الأخلاق في عالم متغير: رؤى معاصرة كلمة افتتاحية للمؤتمر الدولي السنوي الثاني

شوقي الأزهر، نائب مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والخلاق

باسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين،

فإن العلم والعالم تطورا وتغيرا بشكل رهيب في القرون والعقود الأخيرة حتى ظهر العالم الذي نشاهده اليوم. إلا أن هذا التطور كان خارج أطر الأخلاق في جوانب كثيرة منه. فلا شك أنه أضاف كثيرا للإنسانية حتى جعلها ترتقي في مجالات كثيرة، ولا شك أنه رفع من جودة عيشها على المستوى المادي، إلا أنها إضافة مولعة في فنية اتقان الأسباب حتى تقلص جانب الأخلاق فيها، فأصبحت تهدد توازن المجتمعات والبيئة، بل الحياة برمتها، ومن هنا أضحت مسألة الأخلاق اليوم مسألة بقاء أو فناء للبشرية كلها.

فالحضارة الحقيقية هي التي تحقق التوازن بين الروح والمادة، بين السبب والغاية، وبين مهارة العقل والإختراع وأخلاقية الهدف والمآل. وبمجرد اختلال هذا التوازن لصالح إحدى الكفتين على الأخرى، يكون الهبوط والإنهيار. والحضارة الإسلامية، كما يقول مالك بن نبي، فقدت توازنها عندما تخلفت عن مراعاة هذه العلاقة بين العلم والضمير، وبين المعطيات المادية والبعد الروحي، حيث أنها تخلت عن الأخذ بالأسباب والسنن الكونية، ويقول: "واليوم نشاهد تجربة أخرى أدت إلى اختلال آخر: الحضارة الغربية، التي فقدت الاحساس الروحي، أصبحت هي الأخرى على حافة الهاوية".

وليس مقصودنا هنا إلقاء اللوم على هذه الجهة أو تلك، فإن الوقت لم يعد وقت لوم وعتاب، فالمشاكل والأزمات صارت مشتركة ولم تعد خاصة بهذه الجهة أو بتلك بعد أن أصبحت الأرض كرة ضيقة بحيث أن النار التي تلتهب في إحدى أطرافها قد تنتشر فورا إلى الطرف الآخر. فإذا كانت المشاكل على هذه الدرجة من الاشتراك، وجب أن تكون الحلول مشتركة كذلك.

فمن أزمات الإنسان المعاصر، أنه أتقن الأسباب والتقنيات بطريقة بارعة، أتقن الكيفية، ولكنه أهمل سؤال الغائية والمآلات في أكثر الأحيان، فاستولت نوازعه الحيوانية على مهاراته وإتقانه للأسباب، حيث كان من  المفتَرض أن توجه تلك المهارات بفطرته المجبولة على الأخلاق لو سلمت مما لحق بها من لواحق. فمع ما توصل إليه الإنسان الحديث من رقي في التقنية، إلا أنه تخلف عن الإنسان القديم في الإنسانية.

فالتخصص الفني الدقيق مسألة مهمة، ولذلك اختار مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق التركيز على مجالات اثني عشرة، هي السياسة والطب الحيوي والتغذية والعمالة الوافدة وحقوق الإنسان والاقتصاد والفن والتربية والتعليم ومنهجية الأخلاق والبيئة وقضايا المرأة والرجل وعلم النفس والإعلام.

لكن التخصص الدقيق لا يعني الانغلاق، ولا يكفي لتحقيق التوازن المنشود، ولذلك رام المركز إنشاء مقاربة متعددة التخصصات، بل عابرة للتخصصات، تسمح بتناول الموضوعات باعتبار مختلف أبعادها، وذلك في سائر أنشطته، ومنها المؤتمر الذي تشاركون فيه اليوم، حيث يجتمع في كل محور من محاوره الأربعة علماء وأكاديميون وناشطون متخصصون في العلوم الشرعية وفي المجالات المعنية.

وبجانب المؤتمر الدولي السنوي، ينظم المركز سنويا أربعة ندوات بحثية متخصصة على منوال هذه المنهجية، يجتمع فيها أربعة من علماء الشريعة وأربعة من العلماء المتخصصين في مختلف المجالات على مدار ثلاثة أيام متتالية لمدارسة الإشكاليات الكبرى في المجالات البحثية الاثني عشر التي يُعنى بها المركز.

ويشتغل المركز على مشاريع بحثية في كل مجال من مجالاته، يسعى من خلالها لبناء منظومة أخلاقية وتشريعية في كل هذه المجالات تكون مرجعا للمتخصصين فيها وخدمة للبشرية جمعاء.

وفي الختام أسأل الله تعالى أن ينفع بهذا الجهد، وأن يجعله خالصا لوجهه الكريم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.

أضف تعليقاتك

Your email address will not be published*

إضافة تعليق جديد

Restricted HTML

  • وسوم إتش.تي.إم.إل المسموح بها: <a href hreflang> <em> <strong> <cite> <blockquote cite> <code> <ul type> <ol start type> <li> <dl> <dt> <dd> <h2 id> <h3 id> <h4 id> <h5 id> <h6 id>
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • Web page addresses and email addresses turn into links automatically.

اشترك في نشرتنا الإخبارية

إدارة اشتراكاتك في الرسائل الإخبارية
اختر نشرة أو أكثر ترغب في الاشتراك فيها، أو في إلغاء اشتراكك فيها.
حتى تصلكم رسائل بآخر فعالياتنا وبمستجدات المركز

عنوان البريد الإلكتروني للمشترك

Copyright © 2011-2024 جميع الحقوق محفوظة مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق