#CILE2017 كلمة افتتاحية للمؤتمر الدولي السنوي الخامس: أخلاق الصراع والمقاومة: نحو فهم نقدي لمفهوم الجهاد والحرب العادلة

بسم الله الرحمن الرحيم

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

إن الأحداث الجيوسياسية التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وما صاحبها من عنف وإرهاب، قد أثارت جدلا كبيرا وأحدثت تحولات على مستويات عديدة، بل وقوضت بعض المبادئ التأسيسية للمجتمعات الدمقراطية، إلى حد إعادة تحديد هويتها. فصارت سياسات مكافحة الإرهاب تقلص من الحريات والحقوق العامة والخاصة، وتلقي الشك على إمكانية التعايش والاختلاف والتعددية الفكرية والدينية، وتعضَّدت  بذلك الأنظمة غير الدمقراطية في تبرير تصعيدها للعنف والسيطرة على المواطنين. وكان للخطاب السياسي والخطاب الإعلامي أثرهما المحوري في كل ذلك، حيث تم استخدامهما لتضخيم الخطر الإرهابي، ونشر الخوف لتبرير السيطرة والتلاعب بالسياسات العامة. وتم استخدامهما لتشكيل المفاهيم والمصطلحات من أجل كسب الرأي العام، ومنها مفهوم المقاومة، والدفاع، والإرهاب، والحرب العادلة، والجهاد، إلى غير ذلك من المفاهيم الكثيرة.

فمفهوم الارهاب مثلا مفهوم غامض لا يمكن تحديده بدقة، إلا أنه يُستخدم بسهولة لنزع الشرعية عن ممارسات العدو بوصمها بأنها أفعال غير شرعية وغير أخلاقية، فبات كل حامل الإصلاح ضد نظام قائم، أو مقاوم لقوى استعمارية غاشمة، عرضةً للاتهام بالإرهاب، بغض النظر عن شرعية فعله أو عدم شرعيته من منظور القيم الأخلاقية والإنسانية. أما مفهوم الجهاد، فإنه بات في المخيلة الجماعية يحيل إلى الحرب المقدسة التي تشن على الآخر غير المسلم، مع أن الجهاد في الإسلام وسيلة لتحقيق أنبل الغايات وأسماها. وقد أمر القرآن بالجهاد قبل إذنه بالمقاومة المسلحة بزمن طويل، فجاء في القرآن المكي قوله تعالى: "وجاهدوا في الله حق جهاده"، وقال: "ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه"، وقال: "والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا" وقال: "وجاهدهم به جهادا كبيرا"، فكل هذه الآيات عائدة إلى الجهاد الأخلاقي والروحاني والفكري من أجل غرض أسمى وهو مقاومة كل العوامل المانعة من الدخول في السلم مع الذات ومع المحيط.

ثم جاء الإذن بالمقاومة المسلحة في قوله تعالى: "أُذن للذين يقاتَلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير. الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا" وقال: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين"، فيتضح أن هدف الجهاد بكل أشكاله السلمية والحربية هدف واحد، وهو مقاومة العوائق الأخلاقية والفكرية والمادية التي تحول دون تحقيق إنسانية الإنسان، فهدفه الإصلاح، لا المصالح الضيقة، والحياة لا الموت، والتعمير لا التدمير، والتعايش لا الاكراه في الدين، والسلام لا الحرب.

وفي أمْر القرآن بالجهاد قبل إذنه في القتال إشارة إلى الفرق بين الجهاد بمعناه الشامل والقتال بمعناه الضيق، فإن القتال يحسنه كل أحد، سواء تحرر من إملاءات الأهواء أو لم يتحرر، أما الجهاد فلا يتحقق دون المجاهدة  في تخليص النفس من كل عرض مخلٍّ بإنسانية الإنسان، والدخول في السلم مع النفس ومع المحيط. وإذا اختل هذا الشرط فلا يكون الأمر جهادا بل مجرد قتال . فغرض الجهاد غرض إنساني أخلاقي، هو تحرير الإنسان من نوازع السيطرة وغرائز الهيمنة، ونصرة المستضعفين الذين يعانون جراء هذه النوازع والغرائز. وليس غرضه الخضوع لما في الإنسان من غرائز، كما هو شأن غالبية الحروب.

وهذا يقودنا إلى مفهوم السلم ومفهوم العدل، فإذا كانت غاية الجهاد العليا هي الدخول في السلم  وتحقيق إنسانية الإنسان، فذلك يعني استحالة وجود سلم دون عدل، لأن حالة السلم مع وجود الظلم والاستبداد والقهر لا تعتبر سلماً بمعايير الإسلام، حيث إن السلم هو التصالح والانسجام مع الذات والغير والمحيط، ولا يتحقق ذلك أبدا مع وجود القهر والظلم، والقرآن يقول "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان." قال بعض المفسرين، "كافة" حالٌ من السلم، أي السلم بجميع أبعاده. وقد جعلت الآية الكريمة عدم الدخول في السلم بسائر أبعاده اتباعا لخطوات الشيطان.

كل هذا يدل على أن قضية المفاهيم قضية مركزية، يجب التدقيق فيها من منطلق المرجعيات الأخلاقية والإنسانية، مع مساءلة الدوافع السياسية التي تتستر خلف استخدام هذه المفاهيم. وضمن هذا المسار يأتي انعقاد المؤتمر السنوي الدولي الخامس للمركز بعنوان: "أخلاق الصراع والمقاومة: نحو فهم نقدي لمفهوم الجهاد والحرب العادلة."

 فأسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله جهادا خالصا لوجهه الكريم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

شوقى الأزهر

نائب مدير المركز

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق