الطب النبوي والرعاية الصحية: نظرات متأنية في التراث للجمع بين تدبير البدن وسلامة النفس والروح

20 الاثنين 2025

د. محمد غالي

بعد طول نظر وتَقصٍ في كتب الطب النبوي ونقاش مستفيض مع فريق المؤيدين المتحمسين، وفريق المتشككين المعارضين، للعلاجات الواردة في هذه المصادر، أود أن أطرح بعض الأفكار على بساط النقاش، متطلعا إلى تبادل للآراء والرؤى مشفوعا بالحجج والبراهين وبعيدا عن العواطف والأهواء. وأؤكد على أن الطرح الذي أتبناه هنا هو أفضل ما انتهيت إليه حتى تاريخ كتابة هذه السطور، ويبقى الباحث دائما منفتحا على تعديله وتنقيحه، بل وتغييره، متى ما ظهر له من الأدلة .والحجج ما يستوجب ذلك

الطب النبوي ميدانا للتصنيف والكتابة

تتجلى أحد مظاهر بشرية النبي محمد- صلى الله عليه وسلم- في تقلبه يبن العافية والسقم وأن بدنه الشريف كانت تعتريه حالات الصحة والمرض كما كان الأمر بالنسبة لأهله وأصحابه. ولذلك نجد كتب السنة ومدونات الحديث زاخرة بما ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في أمر الطب والتداوي. وقد خصَّ بعضها، كصحيحي البخاري (ت. 256هــ/870م) ومسلم (ت. 261 هــ/875م)، أبوابا مستقلة للأحاديث المتعلقة بهذا الموضوع. 

وقام بعض العلماء لاحقا بجمع هذه الأحاديث في تصنيف مستقل، ولكن دون شرح أو تعليق يذكر من صاحب التصنيف، مثل أبو بكر بن السني ( 364هــ/ 974م) وأبو نعيم الأصبهاني (ت. 430 هــ/1038م). 

ثم انتعش التصنيف في موضوع الطب النبوي وصار لونا مستقلا من ألوان التأليف والكتابة العابرة للتخصصات (interdisciplinary) بظهور كتب مهمة وضع بعضها أطباء لهم دراية بالعلوم الشرعية، مثل موفق الدين البغدادي (ت. 629هـ/1231م) وابن طرخان الحموي، المعروف بعلاء الدين الكحَّال (720هــ/1320م). وقد وصل التأليف في هذا اللون من الكتابة ذروته في النضج على يد بعض علماء الحنابلة من تلامذة شيخ الإسلام ابن تيمية (ت. 728هــ/1328م)، على رأسهم ابن القيم (ت. 751هــ/1350م) إلى جانب الذهبي (ت. 748هـ/1348م) وابن مفلح (ت. 763هــ/1362م). وتتابعت مصنفات الطب النبوي على مر القرون التالية، وإن اقتصرت معظمها على جمع وتدوين ما ورد في كتب السابقين، حتى خلت جلها من أية إضافات تذكر.

وفي عصرنا الحديث، لا يزال سوق الكتابة والتأليف في موضوع الطب النبوي رائجا، دائرا بين كتابات جاده بعضها لأطباء، مثل د. محمد علي البار ود. حسان شمسي باشا وبعضها لعلماء الشريعة مثل د. محمد سليمان الأشقر (ت. 2008)، وبعضها لنقاشات مؤسسية جمعت بين الأطباء والفقهاء في إطار الاجتهاد الجماعي مثل المؤتمر العالمي الرابع للطب الإسلامي المنعقد عام 1986، هذا بالإضافة لمنشورات كثيرة أقرب ما تكون إلى كتب صفراء، لا تسمن ولا تغني من جوع.

العودة لأمهات كتب الطب النبوي لتفكيك الجدليات المعاصرة

انتهي بنا المطاف في يومنا هذا إلى نقاش شديد الاستقطاب أحيانا بين فريقين: أحدهما يرى أن ما ورد في كتب الطب النبوي هو من شريعة الإسلام التي لا ينكرها إلا جاهل أو جاحد وأن العلاجات الواردة فيها هي ملاذنا للخلاص من فساد واحتكار شركات الأدوية الغربية؛ بينما يرى الفريق الآخر أن هذه المصنفات ماهي إلا أفكار كلاسيكية تجاوزها الطب الحديث وعفى عليها الزمان، فلا يوجد ما يسوغ الرجوع إليها بحال. 

نحاول في هذه العجالة إثبات تهافت الإطلاقات والعموميات التي يتشبث بها كل من الفريقين، وضرورة العودة إلى قراءة أمهات المصنفات في الطب النبوي بعمق وتجرد، ليتجلى لنا أساس الإشكال ونستخلص أهم الدروس المستفادة، فنقول وبالله التوفيق وعليه التكلان: 

يبدو أن أساس الإشكال في النقاشات المعاصرة يكمن في أن كلا الفريقين اختزل كتب الطب النبوي وكأنها لم تتضمن سوى علاجات لبعض أمراض البدن. غير أن النظرة المنصفة لهذه المؤلفات والتفحص فيها يكشف عن قِصَر هذه الرؤية ومجانبتها للصواب. فكتب الطب النبوي لم تتعامل مع ميدان الطب وتدبير البدن ورعايته بهذه السطحية، بل قدمت رؤى متعمقة تتجاوز الجانب العلاجي أو الإكلينيكي للطب، لتشمل ارتباطه بفهم طبيعة الإنسان المركبة، ودور البارئ سبحانه وتعالى في حياة البشر بوصفه خالقًا ومدبرًا لدنيا الأسباب، فضلاً عن الأخلاق الحاكمة لممارسة الصناعة الطبية، وفق تعبير ابن طرخان الحموي، وغيرها من الجوانب والأبعاد الدينية والشرعية التي لا تنفك عن ميدان الطب والتداوي، ولا غنى لأهل هذا الميدان عن معرفتها، وهو ما يُعرف اليوم بحقل الأخلاق الطبية والحيوية.

يلمس الدارس لمؤلفات الطب النبوي، على تعددها وتنوعها، الإلحاح على فكرة أن طبيعة الإنسان تتجاوز "الجسد" الظاهر، وأن جوهر الإنسان يتألف من مكونات أخرى، أهمها النفس والروح، وأن هذه الأبعاد المختلفة —الجسدية والنفسية والروحية—تتشابك وتتكامل لتحدد مفاهيم الحفاظ على حال الصحة، عند وجودها، واستردادها، إن فقدت، بعلاج الأمراض التي تطرأ على الجسد. ومِن أبرز مَن شرح هذه الفكرة الإمام ابن القيم، حيث ذكر أن الطب النبوي يشتمل على نوعين من الطب: 

(الأول) هو طب الأبدان أو طب الطَّبَائِعِيِّينَ، والذي أسماه بعضهم طب الأمزجة، وهو غالب طب الأمم على اختلاف أجناسها، كما ذكر ابن القيم. ويعتمد هذا الطب على الأدوية الطبيعية أو الحسية لعلاج أمراض البدن، وقد ذكر موفق الدين البغدادي قائمة بهذه الأدوية والأغذية مرتبة على حروف المعجم أ بدءًا بالأترُجّ وانتهاءً باليقطين. أما (الثاني) فهو طب القلوب والأرواح، الذي يصف الأدوية القلبية والروحانية، مثل قوة القلب واعتماده على الله، والتوكل عليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والصدقة، والصلاة، وقيام الليل، والدعاء، والتوبة، والإحسان إلى الخلق. وقد ذكر علماء الطب النبوي أوجها متعددة للارتباط بين هذين النوعين من الطب وضرورة التكامل بينهما، ومنها: 

  • فاعلية الأدوية الحسية المستندة إلى اتباع سنن وقوانين مطردة في البدن، والاعتماد على تجارب ناجحة، لا تتخلف في الأدوية القلبية والروحانية،  حيث يقول ابن القيم عنها "وَقَدْ جَرَّبْنَا نَحْنُ وَغَيْرُنَا مِنْ هَذَا أُمُورًا كَثِيرَةً، وَرَأَيْنَاهَا تَفْعَلُ مَا لَا تَفْعَلُ الْأَدْوِيَةُ الْحِسِّيَّةُ" وبالتالي فاستعمالها "جَارٍ عَلَى قَانُونِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لَيْسَ خَارِجًا عَنْهَا، وَلَكِنَّ الْأَسْبَابَ مُتَنَوِّعَةٌ".

  • إذا توثقت الصلة بين قلب العبد وربه، خالق الداء والدواء، ومدبر الطبيعة ومصرفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى، غير الأدوية التي يتعاطاها القلب البعيد عنه، المعرض عنه. فمتى قويت الأرواح، وقويت معها النفس والطبيعة، تعاونت هذه القوى على دفع الداء وقهره.

  • تصنيف الحالات التي تخرج فيها النفس عن حد الاعتدال، مثل الهم والغم والعشق، ضمن طائفة الأمراض التي ينبغي علاجها والانتباه إلى أثرها على البدن، ومن ذلك "مَنْ كثر همه سقم بدنه".

  • علاج أمراض البدن بالأدوية الحسية ينبغي فيه مراعاة عدم الإضرار بالنفس والروح، ولذلك أطال العلماء النفس في مسألة التداوي بالمواد المحرمة في الشريعة وضوابط الضرورة التي قد تبيح استعمال بعضها على سبيل الاستثناء، فلا يكون علاج البدن بارتكاب الذنوب والمعاصي التي تلحق الضرر بالنفس والروح.

  • الأعمال التي يقوم بها الطبيب أثناء ممارسته لصنعة الطب لا تقع فقط ضمن نطاق المسؤولية المهنية التي تجعله ضامنا للضرر الناتج عن جهل أو تعدٍّ غير مأذون فيه، بل تشمل كذلك التكليف الشرعي أمام الله تعالى، بوصفه واحدا من عباده المكلفين، وباعتبار التطبيب ورعاية المريض أمانة أخلاقية.   

دروس مستفادة: بين موروث الطب النبوي وأفق الطب المعاصر

وتأسيسًا على ما سبق، نوجز أهم الدروس المستفادة على أمل أن تسهم في تضييق الهوة بين الفريقين المتنازعين حول علاقة الطب النبوي بالطب الحديث:

  • تهافت القول بضرورة إقصاء ما ورد في الطب النبوي جملةً وتفصيلاً: من المبالغة القول بأن العودة إلى مصنفات الطب النبوينوع من "الرجعية" التي لا تليق بأمة تصبوا إلى إحراز سبق التقدم في القرن الحادي والعشرين. ذلك أنه لا يوجد طب دون فلسفة حاكمة تؤسس لفهم طبيعة الإنسان وموقع الجسد منها، وهو موضوع هذا العلم. وقد أضحى الطب في عصرنا الحديث صنعة يتدرب عليها الطلاب والباحثون دون من دون إلمام كافٍ بالعلوم غير الطبية التي تنشغل بدراسة "طبيعة الإنسان"، وعلى رأسها العلوم الشرعية إذا ما اعتبرنا دور القيم والأخلاق الإسلامية في حياة المرضى المسلمين وفي المجتمعات المسلمة عمومًا. ومن هنا، نقول لمن يضيق ذرعا بالتطرق إلى الفلسفة الحاكمة للطب من منظور علماء الإسلامي القدامى، إن الدراسات الغربية الحديثة لم تقم بإقصاء الآراء ذات الصلة بفلسفة الطب، والتي تعود لشخصيات تاريخية مثل أفلاطون (ت. 348 ق. م.) وأرسطو (ت. 322 ق. م.) وبقراط (ت 370 ق. م.) وجالينوس (ت. 216 م)، باسم الحداثة، رغم أن هذه الآراء تعود لأزمان وسياقات تاريخية أبعد بكثير من تلك التي عاش فيها علماء المسلمين الذين وضعوا كتبا قيمة في الطب النبوي. كما تؤكد الأبحاث الأكاديمية في مجال الأخلاق الطبية والحيوية على ضرورة إعادة الوصل بين الطب والحقول المعرفية الأخرى التي تعنى بدراسة التصورات الأخلاقية والدينية لطبيعة الإنسان. فالتطورات العلمية الهائلة في مجالات مثل الجينوم، والعلاج الجيني، والخلايا الجذعية تفرض أسئلة وتحديات أخلاقية معقدة لا يمكن معالجتها دون مراجعة شاملة للفلسفات والتصورات الكلية التي تشكل الإطار الحاكم للطب، معرفةً وممارسةً، وما لذلك من تأثير على رؤيتنا للجسد البشري. ومن الضروري الوعي بأن الانتقال من القوالب الطبية التقليدية التي هيمنت لقرون، والمبنية على مفاهيم مثل الأخلاط، والأمزجة، والأسطقسات، إلى القوالب الحديثة القائمة على مفاهيم الخلايا والجينات، يستدعي إعادة النظر في الأسس التي تُبنى عليها مقاربات الطب والأخلاق والتي أشبعتها كتب الطب النبوي نظرا وتحليلاً.

  • تهافت الدعوات المعاصرة بجعل الطب النبوي بديلا للطب الحديث جملةً وتفصيلاً: إن الترويج لهذه الدعوات يتعارض مع حقيقة راسخة في مصنفات الطب النبوي، وهي أن طب الأبدان عموما والأدوية الحسية الواردة في هذه المصنفات لم تذكر كبديل للطب المتعارف عليه في تلك الأزمان وإنما على أنها جزء أصيل منه، وقد أوردها أطباء ممارسون كما ذكرنا سابقا. وتتواتر الدلائل والبراهين على ذلك، ومنها ما روي من سؤال عروة بن الزبير للسيدة عائشة -رضي الله عنهما- عندما تملكه العجب من معرفتها بالطب فسألها عن من أخذته، فأجابته بأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كان رجلا مسقاما وكان أطباء العرب يأتونه فأتعلم منهم"، وفي رواية أخري أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "كَانَ يَسْقَمُ عِنْدَ آخِرِ عُمْرِهِ، وَكَانَتْ تقْدمُ عَلَيْهِ وُفُودُ الْعَرَبِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَكَانَتْ تُنْعَتُ لَهُ الْأَنْعَاتُ وَكُنْتُ أُعَالِجُهَا؛ فَمِنْ ثَمَّ عَلِمْتُ". وهذه الروايات، بعيدا عن قضايا التصحيح والتضعيف في علوم الحديث، فإنها وردت في مصنفات الطب النبوي وغيرها، مما يدل على اعتبار العلماء لها في سعيهم لمعرفة طبيعة الطب النبوي. 

  • إهمال الطب الحديث وترك الاستفادة من مخرجاته النافعة أمر مستنكر عقلا وشرعا: الإعراض عن إحراز قدم السبق في الطب الحديث وعدم تعظيم الاستفادة من التراكم المعرفي والتجارب العملية عبر القرون لا يتعارض فقط مع التفكير العقلي والمنطقي السليم، يل يتناقض أيضا مع هدي النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- الذي تداوى في مرضه وحث أهله وأصحابه على التداوي باستشارة أحذق الأطباء. وقد عَدَّ الإمام ابن القيم، وهو من هو دفاعا عن الطب النبوي، هذا الهدي النبوي أصلا لمبدأ عام، وهو الاستعانة في كل علم وصناعة بأحذق وأفضل من فيها، مقرراً أن هذا من المبادئ التي قد فطر الله عباده عليها، فتوافقت عليها الشريعة والفطرة والعقل.