Arts & Ethics

إن الفن بمثابة خيط مغزول بدقة ينسج جميع مظاهر الحياة العصرية في ثوب قشيب رائع. ويحاول الفلاسفة جاهدين تعريف الفن بشكل مبسط من خلال تقسيم المعنى إلى تعريفات تقليدية في مواجهة أخرى عصرية، ثم تقسيم كل فئة إلى فئات فرعية تتضمن الفن الوظيفي والتاريخي والمؤسسي والتقليدي. ولا ينكر أحد أن بمقدور الجمال التعبير عن نفسه في عدة صور منها تلك الدقة المتناهية لمجموعة من الإجراءات الجراحية العصبية وصولاً إلى ضربات فرشاة محسوبة لصورة جدارية تخيلية.

إن تاريخ الكون الغني بالأحداث قد نُقل إلينا عبر الموسيقى والرسم والمعمار والأفلام والشعر، ليخلق رابطة تواصل بين البشر ومختلف العوالم التي انقضت منذ أمد بعيد، وبين الأفكار التي لا تزال منتشرة، والقضايا التي تصوغ شكل المستقبل. ويتطور الفن ليشمل الأشكال التقليدية وكذلك الأشكال الرقمية الحديثة، فالفن عبارة عن عملية تطوير في الإبداع واتساع في عدسة الملاحظة بهدف تشكيل العقل ليصبح قوة ثقافية أكثر حيوية.

وفي معرض حديثه عن الفن يرى كانط أن الفن "نوع من التمثيل الهادف في نفسه، حتى وإن كان بلا غاية، فهو يعزز عملية تهذيب القدرات العقلية للتواصل الاجتماعي".. وكما هو الحال مع أي شيء في هذه الحياة، فإن الفن لا يمكن أن يزدهر بدون نمو دائم وتشجيع متواصل على طلبه. كما أن التقدم الفني الناجح يكون بلا جدوى حقيقية إذا جاء فارغاً من القوالب الأخلاقية. ولا بد من النظر إلى الأخلاق على أنها جزء لا يتجزأ من جوانب الحياة المختلفة، ولم يعد مقصوراً على نواحي معينة خلال لحظات تأمل محددة. وفي هذا الصدد تصبح الأخلاق نفسها فناً – هو فن الحياة بأن تحيا حياة أكثر ثراءً وتفاعلاً وعطاءً (فيسماير، 2003). لا شك، أن إدراك الناحية الأخلاقية في الفن هو اتجاه يمكنه أن يؤدي بنا إلى تحول هائل في النشاط الفني.

وتحظى جميع المراحل التي تمر بها الفكرة بدءًا من انقداحها في ذهن شخص ما حتى تفسيرها من جانب الجمهور، سواء عملية الإنشاء أو التحليل أو النشر بأهمية متساوية في تطوير الحركة الثقافية والتنوير الثقافي. وهي قناة تواصل فعّالة ووسيلة للتعبير عن الرؤى بعيداً عن عالم الكلمات. وسواء كانت قطعتك الفنية مجرد امتزاج أخّاذ للألوان أو نوتة موسيقية رائعة أو بيان سياسي يكشف الظلم، فكل هذه الأشكال والصور تكشف عن رغبة تواقة للتعبير.

وهذا النهج، سواء كان فنياً جمالياً أو معرفياً، إلى جانب الأخلاق يخلق ديناميكية قوية لمشاركة الأفكار وتبادل الخواطر والانفعالات. ويعدّ الدور المركزي للخيال والتصوير في المعيشة الأخلاقية وفق تفسير فيسماير لأعمال ديوي (Dewey) أمراً غاية في الأهمية في تطوير العقل الاستدلالي البنّاء. والقدرة على التفكير الأخلاقي في موقف ما تستلزم وجود خيال مناسب يراعي كافة الاحتمالات والنتائج وبالتالي يؤدي إلى عقل استدلالي بنّاء.

لقد صاحب ظهور الفن الثقافي الشعبي ردود فعل مثيرة للجدل خاصة بين من ينقلون النصوص الإسلامية بحرفية شديدة. واليوم يحاول العلماء والخبراء توسيع هذا الأفق لإماطة اللثام عن الفن الأخلاقي وأثره على الفرد والمجتمع. وقد ثار الجدل حول عدة أمور من بينها مدى جواز رسم وتصوير الوجه البشري والاستماع إلى الموسيقى "غير الدينية" والعزف على الأدوات الموسيقية ودراستها. ويحظى الفن في البلدان الإسلامية بتاريخ شامل حافل بالمواد الفنية والازدهار خلال الفترات التي بلغت فيها الحركة الثقافية أوجها في الإمبراطورية الإسلامية.

وقد أدرك الفنانون والعلماء على حد سواء أن الفن قوة ضاربة بمقدورها تشكيل وجدان المجتمعات وتعميق الأثر الذي تسهم به في مسيرة التاريخ الإنساني. وعلاوة على ذلك كان ترسيخ الفهم الراقي للدين والوعي الدائم بالمبادئ الأخلاقية بمثابة القوة الدافعة الرئيسية التي ساعدتهم في إحراز هذا النجاح العالمي. فقد عمّت القصور المشيدة والقصائد والأدوات واللوحات أرجاء المدن وغلّفتها بغلاف رائع جميل خلق منها بيئة ملهمة في شتى المجالات والتخصصات. ومع هذا شهد عصرنا الحالي تدهوراً شديداً وتخلفاً في هذا المجال، فما هو سبب هذا التدهور ولم حدثت الانتكاسة في تناول الفن من منظور ديني؟ وكيف يمكن أن يحوز الفن على قبول واسع من المنظور الديني مرة أخرى مع معالجة المشكلات المعاصرة التي نزلت به؟

إن موضوع الأخلاق والفنون أمر في غاية التعقيد في عالم لا يقل تعقيداً هو الآخر مما يثير العديد من القضايا ويطرح العديد من التساؤلات.

وإذا كان الإبداع هو المحرك الوحيد للفن في عالم مثالي، فما حجم الدور الذي تلعبه النزعة الاستهلاكية في وجود الأعمال الفنية؟ يرى الفيلسوف الشهير جون ديوي أن "الفصل بين الفن الجميل والفن المفيد، مع أنه يرجع إلى الحقبة اليونانية، إلا أنه قد بلغ أشده في وقتنا الحالي من خلال الإنتاج الضخم والأهمية الكبرى للصناعة والتجارة". فهل تشهد القيم الفنية الثقافية حضوراً مناسباً وتأثيراً معقولاً في القيم الاقتصادية، وإذا كان الأمر كذلك، فمن الذي يحدد تلك القيم وإلى من تُعزى؟ إن القيم ليست بمعزل عن المجالات الفنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بل تمتد إليها جميعاً في وقت واحد. وترتبط بالطلب على نحو وثيق، وتقود خطى العقلية الرأسمالية للعرض والطلب مما ينشئ نظاماً يقوم على الاستهلاك. لكن ما الذي يمكن أن يحدث للفن إذا انهار هذا النظام الموجّه اقتصادياً؟

إن للفن حضوره القوي وتأثيره الكبير في كل دين وثقافة ومجتمع على مدار التاريخ الإنساني وحتى يومنا هذا. فلم يصبح الفن مقيداً يوماً بعد يوم، وأمراً ثانوياً عبر الشرائع الدينية؟ وإلى أي مدى استندت تلك المحظورات والقيود على أساس تفسير ثقافي للنصوص؟ وفي عالمنا المعاصر بما يشهده من إمكانيات هائلة لمشاركة المعلومات والتطورات الثقافية بسرعة مذهلة، بأي منطق يقيّد المسلمون أنفسهم عن المشاركة بسبب فهم حرفي متشدد؟ لا شك أن هذه الأسئلة ترتبط على وجه الخصوص بالفنون الترفيهية كالموسيقى والأفلام.

كما يلعب النوع الاجتماعي "الجندر" دوراً أساسياً في الجدل القائم حول المرأة والمساواة مع الرجال في جميع الحقوق (خاصة في مجال الفنون التعبيرية والأدائية)؟ فهل يتعين إبداء الحكم في كل مسألة، صغيرة كانت أو كبيرة، أم أنه من الأفضل أن يسكت العلماء عن بعض القضايا التي تحوط الفن؟ كيف لنا أن نحوّل من طريقة تفكيرنا لنوازي بين الفن والدين؟

يعدّ التعليم أفضل وسيلة لتقدم الإنسان. ويلعب تعليم الفنون دوراً أساسياً في تشكيل وجدان المواطنين المتحضرين في عالم معاصر. ومع ذلك، فإن افتقاد الأهمية والتمويل من بين المشكلات الرئيسة التي يواجهها تعليم الفنون. فما السبب في تلك النظرة الدونية التي ترى أن تعليم الفنون أقل أهمية من غيره من العلوم؟ ما الذي يمكن فعله تجاه وصمة العار التي تلاحق كليات الفنون ومهنة الفن في أغلب المجتمعات المعاصرة؟ كيف لنا أن نوفر منافذ أخلاقية يمكن من خلالها للفنانين الناشئين تنمية مهاراتهم ومواهبهم؟

هناك في كثير من الحالات فجوة بين النظرية والتطبيق إذ يتم تعليم الفنون في الغالب الأعم بشكل يؤهل لتطوير المهارات بغرض اجتياز الاختبارات فقط. ويرى دينيس أتكينسون أنه لا بد من التركيز على المهارات الحرفية بدلاً من المهارات التعبيرية. فكيف إذاً يمكننا سد الفجوة بين مدارس الفنون وبين الفن المعاصر؟

هل من الضروري أن يكون وراء الفن هدف ما في كل الأحوال أو من الممكن أن يكون وجود الفن من أجل الجمال فقط؟ إن علم الجمال والأخلاق هو حقل جديد يستلزم مزيداً من التفكير والبحث. فهل هناك فن بلا هدف؟ ومن يحكم على الشيء بالجمال من عدمه، وهل يرتبط هذا الأمر بالقيمة الأخلاقية؟

وسوم

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق