فالأوّل سيكون موقفه من البستان موقف القوامة والرّعاية بسبب الوحدة الرّوحية الرّابطة بينهما والخصوصية التي يجدها فيه، والثّاني سيكون موقفه من البرّية موقف من لايهمّه من أمرها إلاّ ما يستفيده منها في الآن بأكبر قدر ممكن دون اعتبار لما تؤول إليه من مصير، إذ لا هو تربطه بها رابطة، ولا هي مهيّأة له بخصوصية. وفي موضوع الحال، فإنّ التّصوّر الإسلامي لعلاقة الإنسان بالبيئة كما شرحناه من شأنه أن يفضي إلى موقف سلوكيّ من البيئة يقوم على القوامة والرّعاية كموقف ذلك الرّجل الأوّل من بستانه، لا كموقف الرّجل الثّاني من البرّية التي يحلّ فيها.

إنّ معنى خيرية البيئة وكفايتها وعلاقة الودّ معها كما جاء في التصوّر الإسلامي يعني من بين ما يعني أنّ البيئة مهيّأة للإنسان من أجل أن تكون له مسرحا صالحا يؤدّي عليه وظيفته في الحياة، وأنّ هذه التّهيئة مقدّرة بحسب ما تقتضيه تلك الوظيفة. وحينما تكون هذه الوظيفة هي الخلافة في الأرض مثلما بيّنّا، فإنّ التّمثّل لهذا المعنى سيجعل الإنسان متصرّفا في البيئة بالاستهلاك من مقدّراتها بما يكفي للقيام بما كُلّف به من مهمّة، دون أن يكون له في ذلك زيادة، فالاستهلاك البيئيّ إذن سيكون استهلاكا موجّها بمقتضيات مهمّة لا تكون فيها هذه الحياة الدّنيا هي كلّ الحياة لا من حيث الوجود، ولا من حيث الأثر المترتّب على الدّور الوظيفيّ، وإنّما ستتلوها حياة أخرى بعدها أعلى منها شأنا، وليس موجّها بمقتضيات شهوات تعتبر معها أنّ هذه الحياة هي كلّ الحياة، ينتهي بانتهائها كلّ وجود للإنسان، وينتهي أيضا كلّ أثر لدوره الوظيفي.

إنّ علاقة التّسخير البيئيّ كعنصر من عناصر علاقة الإنسان بالبيئة بالمفهوم الذي بيّنّاه انفتاحا للبيئة على الإنسان بالعطاء كـمّا وكيفا من أجل إنجاز مهمّته في الحياة انفتاحا مشروطا بالطّلب السّاعي منه وليس انفتاحا مجانيا هي علاقة حينما يتمثّلها الإنسان فإنّ من شأنها أن توجّه سلوكه إزاء البيئة توجيها يكون فيه سلوكا عدلا، فيه إقبال على البيئة بسعي استهلاكيّ، إذ لا يمكن أن تتمّ الخلافة في الأرض إلاّ بالتّعمير الذي يستلزم قدرا من الاستهلاك، ولكنّه استهلاك محدود بحدود وظيفة الخلافة وما قُدّر لها في التّسخير من مقادير، دون أن يكون مسترسلا مع الشّهوات بحيث يرهق تلك المقادير، فيحدث فيها الخلل في عناصرها وتوازنها. إنّها إذن قوامة على البيئة يوجّهها هذا التّصوّر التّسخيري فيكون السّلوك البيئيّ للإنسان كسلوك صاحب البستان، يرعاه ويقوم عل شؤونه ليستهلك من خيره بمقدار ما يلبّي الحاجة وما يحافظ على صلاحه.

وقد كان لهذا السّلوك القوامي النّاشئ من تصوّر العلاقة التّسخيريّة مصداق واقعيّ في الحضارة الإسلاميّة، فقد كان السّلوك البيئيّ لهذه الحضارة سلوكا يتجلّى فيه معنى القوامة على البيئة حفاظا عليها وتنمية لها ، وكيف لا يكون ذلك في حضارة جرى الأمر فيها على أنّ ملكيّة الأرض مشروطة بتعميرها؟ " فمن أحيا أرضا ميتة فهي له " [33] ، ومن أمات أرضا حيّة انتزعت منه، وكيف لا يكون ذلك في حضارة انطبعت في التّعمير البيئي بقوله صلّى الله عليه وسلّم: " إذا قامت السّاعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع ألاّ يقوم حتى يغرسها فليغرسها " [34]   ؟ وكيف لا يكون ذلك في حضارة لمّا فتح أهلها أرض العراق وغيرها، فإنّ تلك الأرض ازداد ازدهارها الزراعي في السّنة التي فتحوها فيها، فقد كانت الحرب فيها سبب تعمير بيئيّ خلافا لما عرف الإنسان من شأن الحضارات؟ إنّ ذلك كلّه ليس إلاّ بسبب مسلك حضاريّ بيئيّ يوجّهه معنى القوامة على البيئة قوامة صاحب البستان على بستانه، ذلك المعنى الذي ولّدته في النّفوس الصوّرة الثّقافيّة لعلاقة التّسخير.

إنّه إذن تصوّر ثقافيّ أخلاقي إسلامي لعلاقة الإنسان بالبيئة يقوم على علاقة وجوديّة بينهما تتأسّس عليها وحدة بين الطّرفين ذات بعد مادّيّ وروحيّ مع تميّز قيميّ للإنسان، وهي وحدة من شأنها أن تطبع سلوكه البيئيّ بطابع الاستثمار الودّي اللّطيف، كما يقوم على علاقة وظيفيّة تتأسّس على معنى تسخير البيئة للإنسان في سبيل إنجاز وظيفة في الحياة هي وظيفة الخلافة في الأرض، وهو معنى من شأنه أن يطبع سوكه البيئيّ بطابع القوامة التي تكون بها صيانة البيئة والحفاظ عليها. وقد حقّق هذا التّصوّر الإسلامي نمطا من الحضارة شهد من احترام البيئة والعمل على صيانتها من التّلف والسّعي في تنمية مواردها ما حفلت به سجلاّت التّاريخ وشهد به المنصفون من المؤرّخين على اختلاف مذاهبهم وعقائدهم.

وفي مقابل ذلك فإنّ الأزمة الرّاهنة للبيئة التي كانت نتاجا للحضارة الغربية السّائدة، إنّما هي راجعة في أسبابها إلى ذلك التّصوّر الثّقافي للعلاقة بين الإنسان والبيئة الذي أسّسته الفلسفة الحديثة، وهو تصوّر قام على علاقة وجوديّة ووظيفيّة تتّصف بالقطيعة والانفصال بين الطّرفين، فأصبح السّلوك البيئيّ لهذه الحضارة مطبوعا بطابع الصّراع والمغالبة لاستنزاف أكبر قدر ممكن من المقدّرات البيئيّة في سبيل تحقيق الرّفاه المادّي، وهو ما أفضى إلى إرهاق البيئة في مادّتها ونظامها، ومنه نشأت هذه الأزمة الرّاهنة.

وإذا كان التّصوّر الثّقافي الأخلاقي الإسلاميّ لعلاقة الإنسان بالبيئة لم يكتب له في الواقع أن يُمتحَن بدرجة من التّطوّر الحضاريّ في وجهه المادّي كما امتُحن التّصوّر الثّقافي الغربي لهذه العلاقة بما وصلت إليه الحضارة الغربيّة من تطوّر لتبلغ المقارنة بينهما في الآثار السّلوكيّة البيئيّة مداها، إلاّ أنّ التّحليل المنطقي للرّوابط بين المقدّمات متمثّلة في طبيعة التّصوّر الثّقافي وبين النّتائج متمثّلة في الآثار السّلوكيّة البيئيّة، مضافا إليه ما انطبعت به الحضارة الإسلامية من سلوك بيئيّ قويم في المدى المادّي الذي وصلت إليه ـ وهو مدى ليس بالهيّن ـ مضافا إليه أيضا ما أسفر عنه امتحان الحضارة الغربيّة واقعيّا من سلوك بيئيّ أفضى إلى هذه الأزمة البيئيّة، تشهد جميعا بأنّ أزمة البيئة من منظور إسلامي إنّما هي أزمة تضرب بجذورها في التّصوّر الثّقافي لعلاقة الإنسان بالبيئة، وأنّ علاجها لا يمكن أن يتمّ إلاّ بإصلاح ثقافيّ أخلاقي في اتّجاه المنظور الثّقافي الإسلامي [35] .

 

 

فيديو

 

 


الهوامش

[1] زين الدّين عبد المقصود ـ البيئة والإنسان: 193 والكلام منقول عن: زيمر مان

[2] راجع: آل قورـ الأرض في الميزان: 165

[3] راجع: آل قور ـ الأرض في الميزان: 115 وما بعدها

[4] راجع: جان ميري بيلت ـ عودة الوفاق بين الإنسان والطّبيعة: 94، وآل قور ـ الأرض في الميزان: 119 وما بعدها 

[5] راجع: آل قور ـ الأرض في الميزان:123 

[6] رشيد الحمد ومحمد سعيد ـ البيئة ومشكلاتها: 156، وراجع في تعريفه أيضا: سعيد الحفار ـ بيئة من أجل البقاء: 192 

[7] آل قور ـ الأرض في الميزان: 87 

[8] راجع في تلوّث التربة: سامح غرايبة ويحي الفرحان ـ المدخل إلى العلوم البيئيّة: 141، وعلياء حاتوغ ومحمد حمدان ـ علم البيئة: 234 ، 238، وسعيد الحفار ـ بيئة من أجل البقاء: 280 

[9] نفس المرجع: 95، وراجع في نفس المرجع أيضا  ( ص: 61 وما بعدها )أمثلة تاريخيّة كثيرة على أثر التّغيّر المناخي ولو كان طفيفا على حضارة الإنسان.

[10] راجع: آل قور ـ الأرض في الميزان: 95 

[11] من حكمة الله تعالى وجعله كلّ شيء موزونا بمقدار أنّ غاز الأوزون إذا لامس الحياة كانت الكمّية الضّئيلة منمّية لها ، فإذا ما زاد تركيزه أصبح سامّا، وإذا ما ابتعد عن الحياة في طبقات الجوّ انعكست آيته، فإن تركّز كان صالحا للحياة بما يصدّ من الأشعّة فوق البنفسجية، وإن قلّ صارت قلّته ضارّة لسقوط تلك الأشعّة إلى الأرض وتدميرها للحياة.  

[12] راجع في ظاهرة تهتّك الأوزون: محمد عبد القادر الفقي ـ البيئة: 166 وما بعدها، وآل قور ـ الأرض في الميزان: 58 

[13] راجع: سعيد الحفار ـ نحو بيئة أفضل: 35 

[14] راجع مثلا: عليا حاتوغ ومحمد حمدان: علم البيئة: 243 

[15] راجع في ذلك: آل قور ـ الأرض في الميزان: 187، وجان ماري بيليت ـ عودة الوفاق بين الإنسان والطّبيعة: 53 ، 224 

[16] آل قور ـ الأرض في الميزان: 167 

[17] القرطبي ـ الجامع لأحكام القرآن: 11/279  

[18] ابن عاشور ـ التحرير والتنوير: 8/173  

[19] القاضي عبد الجبار ـ المغني: 11 / 100  

[20] الراغب الأصبهاني ـ الاعتقادات: 253  

[21] نفس المصدر: 254  

[22] الماتريدي ـ التوحيد: 109

[23] الجاحظ ـ الحيوان:3 / 299 ـ 301

[24] عن روبرت أٌقروس وجورج ستانسيو: العلم في منظوره الجديد: 106  

[25] الرازي ـ التفسير الكبير: 29/141  

[26] أخرجه البخاري: كتاب فضائل المدينة، باب حرم المدينة  

[27] ما اطّلعت عليه من التّفاسير يذهب في فهم الفساد في الأرض إلى أنّه ما يقترفه الإنسان من ردّة أو غيرها ممّا يستوجب قتله على وجه الحقّ، فيكون المعنى مقتصرا على أنّ من قتل نفسا إنسانيّة قتلا حقيقيّا مباشرا يكون كمن قتل النّاس جميعا، ويخرج منه [28] إذن قتل النّفوس بالفساد في الأرض على معنى الفساد البيئيّ، ولكنّنا نرى أنّ ذلك المعنى يدخل فيه أيضا، وإن يكن قتلا غير مباشر، ولهذا الاحتمال في الفهم قرائن، منها ما ورد من قراءة فيها { أَو فَسَادًا في الأرضِ} ( راجع: الألوسي ـ روح المعاني: 4 / 173 ) أي بسبب الفساد في الأرض الذي هو معنى عامّ يشمل القتل بإفساد البيئة، ومنها المقابلة بـ { من أَحْياها }، وإحياء النّفوس إنّما يكون بالمحافظة على الظّروف البيئيّة الصّالحة للحياة وعدم إفسادها بما يؤدّي إلى هلاكها، إذ ليس للإنسان إحياء للنّفوس غير هذا الإحياء، وثالثها ما جاء إثر هذه الآية من تقرير لجزاء المحاربين السّاعين في الأرض بالفساد، وسعي هؤلاء بالفساد الذي من أجله يستحقّون الصّلب والتّقطيع ليس هو قتل النّفوس بصفة مباشرة فقط، وإنّما هو أيضا كما هو مقرّر في الفقه يشمل إهلاك الأموال من عناصر البيئة زروعا وحيوانات وغيرها، أي الإفساد البيئيّ.

[28] أخرجه أبو يعلى في مسنده: 1/123

[29] أخرجه مالك في الموطّإ: كتاب الجهاد / باب النهي عن قتل النساء والولدان في الغزو

[30] الجاحظ ـ الحيوان: 2 / 109  

[31] توقانيروف ـ الطّبيعة، الحضارة، الإنسان: 44  

[32] عن روبرت أقروس وجورج ستانسيو ـ العلم في منظور جديد: 114

[33] حديث شريف، أخرجه الترمذي: الأحكام / باب ما ذكر في أحكام الموات

[34] أخرجه البخاري في الأدب المفرد  

[35] تراجع تفاصيل  الأفكار الواردة في هذا البحث في كتابنا: قضايا البيئة من منظور إسلامي

 

 

المراجع

-      آل قور. الأرض في الميزان ,ترجمة عواطف عبد العزيز، ط الأهرام، القاهرة 1994 .

-      توغانيروف ( ف.ب). الطبيعة، الحضارة الإنسان، تر: رضوان القضماني و نجم خريط، دار الفارابي، بيروت 1987 .

-      الجاحظ ( أبو عثمان عمرو بن بحر، ت 255 ه). الحيوان، تح : عبد السلام هارون، ط 3 إحياء التراث، بيروت 1969 .

-      جان ماري بيليت. عودة الوفاق بين الإنسان و الطبيعة، تر: السيد محمد عثمان، ط عالم المعرفة، الكويت 1994.

-      الرازي ( محمد بن عمر، فخر الدين، ت 606ه). التفسير الكبير، ط دار الفكر، بيروت 1995.

-      الراغب (أبو الحسن القاسم بن محمد الأصبهاني، ت 502 ه). الإعتقادات، تح : شمران العجلي، ط مؤسسة الأشرف، بيروت 1988.

-      رشيد الحمد. البيئة و مشكلاتها، ط مكتبة الفلاح، الكويت 1986.

-      روبرت م أقروس. العلم في المنظور الجديد، تر: كامل خلايلي، ط دار المعرفة، الكويت 1989.

-      زين الدين عبد المقصود. البيئة و الإنسان، ط2 دار عطوة، القاهرة 1981.

-      سالم غرايبة. المدخل إلى العلوم البيئية، دار الشروق، عمان 1987.

-      سعيد محمد الحفار.  الإنسان و مشكلات البيئة، ط جامعة قطر 1986.

·      بيئة من أجل البقاء، ط دار الثقافة، الدوحة 1990.

·      نحو بيئة أفضل، ط دار الثقافة، قطر 1985.

-      علياء حاتوغ. علم البيئة، ط دار الشروق، عمان 1996 .

-      القاضي عبد الجبار بن أحمد الهمذاني ( ت 415ه ). المغني، تح: محمد النجار، ط الدار المصرية للتأليف، القاهرة 1965.

-      القرطبي ( أبو عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري، ت 671 ه ). الجامع لأحكام القرآن، ط الهيئة المصرية، القاهرة 1987.

-      الماتريدي ( أبو منصور محمد بن محمد، ت 333 ه). التوحيد، تح: فتح الله خليف، ط دار الشروق، بيروت 1970.

-      محمد حمدان أبو دية. علم البيئة، ط دار الشروق، عمان 1996.

-      محمد الطاهر ابن عاشور (الشيخ). التحرير و التنوير، ط الدار التونسية للنشر، تونس 1984 .

 

 

* الأستاذ الدكتور الشيخ عبد المجيد النجار من مواليد تونس سنة 1945 وحائز على شهادة الدكتوراه في العقيدة والفلسفة من جامعة الأزهر سنة 1981. وهو رئيس المركز العالمي للبحوث والاستشارات العلمية بتونس ويعمل أستاذا بالمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس. كما  عمل بخطة  أستاذ جامعي بالجامعة الزيتونية بتونس، وجامعة الأمير عبد القادر الإسلامية بالجزائر، وجامعة الإمارات العربية المتحدة، وجامعة قطر. وعمل أستاذا زائرا بالجامعة الأردنية، والجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وجامعات عربية وإسلامية أخرى. وهو عضو المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، وعضو مجلس الأمناء والمكتب التنفيذي للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، و الأمين العام المساعد للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، وعضو المجلس الوطني التأسيسي بتونس ومقرر لجنة التوطئة والمبادئ العامة لإعداد دستور الجمهورية الثانية. نشر حوالي 37 كتابا في العقيدة، والمقاصد، وفقه الحضارة، والفكر الإسلامي، منها على سبيل المثال فقه التديّن فهما وتنزيلا، الشهود الحضاري للأمّة الإسلامية، خلافة الإنسان بن الوحي والعقل، قضايا البيئة من منظور إسلامي، فصول في منهجية الفكر الإسلامي، الآفاق الحضارية للوجود الإسلامي بالغرب، مقاصد الشريعة بأبعاد جديدة ، مراجعات في الفكر الإسلامي، محطات تراثية في الفقه السياسي، والبلاغ الحضاري. ونشر العديد من البحوث في مجلات عالمية محكّمة، كما شارك في العديد من المؤتمرات العلمية العالمية. حائز على جائزة مكتبة علي بن عبد الله آل ثاني الوقفية العالمية بدولة قطر سنة 1999 ، وجائزة المركز العالمي للوسطية بالأردن سنة 2012.

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق