الضوابط الأخلاقية للفن

الضوابط الأخلاقية للفن

عصام تليمة*

 

مقدمة

الحديث عن الضوابط الأخلاقية للفن؛ لو أطلق للقلم العنان فيه لاحتاج الباحث إلى صفحات طوال، يضيق بها المساحة المتاحة للبحث، ويضيق بها كذلك الوقت المطلوب للبحث، ولذا سنتناول في ورقتنا هذه نظرة عامة على المبادئ الأساسية للضوابط الأخلاقية للفن، من حيث نظرة الإسلام للأخلاق والجمال والفن، والصلة بين الإسلام والفن والأخلاق، وهل وجود ضوابط أخلاقية للفن تلغي حريته، وتقيد إبداعه؟ وسوف تدور ورقتنا عن النظرة العامة للضوابط، ثم أعرِّج على ضابط واحد منها بالتفصيل، تاركاً تفصيل بقية الضوابط للورقات الأخرى، أو لمناسبة أخرى.

بداية يعتمد هذا البحث بالأساس على المحور الأول للمؤتمر، وهو: الفن الإسلامي وما هو، وكيف نحكم على فن ما بأنه فن إسلامي، وهل نعتبر الفن الذي يدعو للخُلُق هو المعتبر فناً فقط، أم أن دائر التعريف تتسع، وقد اختلفت وتباينت الآراء حول تعريف الفن[1].

ولذا سيكون حديثنا عن الفنون بتعريفها التقليدي، من حيث الفنون الصوتية وتشتمل على: فن الشعر، وفن الغناء، وفن العزف على الموسيقى. وفنون حركية، وتشتمل على: فن التمثيل، وفن الرقص. وفنون يدوية، وتشتمل على: فن التصوير بأنواعه، وفن الزخرفة، وفن العمارة[2].

 

الإسلام رسالة أخلاقية

الإسلام بالأساس رسالة أخلاقية، فقد أوضح القرآن الكريم أن رسالة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم الأولى: هي رسالة أخلاقية، فقد ذكر الله تعالى مقاصد البعثة المحمدية الرئيسية الأولى، وفوائدها الأساسية الكبرى، في نسق واحد في أربع آيات من القرآن الكريم، فذكر دعاء خليله إبراهيم: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ سورة البقرة: 129، وقال تعالى في معرض الامتنان والتذكير بالنعم، على أهل مكة، فقال: ﴿كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ﴾ البقرة: 151. وقال ممتناً على الأمة كلها: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ آل عمران: 164. ونفس المعنى ذكره القرآن الكريم في سورة الجمعة في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾ الجمعة: 2.

(فكانت: 1. التلاوة. 2. تعليم الكتاب. 3. تعليم الحكمة. 4. تزكية النفوس من المقاصد الأولى التي كانت لها البعثة المحمدية، وهي أركان هذه الدعوة الأربعة، والمظاهر الكبرى التي تجلت فيها معجزة هذه النبوة الإصلاحية والتربوية، وكل ما عداها من تقنين وتشريع، وأحكام، وفروع، وحكم وجهاد، فهو من توابع هذه المقاصد وذيولها، ولوازمها ومتمماتها)[3].

ونلاحظ أن نبي الله إبراهيم في دعائه قدم التلاوة والتعليم على التزكية، ولذا صحح القرآن عند الاستجابة الترتيب الصحيح، فالتزكية تسبق – بلا شك – العلم والحكمة، وإلا كانت في خطر، فقد نجد من لديه العلم، ولكنه لم يقرن العلم بالخلق، وتزكية النفس، فيكون علمه وبالاً على نفسه أولاً، ثم على المجتمع، وهو ما رأيناه في نموذج أحد العلماء الذين آتاهم الله علماً، ثم انتكس، كما قص القرآن الكريم علينا خبره: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ. ولَوْ شِئنَا لرَفَعْناه بِها ولكنّه أخْلَدَ إلَى الأرضِ واتّبع هَوَاهُ فَمَثَلُه كمَثَلِ الكَلب إن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾ الأعراف: 176،175.

 

الأخلاق هي الهدف الأسمى للعبادة

ولا غرو إذاً أن نجد العبادات التي شرعها الإسلام؛ شرعت لهدف كبير ورئيس، إن لم يتحقق بأدائها فقدت جوهرها وثمرتها المرجوة منها، وهي: الأخلاق. (فالصلاة الواجبة عندما أمر الله بها أبان الحكمة من إقامتها، فقال: ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ العنكبوت: 45، فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل، هو حقيقة الصلاة.

والزكاة المفروضة ليست ضريبة تؤخذ من الجيوب، بل هي أولاً غرس لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعارف والألفة بين شتى الطبقات. وقد نص القرآن على الغاية من إخراج الزكاة بقوله: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ التوبة: 103، فتنظيف النفس من أدران النقص، والتسامي بالمجتمع إلى مستوى أنبل هو الحكمة الأولى.

وكذلك شرع الإسلام الصوم، فلم ينظر إليه على أنه حرمان مؤقت من بعض الأطعمة والأشربة، بل اعتبره خطوة إلى حرمان النفس دائماً من شهواتها المحظورة ونزواتها المنكورة، وإقراراً لهذا المعنى قال الرسول صلى الله عليه وسلم: »من لم يدع قول الزور، والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه«[4]. والقرآن الكريم يذكر ثمرة الصوم بقوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ البقرة: 183.

وقد يحسب الإنسان أن السفر إلى البقاع المقدسة؛ الذي كلف بها المستطيع، واعتبر من فرائض الإسلام على بعض أتباعه، يحسب الإنسان هذا السفر رحلة مجردة عن المعاني الخلقية، ومثلاً لما قد تحتويه الأديان أحياناً من تعبدات غيبية. وهذا خطأ، إذ يقول الله تعالى في الحديث عن هذه الشعيرة: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ البقرة: 197.

هذا العرض المجمل لبعض العبادات التي اشتهر بها الإسلام، وعرفت على أنها أركانه الأصيلة، نستبين منه متانة الأواصر التي تربط الدين بالخلق، إنها عبادات متباينة في جوهرها ومظهرها، ولكنها تلتقي عند الغاية التي رسمها الرسول صلى الله عليه وسلم في قوله:»إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق«. فالصلاة والصيام والزكاة والحج وما أشبه هذه الطاعات من تعاليم الإسلام، هي مدارج الكمال المنشود، وروافد التطهر الذي يصون الحياة ويعلي شأنها، ولهذه السجايا الكريمة التي ترتبط بها أو تنشأ عنها أعطيت منزلة كبيرة في دين الله، فإذا لم يستفد المرء منها ما يزكى قلب، وينقى لبه! ويهذب باللهوبالناس - صلته فقد هوى، قال الله عز وجل: ﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَىٰ وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَىٰ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّىٰ﴾ طه: 74-76 [5].

فالعبادات هدفها في الإسلام أن تنشئ إنساناً ذا خلق قويم، وسلوك بين والله والناس عظيم، وليست مجرد طقوس تؤدى، مفرغة من جوهرها ومضمونها ومقصدها الكبير.

 

شمول التربية الأخلاقية في الإسلام

وعلاقة التربية بالأخلاق والفنون علاقة غير منفصلة في الإسلام، بل بينهما تكامل وتعاون، والأخلاق في الإسلام والتربية عليها، يحوطها الشمول الذي هو سمة بارزة من سمات الإسلام، وخصيصة من أهم خصائصه، يقول المرحوم الدكتور محمد عبد الله دراز: "والتربية الإنسانية الكاملة هي التي تتناول قوى الإنسان وملكاته جميعاً:

  • 1ـ تنمية لجسمه، وحفظاً لصحته، وهي هذه التربية البدنية.
  • 2ـ وتقويماً للسانه، وإصلاحاً لبيانه؛ وهي التربية الأدبية.
  • 3ـ وتثقيفاً لعقله، وتسديداً لتفكيره وأحكامه؛ وهي التربية العقلية.
  • 4ـ وتزويداً له بالمعلومات الصحيحة النافعة؛ وهي التربية العملية.
  • 5ـ وترويضاً له على وسائل الكسب لعيشه؛ وهي التربية المهنية.
  • 6ـ وإيقاظاً لشعوره بجمال الكون، ومعاونة له على التعبير عن هذا الشعور؛ وهي التربية الفنية.
  • 7ـ وتعريفاً له بحقوق المجتمع الذي يعيش فيه، وما فيه من نظم وقوانين؛ وهي التربية الاجتماعية والوطنية.
  • 8ـ وتوسيعاً لأفق شعوره بالأخوة العالمية؛ وهي التربية الإنسانية.
  • 9. وتوجيهاً مستمراً لأعماله على سنن الاستقامة؛ حتى تتكون منها العادات الصالحة، والأخلاق الحميدة الراسخة؛ وهي التربية الخُلُقية.
  • 10ـ ثم تسامياً بروحه إلى الأفق الأعلى بإطلاق؛ وهي التربية الدينية.

ولقد يذهب الظن بالناظر في هذا البسط والتقسيم إلى أن علم الأخلاق إنما يعني شعبة واحدة من بين هذه الشعب، وهي شعبة التربية الأخلاقية.

وليس الأمر كما يوحي به هذا الظن؛ فإن سلطان الأخلاق منبسط على وجوه النشاط الإنساني كلها، لا يشذ عنه عمل تربوي ولا غير تربوي؛ ولا يتفاوت في حكمه نشاط بدني، أو عقلي، أو فني، أو أدبي، أو روحي. فالفنان الذي يجافي بفنه قانون الحشمة واللياقة، ويهتك به ستر الحياء والعفاف يتصدى لمقت الضمير الحي. وإن لم تؤاخذه قواعد الفن.

وهكذا سائر أنواع التربية وشعبها، فإنها وإن اتخذت لها أهدافاً أخرى اشتقت لنفسها منها أسماء معينة، إلا أنها يجب أن تخضع في وسائلها وأساليبها، وبواعثها لقواعد الآداب، وأن تقيس ذلك كله بمقياس الفضيلة. وإنما تمتاز (التربية الأخلاقية) من بين سائر الشُّعب بأن هدفها القريب، وغايتها المباشرة: هي التدريب على السلوك الرشيد، وتكوين الخلق الحميد، فصلة علم الأخلاق بها أقوى وأقرب"[6].

 

صلة الأخلاق الإسلامية بالفن والجمال

وإذا كانت الأخلاق الإسلامية تشمل كل مجالات الحياة كما أسلفنا، فإن للأخلاق الإسلامية صلة وثيقة، وارتباطاً قوياً بالفن والجمال، فنحن نرى هذا الارتباط واضحاً في ربط القرآن الكريم بين الجمال والخلق، والتأمل في الكون الفسيح بما فيه من زينة وجمال، وأن هذا التأمل في هذا الجمال هو وسيلة قوية للتعرف على الله، وتقوية الإيمان به، وذلك في آيات كثيرة، لا يتسع المقام لذكرها، ويرجع إليها في مظانها، فلو رجع الباحث إلى المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، للمفردات التالية: "جمال" "جميل" "زينة" "طيبات" "زخرف" إلى آخرها، لوجد كماً هائلاً من الآيات القرآنية التي تقرر مبدأ الجمال، وصلته بالإيمان والأخلاق.

ولا يكتفي القرآن الكريم في تقرير مبدأ الجمال، بل تذهب آياته الكريمة إلى مدى أبعد، حيث تجعل الجمال والقبح أو الطيب والخبيث علة للتحليل والتحريم، فيصبح الجمال دليلاً على الحِلِّ، ويصبح القبح دليلاً على التحريم.

نلمح هذا واضحاً في قوله تعالى واصفاً رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم: ﴿حِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ﴾ الأعراف: 157. والآية واضحة الدلالة تشير إلى أن الطيب علة التحليل، وأن الخبث علة التحريم، وما الخبيث في ميدان الطعام إلا القبيح والسيء، وما الطيب إلا الجميل.

ويتأكد هذا المعنى في آيات كثيرة منها قوله تعالى: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ المائدة: 90. وقال تعالى: ﴿قلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ﴾ الأنعام: 145.

إن كلمة "رِجْس" في الآيتين تشير بوضوح إلى علة التحريم، والرجس هو: القذر والنجس، وهو القبيح، أي الوجه المقابل للجمال.

أرأيت ديناً يجعل الجمال والقبح علة في التحليل والتحريم؟ إنه الإسلام، فهل بعد ذلك من عناية بأمر الجمال؟!

إنه تدريب وتربية للمسلم من خلال النص القرآني أن يستعين بالمقياس الجمالي في إتيان الأشياء أو الابتعاد عنها. ألم يطلب القرآن الكريم من المسلم ألا يرفع صوته بغير ضرورة؟ ثم كان التعليل لذلك هو القبح ولنستمع إلى النص الكريم: ﴿وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ لقمان: 19.

إن المفسرين يقولون في مثل هذا المقام: إن وما بعدها في مقام التعليل. أي: واغضض من صوتك لأن أنكر الأصوات هو صوت الحمير. يقول ابن كثير: "وهذا التشبيه في هذا بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم"[7]، وهكذا يعلل التحريم بالقبح، وهو تعليل بمقياس جمالي[8].

وفي نفس السياق في الربط بين الجمال والفن والأخلاق، تشير أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، من حيث الدعوة إليها، والاهتمام بها، والربط بينهما، فقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً على الجمال، وإن كان في أمر لا علاقة له بالدنيا، بل هو من صميم الآخرة، فعندما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم، وبينما يدفن في الأرض، نسي من يدفنه، فجوة صغيرة في القبر، فقال له صلى الله عليه وسلم: اردمها، فقال الرجل: يا رسول الله، أو يضره ذلك، أو ينفعه؟ قال: لا، ولكنه يؤذي العين.

فالرجل القائم على دفن ابن النبي صلى الله عليه وسلم، تساءل متعجباً: أو تضره الفجوة الصغيرة في قبره، حيث إنها لن تدخل له في الشتاء برداً فيتألم، ولا حراً في الصيف فيتعب، وهو ميت، والمكان قبر، فلم الاهتمام بردمها، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أنها تنافي الجمال، رغم أنه مكان الأصل فيه أنه يذكر الآخرة، ومستقر الإنسان بعد وفاته، ولكنه صلى الله عليه وسلم يعنى بالربط هنا بين أمور الآخرة والجمال الفني لشكل القبر.

ثم نراه في حديث آخر يربط صلى الله عليه وسلم بين أهمية أن يجمع الإنسان بين جمال المظهر، وحسن الخلق في المخبر، عندما مر رجل حسن الهيئة، ولكنه سيء الخلق، ومر رجل آخر متواضع الهيئة، حسن الخلق، فقال عن حسن الخلق المتواضع: هذا خير من ملء الأرض من هذا.

وفي الحديث الأهم هنا، والذي يبين صلى الله عليه وسلم الصلة بين الخلق والجمال الظاهري، وأن من يجمع بينهما هو من أوتي خيراً كثيراً، فنرى دعاءه عند رؤيته وجهه في المرآة، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «اللهم كما حسَّنت خَلْقي، فحسِّن خُلُقي»، فالخلق مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالفن والدين، وبالحياة عموماً.

وكما يقول أحد علماء فلسفة الأخلاق المعاصرين: "علم الأخلاق، وعلم الجمال، ابنا عم، على معنى أنهما يجمعهما نسب واحد، وهو أن كلا منهما يتخذ لنفسه هدفاً هو الإنسان: فعلم الأخلاق يبحث في الإنسان من ناحية ما يجب أن يكون عليه سلوكه الخاص والعام، وعلم الجمال يبحث في الإنسان من ناحية اللذائذ التي تبعثها مناظر الأشياء الجميلة في الإنسان"[9].

ولعل نظرة عامة على تعريف الفن في المعجم الفلسفي تخبرنا بعمق الصلة بين الأخلاق والفن، إذ يعرفه صاحب المعجم الفلسفي بـ : "الفن بالمعنى العام هو جملة من القواعد المتبعة لتحصيل غاية معينة، جمالاً كانت أو خيراً، أو منفعة، فإذا كانت هذه الغاية هي تحقيق الجمال سمي بالفن الجميل، وإذا كانت تحقيق الخير سمي الفن بفن الأخلاق، وإذا كانت تحقيق المنفعة سمي الفن بفن الصناعة"[10].

 

مبدأ الفن للفن

إذا اتضحت بهذا الشكل العلاقة والصلة بين الفن والأخلاق الإسلامية، من حيث رؤية الإسلام وتصوره لها، فإن هناك مبدأ يعلنه أرباب الفن، هو مبدأ "الفن للفن". فهل الفن للفن، وليس له علاقة بالأخلاق أو القيم والمثل والعليا، فالفن غايته الفن فقط؟ هذه نظرية تبناها الكثير من أهل الفن والإبداع في الغرب، وحاكاهم فيها وقلدهم الكثير من فناني العرب.

فأصحاب هذه النظرية يذهبون إلى أن الأخلاق وضوابطها لا علاقة لها بالفن، وإذا دخلت على الفن فإنه سيحرم من أهم ميزاته وهي حرية الإبداع والتجديد، وهو كلام لا يصح، لأن الإسلام وأخلاقه لا يقف حجر عثرة أمام الإبداع الفني، ومنشأ هذه النظرة: الفن للفن، أن الفنان يبدع فنه لنفسه لذاته، أو لذات الفن نفسه، ولا علاقة للقيم ولا للمجتمع بفنه، وهو كلام ينطوي على مغالطة كبيرة، فحتى الفنان الذي لا يؤمن بدين، أو بقيم أخلاقية تضبط عمله وحياته، فهو يبدع بفنه لأجل المجتمع، ويخرج بفنه على المجتمع وينتظر حكم المتلقي أو المشاهد لإبداعه الفني، فإذا لفظه المجتمع ورفض فنه، فإنه حتماً سيلجأ إلى وسائل أخرى يتقبل بها المجتمع فنه، وفي ذلك دلالة على أن الفن ليس للفن فقط، قد يكون الفن للفن كهدف جانبي فرعي يضاف إلى الهدف الأكبر وهو خدمة للمجتمع، وترقية له، ونهوضا به.

و"أصحاب نظرية "الفن للفن" الذين يحكمون على الفنون من ظاهرها وأشكالها الفنية، دون التقيد بمضامين معينة، ويكتفون بأن يكون الإنتاج فناً فحسب، أصحاب هذه النظرة يرفضون أخلاقية الفن، ونحن لا نقرهم على زعمهم، فالإسلام ينظر إلى الفن ويؤكد فاعليته وإيجابيته، وأن المسلم محاسب على كل قول أو فعل يصدر عنه، لكننا في نفس الوقت نستطيع أن نذهب عن عقولهم مخاوفهم التي تدهمهم من جراء الأشكال الفنية، فهم يعتقدون أن الالتزام يشوه الأشكال الفنية، وبالتالي سيصبح الإنتاج شيئاً غير الفن، ونحن معهم في أن الشكل الفني يجب أن يظل محافظاً عليه، فلا فن بدون شكل معين، المضمون وحده لا يقوم كعمل فني، هذا مؤكد، فقد يكتب أحدهم مسرحية ثرية المضمون، قوية المعنى، نبيلة الغاية، لكنها مهلهلة البناء، شائنة الحوار، لا عمق في تصوير شخصياتها، ولا حياة في حركتها المسرحية، مثل هذه المسرحية لا تعد فناً على الإطلاق، بل هي مجموعة من الخواطر والآراء أو المبادئ قذفوا بها على قارعة الطريق.."[11].

فإذا ما تساءل إنسان هنا: إذا كان الفن له رسالة أخلاقية، فأين نعد الأدب الساخر، والفن الساخر، والفن الذي هدفه الترفيه عن الناس؟ بأننا هنا سوف نخرج ألواناً كثيرة من الفن بحجة أن الفن لا بد له من هدف، ورسالة؟

وهو أمر غير صحيح، فلا تنافي هنا بين أخلاقية الفن ورسالته، وبين أن يكون من أغراضه إمتاع الناس، وإشباع أرواحهم ونفوسهم، فحتى مزاح المسلم وسخريته لها هدف ورسالة وليست لمجرد المزاح والتسلية، وهي تمتزج بالخلق كذلك، فقد كان صلى الله عليه وسلم وصحابته يمزحون، ولكنه يمزح ولا يقول إلا صدقاً، وينهى عن المزاح بالترويع للنفس المسلمة، لا مانع من الأدب والفن الساخر، لكننا نشترط في اللون من الفنون أن يتحلى بالعفة وعدم الإفحاش في القول، وليس هذا تزمتاً، أو ضيق أفق منا، "لأن الأدب الساخر في العالم لم ينل مكانته السامية على يد برناردشو وإبسن وغيرهما، إلا لأن سخرياتهم كانت تنصب على أوضاع فاسدة في المجتمع، وتحمل حملة شعواء قاسية على القيم والتقاليد الزائفة، كانت سخرياتهم تعالج قضايا كبرى عالمية أو محلية، كانت تنتزع الإعجاب والضحكات، لكنها في نفس الوقت كانت تحرض على قلب الأوضاع المتعفنة، وتحطيم قلاع الجمود والرجعية والكبرياء الفارغة، وتحمل على النزوات الفاسدة التافهة، وتحاول أن تقيم المجتمع على أسس نظيفة واقعية"[12].

وما ذهبت إليه فلسفتنا الإسلامية، هو نفس ما ذهب إليه فلاسفة آخرون من الغرب، ومن منظري المذاهب الفلسفية الأخرى، "فقد أدرك ذلك منذ زمن مبكر كثير من المفكرين والفلاسفة، وعلى رأسهم أرسطو بنظريته في التطهير أو الكاثرسيس، فنراه يقرر أن للفن مضموناً أخلاقياً يتمثل في التسامي بأرواحنا، ومساعدتنا على مقاومة أهوائنا، ومعنى هذا أن للفن صبغة تطهيرية، تجعل منه أداة فعالة لتنظيم البدن، وتصفية الأهواء، وتنقية الانفعالات، ويضرب أحد فلاسفة علم الجمال مثلاً بالموسيقى، فيقول: إن النغم صورة مهذبة من الصياح، بحيث إن الموسيقى لتبدو بمنزلة تنظيم تلك الأصوات التي يصدرها الإنسان حين يئن أو يصيح، أو يتأوه، أو ينتحب.. وهكذا الحال أيضاً بالنسبة إلى الغناء والرقص، وغيرها من الفنون، فإن الإنسان لا يتخذ من التعبير الفني – في كل هذه الحالات – سوى مجرد أداة لتنظيم انفعالاته، إن من شأن الفنون أن تساعدنا على الشعور بذواتنا، وتعرُّف حقيقة مشاعرنا، فهي أشبه ما تكون بمرآة حقيقية للنفس، تنعكس على صفحاتها كل أهوائنا، وعواطفنا وانفعالاتنا وأفكارنا.

والواقع أنه إذا كانت هناك علاقة وثيقة بين الفن والأخلاق فما ذلك إلا لأن الفنون الجميلة تطهر أهواءنا وتنقي انفعالاتنا، وتحقق ضرباً من التوافق بين أحاسيسنا وأفكارنا، أو بين رغباتنا وواجباتنا، إننا نشعر بضرب من السعادة العميقة حينما نرى الشيء الجميل؛ لأننا نستشعر عندئذ توافقاً عجيباً، هو الذي ينتزع من نفوسنا كل إحساس بالصراع أو التمزق، وكأن الإحساس بالجمال يقترن في نفوسنا بإحساس أخلاقي هو الشعور بالسلم أو الطمأنينة أو التوافق النفسي"[13].

ويقول ماوتسي تونج الزعيم الصيني الشيوعي: "إن القصة الثورية والمسرحية الثورية، والفيلم الثوري تستطيع أن تخلق كل أنواع الشخصيات المأخوذة من الحياة لتلهم الجماهير، ليدفعوا التاريخ إلى أمام. فهناك على سبيل المثال كثير من الناس يعانون التجويع والاضطهاد بينما يوجد في نفس الوقت أناس يستغلون ويضطهدون إخوانهم، وهذه الحال عامة منتشرة إلى حد أن الناس بدأوا يعتبرونها شيئا مسلّماً به، غير أن وظيفة الأدب والفن هي أن يبلور هذه الظواهر اليومية في شكل منظم متناسق. ومثل هذا الأدب والفن يستطيع أن يدفع الناس إلى الحركة وأن يوقظهم وأن يرغمهم على الاتحاد ليقوموا بصراع منظم تأخذ الجماهير خلاله مصيرها في أيديها هي. ولو أن الأدب والفن ظلا موجودين في الطبيعة ولكن في شكل غير خالق، لعجز الأدب والفن عن أداء هذه الوظيفة، ولعجزنا عن الوصول إلى غايتنا بشكل فعال وبسرعة، هذا إذا استطعنا الوصول إليها على الإطلاق.

والأدب والفن للأغراض التعليمية، وكذلك الأدب والفن لرفع المستوى كلاهما خالق"[14].

ويرى أفلاطون أن الفن الذي يرمي إلى خدمة الشباب، وتربية الأخلاق هو الفن الهادف إلى خدمة المجتمع والفرد، وهو الفن الأبقى، والأصلح الذي يقوم عقول الشباب، وينمي مواهبهم، وسماتهم الخلقية، ويجنبهم الانفعال، والشهوة، ويقتل ميول الشر الهاجعة في نفوسهم، ويسكن نزوات نفوسهم[15].

ويقول الأستاذ محمد قطب: "إن الفن الصادق لا بد أن يؤدي وظيفة تربوية، وَعَى الفنان ذلك وقصده، أم كان ذلك متضمناً في عمله بغير وعي منه، وسواءً كان التوجيه التربوي المتضمن سامياً مرتفعاً أم هابطاً متنكساً، فهو في الحالين موجود...إنما يمتاز الفن الاسلامي عن غيره بأن الوظيفة التربوية فيه موجهة إلى القيم الفاضلة والتصورات الصحيحة، لا إلى قيم هابطة ولا تصورات منحرفة"[16].

ويقول علي أحمد باكثير الأديب والكاتب المسرحي الإسلامي الكبير مناقشاً هذه القضية، ومرجحاً أن الفن يكون لحمل قضية وفكرة نبيلة سامية، ولخدمة المجتمع والمبادئ السامية: "ويكفي لإثبات ذلك أن كثيراً من الأعمال الفنية المعدودة قد كتبها أصحابها ليبشروا بفكرة خاصة استحوذت على قلوبهم واضطربت بها نفوسهم فنفسوا عنها بتلك الأعمال المسرحية الجيدة، هذا برناردشو معظم مسرحياته من هذا القبيل، وقد اعترف غير مرة بأنه إنما اتجه إلى المسرح لثقته بأن المسرح أداة فعالة ومنبر ممتاز للتعبير عن آرائه والتبشير بها ومثله في ذلك هنريك ابسن، وجون جالزورثي، وجان بول سارتر، فهؤلاء وكثير غيرهم قد كتبوا مسرحيات ناجحة كانت كلها مستوحاة من حماستهم المتوقدة للإصلاح الاجتماعي والسياسي سواءً كان قومياً أو عالمياً، ولم يعبها أو يقلل من قيمتها أنها كانت مسرحيات هادفة أو قائمة على دعوة من الدعوات.

ولكن ينبغي لمثل هذا الكاتب المسرحي ألا ينسى وهو يلتهب حماسة للدعوة التي يدعو إليها أن المسرحية عمل فني قبل كل شيء فيجب ألا يجور على فنيتها بحال من الأحوال. بل ينبغي أن يحرص الحرص كله على سلامة عمله من الوجهة الفنية"[17].

فهذه النقول السابقة عن فلاسفة غربيين، وأتباع مذاهب وفلسفات أرضية، وما سطره مفكرون مسلمون لهم علاقة بالفن، توضح بجلاء أن الفن له رسالة وهدف، وله ارتباط أخلاقي، والمسلم بوجه عام يعيش في الحياة وله هدف يبتغيه من وراء كل عمل يعمله، سواء كان العمل دنيوياً أو دينياً.

فإذا كانت الغاية والمقصد الكبير في الإسلام من العبادة كما أسلفنا هي الأخلاق ومكارمها، والمقصد من خلق الإنسان كما يوضحه القرآن الكريم: ﴿مَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ والخلافة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ والعمارة: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ أي طلب إليكم عمارتها.

كما أن لكل مسلم رسالة، ومقصد وراء كل عمل يعمله، فلا يعمل العمل هكذا عشوائياً، بل له من ورائه هدف وحكمة وقصد.

حتى الترفيه له فيه نية وهدف ومقصد نبيل، فقد قال تعالى عن المشي: ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ﴾ لقمان: 19. سواء كان المقصود هنا بالقصد: المشي السوي، أو القصد أن يكون من وراء مشيه وسعيه مقصد وهدف.

حتى الجماع قال عنه صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، فقال أحدهم: أيقضي أحدنا شهوته، ويؤجر؟ قال: أرأيت إن وضعها في حرام أكان عليه من الوزر؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم: فكذلك إن وضعها في حلال له بذلك أجر».

وسر سؤال هذا الصحابي، وتعجبه: أيقضي أحدنا شهوته ويؤجر؟! أنه نظر إلى استمتاع الإنسان من حيث نظرة الناس إليها دينياً وشعبياً، أنها قضية حياتية شهوانية دونية، ولم ينظر إليها أن الإسلام يجعل كل أفعال الإنسان إذا كانت وفق ضوابط شرعه، وبنية صحيحة، أنها طاعة ومثوبة يؤجر عليها.

والطعام والشراب، له في نية ومقصد، فقد فصَّل فقهاء الإسلام حالات وأحكام الشراب والطعام، فإن كان بهدف التقوى على طاعة الله فهو عبادة وأجر، وإن كان بنية الحفاظ على الجسد فهو مباح، وإن كان للاستعانة به على محرم، فهو محرم، وهكذا إلى آخر تفصيلات الفقهاء التي يذكرونها في باب الحظر والإباحة كما في الفقه الحنفي مثلاً.

فالمقصد والهدف، أمر لا ينفك بوجه عام عن تصرفات المسلم، والذي منه حالة (الفنان والمبدع)، فهو يعمل وفق هدف، ومقصد، وفي إطار أخلاقي.

 

هل تتنافى الضوابط الأخلاقية مع الحرية الفنية؟

قد يظن البعض أن الحرية تفقد وجودها وقيمتها وجوهرها في ظل الالتزام، ذلك أن الالتزام قيد، والذي يدفع إلى هذا الظن إنما هو النظرة السطحية التي تطل من خارج نفس الفنان، لا من داخلها.

إن الفنان المسلم في حرية كاملة، تأخذها أبعادها في مشاعره وتصوراته، كما تأخذها – أيضاً – في حياته العملية التطبيقية. ذلك أنه قد طرح من حسابه ما وراء القيد الذي يفرضه الإسلام – إذ الإسلام حرية القيد لا حرية الحرية – طرحه من حساب فكره، وحساب عمله، فأصبح في زاوية الإهمال أو في زاوية السلب، كما تقول لغة الرياضيات، ولعلنا بالمثال نكون أكثر وضوحاً.

إن الخمر محرمة في الإسلام، فالفنان المسلم – وكل مسلم – يخرج الخمر من حياته.. فلا يعود لها وجود فيها، ولذلك لا يشعر أن حريته قد تأثرت بمنع الاقتراب منها.. وكذلك جميع الممنوعات الأخرى.. وإذا بقي لها من وجود، فهو وجود الشر الذي يحذره ويبتعد عنه بدافع القناعة الكاملة، والحرية الكاملة، لا بل بما هو أكبر من دافع الحرية، ألا إنه دافع الحفاظ على الحياة.

إن الالتزام لا يخدش كرامة الحرية، ولكنه يبعثها من منطلقات صحيحة، ويحلها في مكانها اللائق بها، بعيدا عن منحدرات الإسفاف والرذيلة[18].

 

أفلاطون ينادي بضوابط أخلاقية للفن

إن وضع الضوابط التي تحفظ خصوصيات الناس، وتحمي حرماتهم ومقدساتهم وثوابتهم أمر مهم، وليس الإسلام بدعاً فيه، بل نادى به غربيون وفلاسفة يوقرهم أهل الفن والإبداع، يقول الفيلسوف الكبير أفلاطون:

"فالفن بالإجمال أداة إيهام وتخييل، والشعر دجل كالتصوير، إذا نزع عنه سحر اللفظ والتوقيع بدا شاحباً فقيراً، يستطيب وصف العواطف، وهي متقلبة متنوعة، ولا يجد له موضوعاً في العقل الثابت الهادئ، فيهيج العواطف، ويشل العقل، مثله مثل طاغية يقلد السلطة للأشرار ويضطهد الأخيار، فإنه يوحي بالعطف على أفعال وانفعالات رديئة، ويضعف أشرافنا على الجزء الشهوي من النفس، فيحرك فينا البكاء تارة، والضحك طورا، ويدفعنا ونحن نشهد التمثيل إلى استحسان ما ننكره في الحياة الحقيقة وإلى التصفيق لما نغضب له في الواقع.

والتراجيديون لا يرمون لغير إحراز إعجاب الجمهور، والجمهور لا يميل إلى الأشخاص الحكماء الرزينين، بل يطلب أشخاصاً شهويين متقلبين، تملأ تقلباتهم وشهواتهم القصة، فيلهو بها، ويميل معها إلى كل جانب.

وأما الكوميديا فهي رديئة بالذات، تضحك من إخواننا في الإنسانية، وتنمي حاجة المزاح والسخرية.

وإذن فعلى الشارع أن يراقب جميع مظاهر الفن، وجميع الفنانين من شعراء ومغنين، وممثلين، ومصورين وغيرهم، فيخلق بيئة كلها جمال سلمي رزين، وينشئ مواطنين كاملين يتوجهون إلى الفضائل عفواً، ويصون نفوسهم كل خدش، إذ ليست الغاية من الفن توفير اللذة، بل التهذيب والتطهير[19].

 

أديب إيطالي يشن حملة على الأدب الرخيص

وما قال به أفلاطون من رفض ما هو مشين من الفنون والأدب، نادى به أديب إيطالي، بل شنَّ حملة شعواء ما يمكن أن نسميه الأدب الرخيص أو الأدب الهابط، وهو: الأديب الإيطالي المعاصر جيوفاني بابيني حيث يرى إن الأديب إذا ألمع إلى الأخلاق السامية، والمناقب العالية صبوا عليه جام غضبهم، وحسبوه واعظاً متزمتاً. وإذا تحرك إيمان القراء لقتل الأهواء الفاسدة أسموه ناسكاً مأفوناً، وإذا حاول آخر أن يعلم تعليماً مفيداً له فيه خواطر مصيبة أطلقوا عليه لقب رجعي.

واليوم – ولا أجاوز الحق في القول – تسود العالم موجه من الأدب الرخيص الذي لا غاية له إلا قتل الوقت، وهو يقوم على ركنين: طباعة متقنة مزينة بصور عارية يندى الجبين لها خجلاً، فضلاً عن بعدها عن الفن الرفيع، ثم دعاوى ساحقة بإطار جذاب من إنتاج الفكر الجديد بأسلوب جديد، والمفكر يقف حيال ذلك متسائلاً: ماذا يبغي هؤلاء من كل ذلك؟

وهناك نوع آخر من القصص، لكنه ليس بأوفر حظاً من سابقه. إن أمثال هذه القصص لا تحتوي شيئاً ساخراً، بل كل ما فيها مغامرات غرامية تحارب الأخلاق الكريمة، أو محسنات لفظية، وصور خيالية تقتل ملكة البلاغة في القارئ، وطابع كل ذلك التجارة والظهور، وتكديس الأموال، ولو على حساب الأخلاق.

إن العالم يسير بخطى واسعة إلى الحرب الشاملة، فبدلاً من أن نقتل الوقت في كتابة قصص من هذا النوع المزري علينا أن نعالج موضوعات الساعة، ونلفت إليها الأنظار، ونحاول أن نثير الرأي العالمي على دعاة الحرب والانحلال الخلقي.

إننا بحاجة إلى شيء آخر غير الأقاصيص الموشاة بحوادث الحب والغرام، والقتل والسرقة والنهب وقطع الطرق. نحن بحاجة إلى كلمات صادرة عن إيمان حي، ويقظة وحب، وحكمة وصلاح، وإزالة سوء التفاهم من بين الشعوب، وأنتم أيها السادة الأدباء تأتوننا بقصة في أربعمئة صفحة من القطع الكبير لتقولوا لنا: إن السيد فلان قد نجح في آخر المطاف، واستمال السيدة فلانة إلى ارتكاب خطيئة تعاقب عليها القوانين الإلهية والإنسانية.

إن بعض الأدعياء يعتقدون أن الانفصال يجب أن يكون تاماً بين الفن والأخلاق، فكأنهم يقولون: إن فكرة الخير لا توحي الفن، بل فكرة الشر هي الموحية به.

إن افكار الخير متى كانت دماً من دم الفنان، ولحماً من لحمه فلا خوف عليه، لأنه يستطيع أن يوافق بين الفن والأخلاق على شريطة أن يملك ناصية التعبير، وفي بعض الأحايين نرى نار المحبة تحول البسطاء بالروح إلى شعراء موهوبين.

إن الأديب بعد إتقانه فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة عليه أن يكون معلماً ماهراً، وأخلاقياً رفيعاً. وهذا تقليد مقدس في الأدب الإيطالي، كما هو تقليد مقدس في الأدب العربي. إن فلاسفة اليونان الأولين نظموا شعراً، والشعراء في ملاحمهم وشعرهم الغنائي ومآسيهم مزجوا الخطرات الفلسفية، والتعاليم الأخلاقية، بالصور الشعرية، والزخارف اللفظية. ولعل قصة هاملت هي أشهر مآسي شكسبير لأنها فياضة بالأفكار الدقيقة، والتعاليم الأخلاقية السامية[20].

هذه شهادة أديب إيطالي، وقد تعمدت نقل مجمل مقاله الطويل، حيث إنها شهادة من غربي ورأيه، فلن يتهمه أحد من جهابذة وأدعياء الإبداع، بأنه رجعي متزمت، ورغم قدم المقال إلا أن الرجل في كلامه كأنه يحيا بين ظهرانينا اليوم، ويرى هذا اللون من الأدب، الذي أطلق عليه الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله: أدب قلة الأدب!!

وقد رأينا هذا الالتزام بضوابط صارمة في الفن الغربي، ولم يعب أحد عليهم ذلك، فعندما أنتجت بعض شركات السينما العالمية فيلما عن المسيح عليه السلام، اشترطت على الممثل: ألا يؤدي أي أدوار سينمائية أخرى، وقد أجزلوا له في أجره المادي، كي يغنيه عن ذلك، والسبب الذي دعاهم لهذا الضابط والشرط الشديد: هو مخافة أن يقوم الممثل بدور فني يمثل فيه دور ساقط، أو شرير، مما يسيء إلى صورة المسيح في ذهن المستمع.

وهناك ضوابط شديدة في السينما الغربية، فيما يقدم للأطفال، وما لا يقدم، وفي أي سن، فممنوع في سن معين مشاهد الجنس، أو مشاهد العنف.

وكثيراً ما نقرأ ونشاهد أهل النقد الفني، عند تقييمهم لفنان "ممثل"، فيقال في تقييمه في هذا الفيلم أو المسرحية: هو فنان ملتزم، لا يخرج عن النص، ويلتزم به، لأن النص الذي كتبه الكاتب والسيناريست، مطلوب من الممثل أن يؤديه بلا تحريف له، أو خروج عنه، ويقال عن فنان آخر من باب نقده وذمه: هو يخرج كثيراً عن النص، مما يضعف البناء الدرامي للعمل.

 

الضوابط الأخلاقية والحديث عن الجنس

وهو محور بلا شك سيتبادر إلى الذهن عند الحديث عن الضوابط الأخلاقية للفنون، فهل يقف الإسلام موقفاً ممانعاً من الحديث عن الجنس، بدعوى أنه ممنوع ومحرم، وكلام لا يليق، وكيف يكون دور الفن هنا؟

لقد تناول القرآن والسنة قضايا جنسية، وتناولت كتب الفقه الإسلامي الحديث عن القضايا الجنسية، ولكنها تناولتها من خلال السياق العام للموضوعات، ولم تكن مركزة بشكل يثير الغرائز، أو يحرك الشهوة بشكل مستفز، ولم تكن مجتمعة، فالطالب الأزهري مثلا يأخذ قسطاً من المصطلحات والقضايا الجنسية في دراسته الأزهرية لكنها متفرقة، فهو يلتقي مع الأعضاء التناسلية للجنسين في آداب الخلاء، وعند الوضوء في نواقضه، والتي منها: مس الفرج (الذكر أو الأنثى)، وعند موجبات الغُسْل، والتي منها: الجماع، والاحتلام. ويلتقي عند أنواع السوائل التي تسيل من فرجه، مثل: الودي، والمذي، والمني.

وفي باب المعاملات، يلتقي بالثقافة الجنسية، في أكثر من موضع، ففي باب الزنا يجد في تعريفه: هو لغة: الوطء، وعن شروطه وكيفية تحققه، والتي يجد فيها عبارات الفقهاء التالية: أن يرى الزانيين، في وضع الزنا، كميل القلم في المحبرة، والعصا في البئر، وهو تشبيه لوضع الجماع. وعند باب النكاح (الزواج)، يجد من عبارات الفقهاء: ما الحكم لو جامع مقطوع الحشفة، هل يعد ذلك دخولاً؟ ومقطوع الحشفة هنا: أي مقطوع رأس الذكر، ويجد في العيوب التي يحق للزوجين فسخ النكاح بها وفيها عيوب تفصيلية في الفرجين، أو عدم القدرة على الجماع. ويجد عند جماع الزوجين متى يتم الغسل، فيجد عبارة كعبارة "الإكسال"، وهي جماع الزوجين، ولكن بلا إنزال، لعارض ما، أو بدون عارض، وهكذا.

وعندما كان الشيخ أحمد ديدات يناظر القس الأمريكي جيمي سواجارت عن قصة مريم عليها السلام، سأله ديدات: عندنا عرض عليه قصة مريم وحملها من القرآن ومن الإنجيل، فقال: أيهما تطمئن أن تقرأه ابنتك دون خجل؟ فقال سواجارت: القرآن.

وقد يرى البعض أن وصف دقائق النزوة الجنسية قد يفيد من الوجهة العلمية والدراسات السيكولوجية، لكنهم يتجاهلون أن كتاباً لعلم النفس يختلف تماماً عن قصة من حيث الطريقة والتأثير، إن الكتابات العلمية لا تحرك غريزة الإنسان وإن كانت تنمي من معارفه وتوسع من ثقافته ولا تحرص على ارتكاب إثم من الآثام، أما القصة ـ مثلاً ـ بما فيها من ظلال موحية، وأسلوب أدبي شاعري مؤثر، وإفراط عاطفي مثير، وسلاسة وبساطة في التعبير، وانطلاق من قيود المنهجية والتجريبية العلمية، كل هذا يبطل تلك الدعوى الآثمة، ويجعل من أدب الجنس ـ أدب الفراش والتخدير ـ جريمة في حق أخلاقياتنا. ثم هناك فرق كبير بين الحب والجنس.

  • الجنس غريزة ملتهبة.
  • والحب عاطفة روحية رفافة.
  • هذا مع تداخل عواملها السيكولوجية.

 

قصة يوسف عليه السلام نموذجاً

والإسلام لا يحارب الحب، ولا يقتل غريزة الجنس، وإنما يريد لهذه الغريزة التنظيم والتهذيب والتسامي، وقد بسط القرآن الكريم إحدى هذه المشاكل العاطفية في سورة يوسف.

"إن يوسف فتى رائع الجمال، جذاب التقاطيع، يلفت النظر بروعته الفائقة، وفتنته الطاغية ﴿مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾ لكنه على جانب مثالي من الصلاح والورع.. إنه نبي من أنبياء الله، ويروي القرآن قصة امرأة العزيز التي جنَّت بفتاها حبا.. ﴿وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ﴾. ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾، ﴿وَاسْتَبَقَا الْبَابَ﴾ ﴿وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ..﴾. ثم تأتي الوقفة الدرامية العنيفة: ﴿وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ﴾.

لكنها لم تتنبه للخطر الذي يتهددها من زوجها لو علم أنها تنوي خيانته، وفي نفس الوقت تفكر في أن تطعن الفتى الصالح الذي أذل كبرياءها واحتقر نزواتها، فماذا تعمل؟؟ لقد قالت لزوجها: ﴿مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.

وتمضي القصة وسعار الجنس لم يهدأ أواره في قلبها، وتتحدث نسوة المدينة بقصة امرأة العزيز العاشقة فتدعوهن إلى قصرها، وتأمر يوسف بالخروج إليهن: ﴿فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾. فترد امرأة العزيز في شبه انتصار وإصرار: ﴿فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾.

ويخوض يوسف معمعان محنة قاسية رهيبة، يتعرض فيها لذل السجن وعذابه. ولكنه سعيد بانتصار القيم الفاضلة في نفسه، سعيد بنجاته من حمأة الإثم التي أوشكت أن تقذف به إليها امرأة العزيز، ثم ينتصر الحق، ويعترف النسوة بطهارة يوسف بعد سنين: ﴿قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ، قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ. ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أنِّي لَمْ أخُنْهُ بِالغَيْبِ وأنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الخائِنِينَ. وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾.

وهكذا تصور لنا قصة يوسف مع امرأة العزيز، قصة الضعف البشري بكل ملابساته، وانحرافات النفس الإنسانية ونزوعها إلى الشر، ولم تكتف القصة بتصوير مواطن الضعف فينا نحن البشر، بل صورت جوانب القوة المشرفة، والعفة والطهارة والانتصار على حيوان الغريزة الجامح، والصراع العنيد بين الفضيلة والرذيلة في أعماقنا..

إنها قصة جنسية بكل مقومات القصة، لكن أي جنس وأية قصة!! الظلال الموحية، موسيقى الألفاظ، المواقف الدرامية، عنصر التشويق والمتابعة، ثم الانتصار لفضائل الإنسان وقوة الروح في النهاية، حتى امرأة العزيز الخاطئة انتصرت فيها قوى الخير، وعادت إلى رشدها، وطأطأت رأسها إجلالاً وتوقيراً لإنسان كبير وقف صامداً كالعلم في مواجهة الثورة الغريزية الجارفة وانتصر.."[21].

وقد رأينا الدراما الإيرانية، وقد عرضت قصة نبي الله يوسف عليه السلام، في مسلسل، وعند هذا المشهد تحديداً شرحاً لقوله تعالى: ﴿وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ﴾ فإذ بمخرج المسلسل يأتي بأبواب مفتوحة تغلق بسرعة، باباً وراء باب آخر، وقد أوحت بصورة المطاردة من امرأة العزيز تجاه يوسف عليه السلام، ودلت دلالة واضحة بالمشهد دون جرح وإيذاء للمشاهد، ودون إثارة للغرائز، مع الحفاظ على الحقيقة التاريخية.

 

المصداقية ضابطاً أخلاقياً

من الضوابط الأخلاقية للفن: ضابط المصداقية، وسوف نتناوله بالتفصيل هنا، والمصداقية نعني بها هنا: مراعاة تقديم الحقائق، فعلى الفنان أن يتوخى الحقيقة الثابتة، وألا يجره الإبداع الفني، أو الحبكة الدرامية، أن يلفق أحداثاً، لا علاقة لها بالواقع التاريخي، بل ربما أدى إلى تشويه الشخصية، أو طمس الحقائق، وتلفيق ما ليس فيها من مثالب وعيوب، تؤدي إلى تشويه الحقيقية التاريخية، أو الفكرة، وضياع الحقيقة عنها، وغيابها.

"في واقعنا الأدبي المعاصر نجد كثيراً من الكتاب قد أبدعوا في الروايات التاريخية إبداعا كان مدعاة الإكبار، وفيهم من حافظ على الأحداث بوقائعها الثابتة دون أن يجور على حق معلوم، والأديب الكبير الأستاذ محمد فريد أبو حديد مثل رائع لصاحب الفن الروائي الناطق بأحداث التاريخ الحقيقي دون تحيف، وقد سمح لخياله أن يخترع من الأحداث والشخصيات ما يساعد على كشف الحقائق لا ما يعمل على طمسها المتعمد، إذ إن الروائي المطبوع لا يعوزه الاقتدار على بعث الماضي في ثوبه المعهود دون أن يزيد عليه ما يزحزحه عن واقعه الصريح! فالخيال في الرواية التاريخية كالخيال في القصيدة الشعرية يأتي ليزيد الحقائق بهاءً، وليجسد المشاعر تجسيداً ينبض بالدم، ويتدفق بالحياة! وهذا ما يجب أن يلتفت إليه مؤلفو المسلسلات إذا اخترعوا شخصية خيالية، أو أضافوا واقعة محتملة، فإن ذلك يكون ليجلو الحقائق ويؤكدها، أما أن يصح مصدر تشويه متعمد لها، فإن حق المشاهد في معرفة الحقيقة التاريخية يضيع"[22].

وهو ما نراه في كثير من الأفلام الإسلامية التي أنتجتها وقدمتها السينما المصري في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فما من فيلم مثلاً: فجر الإسلام ونور الإسلام والشيماء وغيرها، نجد أن إقحام عنصر العاطفة، عاطفة الحب مثلاً، يقحم بشكل غير صحيح، ففي الفيلم الأول، لم يسلم البطل الفنان إيهاب نافع إلا لأن البطلة (الفنان ماجدة) أسلمت، فأسلم حباً لها، وتحمل العذاب معها في مكة حباً فيها، ثم هاجر، وهكذا، وفي الفيلم التالي نور الإسلام البطل وهو الفنان عبد الرحمن علي، أسلم، حباً في جارية وهي البطلة الفنانة نجوى إبراهيم، رغم أنه كان بينه وبين سيدها ثأر لاتهامه بقتل خاله، وهكذا تاهت المعاني الحقيقية للفيلم، وهي أن الإسلام بعظمته، وقد دخل فيه هؤلاء حباً لأنه أعتقهم من الرق، وأنعم عليه بنعمة الحرية، والإخاء والمساواة بين ساداتهم الذين أعتقوهم من ربقة الرق، بينما علق في ذهن المشاهد قصة الحب التي لا أصل لها والتي استهلكت معظم أحداث الفيلم.

ويكون هذا الضابط مهما في مجال فني آخر ومهم، وهو مجال الفكاهة، فينبغي ألا تكون الفكاهة أو الدراما الفنية على حساب قلب الحقائق، بأن تجعل من الفاجر بطلاً، أو من الطائع فاجراً، أو تكون على حساب الحقيقة التاريخية، بتشويه سمعة إنسان عُرف - تاريخياً - بالخير والصلاح، بدعوى المزاح والضحك، وسوف أضرب هنا نموذجاً يبين خطورة أن تكون المادة الفنية بقلب الحقائق، فمن الشخصيات التاريخية العظيمة التي ظلمها فن الفكاهة، وعدم التدقيق في أحداث التاريخ، وكتابته: شخصية بهاء الدين قراقوش، وقد وقع للأسف معظم الكتاب الكبار، مثل: د. شوقي ضيف، والأستاذ أحمد الحوفي، والأديب الكبير عباس محمود العقاد؛ الذين كتبوا في الفكاهة في ذم هذه الشخصية، دون تثبت أو تروي، حتى شاع في العبارات الشعبية "حُكْم قراقوش" عندما يستنكر الناس ظلم إنسان، أو تعنته وغباءه في الحكم والتصرف! كما تم عمل فيلم سينمائي مصري بعنوان: "قراقوش".

وسبب ذلك: اعتمادهم على كتاب "الفاشوش في أحكام قراقوش" المنسوب للأسعد بن مماتي، وقد قال في مقدمة كتابه: "إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قراقوش مخرمة فاشوش، قد أتلف الأمة، صغت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح منه المسلمين" وقد نسبت هذه الرسالة ـ عدا الديباجة ـ إلى الإمام السيوطي، بيد أن المرجح: أنها ترجع إلى عصر صلاح الدين ذاته، بدليل أن ابن خلكان يشير إليها، ويبدي ريبة في صحة ما ورد فيها، ويرجح أنها موضوعة، وليست من تأليف ابن مماتي[23]. وهناك من أكد صحة نسب الكتاب لابن مماتي، وبين أن السبب في كتابة ابن مماتي لهذا الكتاب: حنقه وحقده لبهاء الدين قراقوش.

فقد اعتمد كتاب الأدب، والعمل الفني على هذا الكتاب، وما روي عن الرجل من أقاصيص، بينما أهملوا الحقائق الثابتة عنه من مصادرها الصحيحة، فشاع بين العوام والقراء الأباطيل، وغابت الحقائق، والتي يقول المؤرخون الأثبات الثقات بعكسها تماماً، فقد قال عنه ابن تغري بردي: هو قراقوش بن عبد الملك الأسدي، الخادم الصلاحي، وقراقوش لفظ فارسي معناه: العقاب، ويطلق على الإنسان الشهم الشجاع، اتصل بخدمة صلاح الدين بعد عمه شيركوه، وكان صلاح الدين يثق به، ويعتمد عليه في مهماته، وهو الذي بنى قلعة الجبل، والسور على مصر والقاهرة، والقنطرة عند الأهرام، وقد سلم إليه صلاح الدين عكا بعد فتحها، ثم أسره الفرنج بعد استردادها فافتداه صلاح الدين[24].

ويقول العماد الكاتب الأصفهاني عن كيفية اختيار صلاح الدين له ليتولى عكا: فقال السلطان صلاح الدين الأيوبي: "ما أرى لكفاية الأمر المهم؛ وكف الخطب الملم، غير الشهم الماضي السهم، والمضيء الفهم، الهمام المحرب؛ النقاب المجرب؛ المهذب اللوذعي[25]؛ المرجّب[26] الألمعي؛ والراجح الرأي؛ الناجح السعي؛ الكافي الكافل بتذليل الجوامح؛ وتعديل الجوانج؛ وهو الثبت الذي لا يتزلزل؛ والطود الذي لا يتحلحل؛ (بهاء الدين قراقوش) الذي يكفل جأشه بما لا تكفل به الجيوش.

ويقول عن أعماله ونشاطه وهمته: "وهو الذي أدار السور على مصر والقاهرة، وفات وفاق الفحول بآثار مساعيه الظاهرة، فنأمره أن يستنيب هناك من يستكفيه لتمام تلك العمارة، ونؤمره لهذا الأمر فهو جدير بالأمر والإمارة وكوتب بالحضور، لتولي الأمور، وعمارة السور. فوصل متكفلاً بالشغل، متحملاً للثقل. منشرح الصدر بالعمل، منفسح السر والأمل. مبتهجا بالأمر، ملتهجاً بالشكر[27].

فانظروا كيف ابتدع الخيال الشعبي وعدم الدقة في الكتابة، وقلب الحقائق، في تشويه صورة رجل من عظماء عصره، وقد تناقلت الأجيال الأساطير المنقولة عنه، كأنها مسلّمات وحقائق، واستبدلت شخصية الرجل التاريخية العظيمة، بتلك الشخصية القاتمة الزائفة الماجنة الغبية، التي ما زالت تلاحقه وتغلب عليه حتى في عصرنا، وعلى أقلام كتاب كبار، من أمثال: عباس محمود العقاد، وشوفي ضيف، وأحمد الحوفي، وغيرهم للأسف عند حديثهم عن فن الفكاهة.

فلا بد من أن يراعى هذا الضابط المهم في الفن: ألا يكون على حساب الحقيقة العلمية والتاريخية، وألا يقلب الحق باطلاً، أو الباطل حقاً، بتزويره وتزويقه، وإيهام الناس.

 

فنون تقوم على الكذب!

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال: إذا كنا نشترط المصداقية معياراً وضابطاً أخلاقياً في العمل الفني، أفليس هناك لون من الفنون يقوم على التخيل والكذب من الأساس، مثل التمثيل، ومثل النكتة، سواءً كانت سياسية أو اجتماعية، فما الموقف من مثل هذه الفنون من حيث الضابط الأخلاقي؟

وأرى أن النكتة لا تختلف عن التمثيل، فحكمها هو حكم التمثيل، والاعتراضات التي على النكتة هي الاعتراضات التي يعترض بها على النكتة، فما قيل: إن النكتة عمادها الكذب وما لم يحدث، وهو أمر منفي عن النكتة، لأن قائلها يقول لك في بداية الكلام: سمعت آخر نكتة؟ فتقول: لا، فالقائل والمستمع يعلم يقيناً أنه يقول شيئاً افتراضياً، فلا يتبادر إلى ذهن المستمع، أن المتحدث يحدثه عن شيء واقعي، بل يحدثه عن شيء فيه من الواقع، ومعظمه من التخيل، وهو هنا لا يكذب عليه بمعنى الكذب الذي هو موهم للمستمع بالصدق بينما حقيقته كذب. وهو ما ينفي عنها الحرمة من هذا الباب، وكذلك التمثيل، يقول الإمام أبي حامد الغزالي: "أعلم أن الكذب ليس حراماً لعينه، بل لما فيه من ضرر على المخاطب أو على غيره، فإن أقل درجاته أن يعتقد المخبر شيء على خلاف ما هو عليه فيكون جاهلاً، وقد يتعلق به ضرر غيره، ورب جهل فيه منفعة ومصلحة، فالكذب محصل لذلك الجهل، فيكون مأذوناً فيه، وربما كان واجباً.

الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعاً فالكذب فيه حرام، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك القصد مباحاً، وواجب إن كان المقصود واجباً[28].

أما بخصوص النكتة فيقول الدكتور يوسف القرضاوي في ضوابطها: "ومرد ضوابط النكتة هنا أيضاً إلى ما يسمح به العرف من النكات، ولم يره جارحاً ولا خارجاً، فلا بأس به، وإلا كان ممنوعاً"[29].

وكلاهما يدخل في باب الوسائل التي يغرس بها القيم، أو المعاني، والتدليل على ذلك يحتاج إلى تفصيل أكثر، وأكتفي بما ذكرت من حيث المطلوب في هذا الموضع.

 


 

* الدكتور عصام تليمة داعية وباحث إسلامي وأحد علماء الأزهر وعضو مؤسس لاتحاد علماء المسلمين.  قدم هذه الورقة في ندوة الأخلاق الإسلامية والفن التي عقدها مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق من 30 أبريل إلى 2 مايو 2013.

 

 

الهوامش

[1] لمزيد من التفصيل حول الاختلاف في تعريف الفن، يراجع: كولنجوود، روبين. مبادئ الفن. وإبراهيم، زكريا. مشكلة الفن. وقطب، محمد. منهج الفن الإسلامية وغيرها.

[2] الغزالي، صالح. حكم ممارسة الفن في الشريعة الإسلامية، ص 33-34.

[3] مقدمة أبي الحسن الندوي لكتاب أبيه: الحسيني، عبد الحي. تهذيب الأخلاق. قطر: الشؤون الإسلامية، ص 6.

[4] رواه البخاري.

[5] الغزالي، محمد. خلق المسلم. الطبعة السابعة. الإسكندرية: دار الدعوة، 1429ه-2008م، ص 9-11.

[6] دراز، محمد عبد الله. كلمات في مبادئ علم الأخلاق، ص 39-40.

[7] انظر: تفسير سورة لقمان في تفسير ابن كثير وانظر أحكام القرآن للجصاص، مج 3، ص 459.

[8] الشامي، صالح. التربية الجمالية في الإسلام. بيروت: المكتب الإسلامي، ص 36-37.

[9] رجب، منصور. تأملات في فلسفة الأخلاق. الطبعة الثالثة. القاهرة: مكتبة الأنجلو المصرية، 1961م، ص 61.

[10] صليبا، جميل. المعجم الفلسفي. بيروت: دار الكتاب اللبناني، 1969م، مج 2، ص165.

[11] الكيلاني، نجيب. الإسلامية والمذاهب الأدبية. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1407ه-1987م، ص 37.

[12] المرجع السابق، ص 35.

[13] مراد، بركات. "الفنان المسلم والإبداع". في كتاب الفنون رؤى إسلامية، لمجموعة من الكتاب. الطبعة الثانية. القاهرة: دار النهضة مصر، 2012م، ص 169-177.

[14] تونج، ماوتسي. مشاكل الأدب والفن، ترجمة كمال عبد الحليم. القاهرة: دار الفكر، 1956م، ص 32-33.

[15] عباس، عبد المنعم. الحس الجمالي وتأريخ الفن، ص41.

[16] قطب، محمد. من قضايا الفكر الإسلامي المعاصر، ص 166.

[17] باكثير، علي. فن المسرحية من خلال تجاربي الشخصية. القاهرة: دار المعرفة، ص 36.

[18] الشامي، صالح. الفن الإسلامي التزام وابتداع. الطبعة الأولى. دمشق: دار القلم، 1410ه-1990م، ص 85.

[19] محمود، عبد الحليم. "موقف الإسلام من الفن والعلم والفلسفة". الأزهر. العدد الثالث من السنة التاسعة والأربعين، الصادر في ربيع الأول سنة 1396هـ ـ مارس سنة 1976م، ص 396.

[20] انظر:مقال: "رسالة الأديب للأديب الإيطالي جيوفاني بابيني". الكتاب. في الجزء الخامس من السنة الرابعة، الصادر في رجب سنة 1368هـ ـ مايو سنة 1949م، ص 726-730.

[21] الكيلاني، نجيب. الإسلامية والمذاهب الأدبية، ص 58-61.

[22] البيومي، محمد. في ميزان الإسلام. القاهرة: المؤسسة العربية الحديثة. سلسلة إسلاميات، الجزء الثاني، ص 236-237.

[23] انظر: عنان، محمد. تراجم إسلامية.. شرقية وأندلسية. القاهرة: الخانجي.

[24] بردي، ابن تغري. النجوم الزاهرة، مج 6، ص 177-178.

[25] اللوذعي: الذكي الذهن، الحديد الفؤاد، الفصيح اللسان.

[26] المرجب: المهيب المعظم.

[27] الأصفهاني. الفتح القسي في الفتح القدسي. سلسلة الذخائر العدد 90. القاهرة: الهيئة العامة لقصور الثقافة، ص 209.

[28] الغزالي، أبو حامد. إحياء علوم الدين. بيروت: دار القلم، الطبعة الأولى، مج 3، ص 130.

[29] القرضاوي، يوسف. فقه اللهو والترويح. الطبعة الأولى. القاهرة: مكتبة وهبة، 1426ه-2005م، ص 43.

 

 

 

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق